info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى "قصص غريبة وأساطير عجيبة" الجزء الثاني

الدكتور داهش

 

                                    قصص غريبة

                                    وأساطير عجيبة

 

                                      الجزء الثاني  

 

                                                

         مقدّمة

       بقلم الدكتور داهش

 

وهذا هو الجزء الثاني من كتابي قصص غريبة وأساطير عجيبة ، وقد أسميته " 35 قصّة كتبها الدكتور داهش "، وهي متمّمة للجزء الأوّل .

فالقصص التي ذكرت فيها حوادث التقمّص ليست خياليّة ، فأنا أؤمن بالتقمّص ايماني بوجودي ، أي أنّ الانسان يتكرّر مجيئه الى الأرض ليتطهّر من أواشابه ويتخلّص من أوزاره .

والتوراة تذكر في " سفر الخروج " أنّ القضاة كانوا يحاكمون الحجر اذا سقط على رجل فأماته ، ويحكمون عليه بالتحطيم حتى يصبح كالدقيق ، ثمّ يذرّون رماده في الفضاء ، كما كانوا يحكمون على البهيمة اذا ضاجعها رجل بعقوبات مختلفة كما يحكمون على الفاعل .

فكيف يمكن أن تحاكم بهيمة غير عاقلة ، وكيف يحاكم جماد ، ويحكم عليهما لو لم يؤمن القضاة بأنّهما مسئولان عن عملهما مثلما يحاكم أيّ ابن حوّاء لأنّه يفهم مسئوليّته عندما يقدم على عمل غير شرعيّ فيحاكم ويحكم عليه بعقوبة شديدة أو مخفّضة بالنسبة لعمله الاجراميّ .

والسيّد المسيح مؤسّس الديانة المسيحيّة سأله تلاميذه عن ايليّا النبيّ قائلين له انّ النبوءات تؤكّد أنّ ايليّا النبيّ سيعود الى الأرض ، ثانية ، فمتى تكون عودته ؟  فأجابهم انّ ايليّا النبيّ قد عاد الى الأرض ،  وهو يعرف ، الآن ، باسم يوحنّا المعمدان الذي قطع رأسه الحاكم هيرودس الباغية بطلب من هيروديا الفاجرة – ابنة زوجته التي كان يندّد يوحنّا المعمدان بزواج هيرودس بها لأنّها كانت قرينة أخيه .

ومن كلام المسيح على يوحنّا ، بعدما سأله تلاميذه عنه قوله لهم :" وان أردتم أن تقبلوا فهذا هو ايليّا المزمع أن يأتي " ( متّى 11: 14 ) .

وسأله تلامذه أيضا عندما شفى الضرير فقالوا له : يا سيّد ، من أخطأ أهذا أم أبوه حتى ولد أعمى ؟ أجاب يسوع : لا هذا ولا أبواه . ولكن لتظهر أعمال الله فيه " ( يوحنّا 9 : 1-3 )

واليهود كانوا يؤمنون بالتقمّص في عهد المسيح . والدليل على ذلك ما ورد في الانجيل :" وقال آخرون انه ( أي المسيح ) ايليّا وآخرون انه نبيّ . فلمّا سمع هيرودس قال : ان يوحنّا الذي قطعت أنا رأسه قد قام من بين الأموات " ( مرقس 6: 15-16 ).

ثمّ أليس من الظلم العظيم أن يولد طفل ضريرا أو كسيحا أو مصابا بأيّة عاهة ...فما ذنبه ليولد بهذه العاهات الرهيبة اذا كان لم يرتكب وزرا ؟ وهل يقبل الله بظلم عظيم كهذا ؟ !

ولكنّنا عندما نعرف بأنّ هذا الطفل الضرير ولد أعمى لأنّه ارتكب شرورا جسيمة جعلته يولد ضريرا أو كسيحا كاستحقاق لما ارتكبه في تقمّصه السابق لتجلّت لنا عدالة الله جلّت قدرته .

اذا على العالم المسيحيّ أن يؤمن بالتقمّص وعودة المرء مرارا وتكرارا حتّى يتطهّر من أوشابه ، ويتنقّى من آثامه ، ويذهب بعد ذلك الى عالم بعيد سعيد ، مخلّفا وراءه الأرض وما تزخر به من شقاء دائم وشرور لا نهاية لها . والدّين الاسلاميّ يذكر بآيات القرآن الكريم عن التقمّص ، فيقول في سورة البقرة ، آية 28 :  ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم ثمّ اليه ترجعون ) .

وقول في سورة الانفطار ، آية 6-8 ( يا أيّها الانسان ما غرّك بربّك الكريم الذي خلقك فسوّاك فعدلك ، في أيّ صورة ما شاء ركّبك ) .

وفي سورة غافر ، آية 11 : ( قالوا ربّنا أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا ، فهل الى خروج من سبيل ؟ ) .

وفي سورة الواقعة ، آية 6 : ( نحن قدّرنا بينكم الموت ، وما نحن بمسبوقين على أن نبدّل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ) .

وفي سورة المائدة ، آية 60 : ( قل هل أنبّئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله ، من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ، أولئك شرّ مكانا وأضلّ عن سواء السبيل ) .

والديانة البوذيّة تؤكّد أمر التقمّص تأكيدا تامّا . وبوذا مؤسّس البوذيّة يذكر أنّه تقمّص مرارا وتكرارا ، وفي أحد تقمّصاته كان أرنبا وقدّم نفسه طعاما للأسد .

والهنود ترتكز ديانتهم الهندوسيّة على التقمّص . لهذا نراهم عندما يسيرون في الغابات يمسكون بأيديهم مراوح من الريش يهوّمون بها أمامهم لكي تفرّ الحشرات من طريقهم خوفا من الاضرار بها ، لأنّهم يعتقدون بأنّ هذه الحشرات ما هي الاّ مخلوقات أساءت بسلوكها عندما كانت بشرا ، فاستحقّت أن تولد حشرات أو حيوانات أو طيورا وما شاكل ، كلّ منها تحوّل الى نوع من الأنواع بالنسبة لسلوكه في حياته الدنيويّة السابقة .

ومنذ عامين نشر عالم اسمه كليف باكستر ( CLEVE BACKSTER )   ، وهو أكبر اختصاصيّ أمريكيّ بصنع الآلات الالكترونيّة العلميّة الدقيقة المستخدمة للتمييز بين الصدق والكذب ، فأعلن في صحف الكرة الأرضيّة أنّ النبات يفكّر ويشعر كالانسان تماما ، ويفرح ويتألّم ويتذكّر ، ويتعاطف مع الذين يحبّونه ، ويتحسّس الأخطار المحيقة به ، ويدافع عن نفسه ضدّها ، كما له من وسائل الاتّصال الدقيقة الخفيّة ما يدرك به أفكار الناس .

ويقول هذا العالم ( باكستر ) انّ الزهرة تعرف اذا كان الشخص سيقتطفها ، واذ ذاك يغمرها الخوف ، وقد سجّل ارتعاشاتها بآلته التسجيليّة الالكترونيّة . فهذه الآلة تسجّل أحاسيسها ومشاعرها ، فالخوف يسجّل ارتجاجات الخوف ، وكذلك سائر احساساتها وأحوالها الباطنيّة ، من فرح وترح ، ونوم ويقظة وخلافه ...

وقد اعتبرت الأوساط العلميّة اكتشافه هذا من أعظم الاكتشافات التي ستؤثّر تأثيرا عميقا في تفكير البشر ونظرتهم الى محيطهم المغمور بالأسرار الخفيّة .

ومّما يؤكّد التقمّص مختلف أنواع الأشجار ذات الأثمار الجنيّة التي نقتطفها ثمّ يذهب موسمها ، فاذا بنا نراها في فصل الشتاء وقد تعرّت من الأوراق بتاتا ، ولم يبق منها سوى الأغصان الجرداء ، ثمّ تعود ثانية فتحمل الأثمار . ويتتالى هذا الأمر في كل عام ، سواء أكانت شجرة أم نبتة ، الخ ...

أليس هذا تقمّصا ؟ أوليست عودة الأثمار أو النباتات أو الأزهار هي العودة ، ثانية ، الى عالم الوجود ؟

فلماذا نصدّق بهذا ولا نصدّق بعودة البشر بعد موتهم وتقمّصهم ثانية وثالثة ورابعة ، الخ...لكي تتاح لهم فرصة الرقيّ بأرواحهم وتغلّبهم على أوشابهم بتكرار تقمّصاتهم المتتالية .

والتقمّص هو رحمة من الباري عزّ وجلّ لتتاح لنا الفرصة – بتكرار عودتنا الى الأرض – لأن نتخلّص من شرورنا ونرتقي بأرواحنا .

وفي صباح 22 كانون الثاني 1971 طالعت في عدد " الديار " الأسبوعيّ ( ص 44 ) مقالا طويلا عن الأشجار والنباتات أجتزىء منه هذا المقطع :

" وقديما كان البدائيّون يعتبرون الأشجار أجسادا لآلهة يعبدونها ويلوذون بها في الشدائد .

وكانوا يعتقدون أنّ الأشجار تعقل وتتخاطب بلغة خاصّة فيما بينها . ولا عجب ، فنحن ، حتى الآن ، ننصح بارواء الزهور والأشجار لأنّها ( روح ) ، ونؤدّب من يقتطع جزءا منها ، لأنّ ذلك في نظرنا ( جريمة ) .

ولا تحسبنّ هذه العادة وقفا على الشرق والمسلمين . فالغرب عرف مثلها ، وقدّس الشجرة كتقديسنا لها . حتّى يقال أنّ السيّدة العذراء مريم قد جاءها المخاض تحت شجرة ، وانّ المسيح نزل بصحبة أمّه وعاش تحت شجرة ، وانّ ما يرمز اليه المسيح من قوله – حين أمسك بالخبز وأكل منه –" هذا لحمي " ، انه يقصد ما للشجرة من روح . ولهذا احتفلوا بشجرة الميلاد ورأس السّنة . وقد تمّت بيعة الرضوان بين المسلمين والرسول تحت الشّجرة التي قيل عنها بسبب ذلك انّها " الشجرة المباركة ".

والبوذيّون يعتقدون أن يوذا الحكيم قد تلقّى تعاليمه عند شجرة ، وجلجامش بحث عن الخلود في نبتة الحياة .

والديانة الطاوية تقول لأهلها : خذوا الحكمة من الشجرة الخ ، الخ ....

ونظريّتنا في التقمّص هي الآتية :

انّ الأديان قاطبة تقول ، بل تؤكّد أنّ الانسان يولد على هذه الأرض ، وفي أثناء حياته الأرضيّة يقوم بأعمال صالحة وأخرى طالحة .

وعندما يتوفّاه الله يذهب الى النعيم اذا كانت أعماله صالحة ، أو الى الجحيم اذا كانت أعماله شرّيرة .

ويعمّر الانسان 70أو 80 أو 90 عاما . ومن هذه الأعوام يذهب من عمره 35 سنة يقضيها بالنوم ، و4 سنوات بالمرض ، و15 عاما هي سنوات الطفولة غير المسؤولة . اذا الأعوام القليلة الباقية من حياته هي التي يكون المسؤول عنها بالنسبة لسلوكه .

ومن المؤكّد أنّه لا يستطيع أن يكون سلوكه مثاليّا اذ انّ دنيانا حافلة بشتّى المغريات التي تسقطه في شراكها التي لا ينجو منها ناج ، فالمرأة له بالمرصاد ، تستهويه فيندفع في خضمّ الشهوات العارمة ، وحبّ المال يكبّله بكبوله التي لا تقاوم فيستعبده ، والعظمة ، وحبّ الوجاهة ، والكبرياء الخ.... جميع ما ذكرت تقوده الى مهاوي الهلاك المؤكّد .

اذا بالنسبة لما أكّده مؤسّسو الأديان سيذهب البشر جميعهم الى جهنّم النار المتّقدة ، ويمكثون مخلّدين فيها من دهر الى دهر ، ومن أزل الى أبد . وهذا أمر غير جائز اطلاقا ، وظلم رهيب ، فرحمة الله عظيمة وعميقة . لهذا أعطانا فرصة اصلاح أنفسنا والارتقاء بأرواحنا ، فمنحنا نعمة التقمّص . وربّما أعطانا ايّاها 6000 مرّة نعود فيها الى عالم الأرض ، لنتغلّب في خلال هذه التقمّصات الألفيّة على ضعفنا البشريّ والارتقاء بأرواحنا لنبلغ جنّة النعيم .

ففي خلال هذه التقمّصات ال6000 ممكن لأيّ بشريّ أن يحسّن سلوكه في خلال دوراته الحياتيّة وتكرار ذهابه وايابه . فاذا تكرّر مجيئه 6000 مرّة ، وبقيت أعماله شرّيرة ، اذا يستحقّ ، اذ ذاك ، أن يخلّد في جهنّم النار الخالدة بنيرانها ، وهذا يكون عدلا وحقّا .

هذا هو ملخّص نظريّة التقمّص أعرضها على القرّاء سواء أصدّقوها أم كذّبوها ، فكلّ مخلوق حرّ بمعتقده سواء أكان مصيبا أم مخطئا . واني أعلن على رؤوس الأشهاد ايماني بالتقمّص كايماني بحقيقة وجودي ، والسلام .

 

                                                           

                                                       الدكتور داهش

                                     بيروت ، الساعة 8 من صباح 21/1/1979

 

 

 الملك الكلب

 

كان كلبا هزيلا ، ملأت القروح جسده ، والطفوح الجربيّة جرّدته من شعره ، فاذا هو عار من كسوته التي تردّ عنه لذعات الذباب المؤذية .

وما يكاد يقترب من القرية حتّى يقذفه الأولاد بالحجارة خوفا من أقذاره الكريهة . وقد أصابه أحدهم بعينه ففقأها ، فسال دمها ممتزجا بقيوح قروحه النتنة . وقد فرّ مذعورا تلاحقه حجارة كلّ من يمرّ بقربه .

وعندما يعضّه الجوع بنابه الذي لا يرحم يلتجىء الى مزبلة القرية المنزوية في أقصى مكان بعيد عن العمران ، باحثا عن عظمة أو كسرة من خبز جافّة تردّ عنه غائلة الجوع الكافر .

ولسوء حظّه العاثر بينما كان يحاول التهام رجل دجاجة ملقاة في المزبلة ، وكان قد سبقه اليها جرذ ضخم ، نشبت بين الكلب والجرذ معركة ضارية قضم فيها الجرذ منخر الكلب فعوى ألما ، وملأ عواؤه تلك الضاحية المنعزلة ، وفرّ مذعورا وكأنّ أبالسة الجحيم تطارده ، والدماء الغزيرة تسيل من أنفه المقضوم .

وانكفأ على وجهه في حفرة مملوءة بالماء الآسن يريد أن يشرب ، ولا ماء في تلك الجهة ، فاختلطت دماؤه بالماء الملوّث ، فراح يلعق الماء الكريه بلذّة كبرى ، والدموع تتسايل من عينيه اللتين تكادان لا تظهران لكثرة القروح حولهما .

وانقضى فصل الخريف ، واحتلّ فصل الشتاء بجيوشه الكثيفة ، وراحت بروقه تومض ، ورعوده تقصف ، ورياحه تعصف ، وأمطاره تتساقط  بغزارة عظمى .

ثمّ ابتدأت الثلوج بالانهمار ، فغمرت البطاح ، والبرد اشتدّ أمره ، والزمهرير انقضّت جحافله ، فسادت وعبثت ما شاءت لها السيادة والعبث ، وهامت الذئاب تريد طعاما .

وكان الكلب الأجرب بأسوأ حالة وأتعس عيش مرير ، فهو أبديّ الفرار من الشوارع المطروقة والمساكن العامرة بالسكّان ، فهو يكاد لا يظهر حتّى تطوّقه العصيّ لاعبة على ظهره ، قارعة بعنف بطنه ، كما كانت الحجارة تنصبّ عليه انصباب الحمم ، لهذا فهو لا يجرؤ على الذهاب حيث يكون الناس .

وقد اتّخذ له مأوى غارا بلحف جبل ، يغادره الى المزبلة عندما يعضّه الجوع الذي لا يرحم . وفي ليلة ثلجيّة اكتست منها الجبال والأودية والطرقات فأصبحت بحلّة بيضاء ناصعة ، هامت الذئاب باحثة عن فريسة ، فاذا بها تجد هذا الكلب قابعا بغاره ، فهاجمته ومزّقته تمزيقا مروّعا . وبعد لحظات ، أصبح كومة من العظام مجرّدة من اللحم تماما .

انّ هذا الكلب التعيس كان ملكا آمرا ناهيا ، ففي كلمته موت أو حياة . وقد سبق له ، عندما كان ملكا متربّعا على عرشه الأمبراطوريّ ، أن ظلم أحد الشبّان بعدما استهوته زوجته الفاتنة ، فاستلبه ايّاها . ولم يكتف بهذه الجريمة الكبرى ، بل أمر ، أيضا ، أن يلقى للذئاب الجائعة وهي في دهاليز قصره . فألقي هذا الشاب المسكين بينها فافترسته حيّا .

وها قد نال جزاءه العادل اذ تقمّص كلبا مريضا تعاف الاقتراب منه حتى الكلاب لقذارة الرائحة المنبعثة من قروحه النتنة .

ثمّ افترسته الذئاب مثلما سبق له فأمر بالقاء الشابّ الى جمهرة الذئاب .

انّ الله جلّت قدرته يمهل ولا يهمل . وأخيرا فانّه يجازي كلّ مخلوق بنسبة عمله ، فما تزرعه ايّاه تحصد .

لقد زرع هذا الملك شرّا . فاذا هو كلب نجس مزّقته الذئاب اربا اربا . وما ربّك بظالم عباده ، انّما هم لأنفسهم ظالمون .

 

   الولايات المتّحدة الأمريكيّة ، ابتدأت كتابتها في الساعة 4،30 بعد ظهر 18/1/1978 وأنجزتها الساعة الخامسة