info@daheshism.com
وهم الحياة وبهارجها,  الفناء والعدم:

 

حياتنا التافهة

عندما قذف بي العدم إلى عالم الوجود، كنتُ ذرةً في عالم الهناء والخلود.

في تلك الدقيقة، كتب عليَّ الشقاء والعناء في خضمّ هذه الحياة.

بين الآلام المُمضَّة ترعرت، وفي أحضان الشقاء والكرب العميق كانت نشأتي، إلى أن أكملتُ العاشرة.

فمنذ ذلك التاريخ، أبتدأت المعرفة الدنيويّة تنطبع في أماقي، واتخذتُ عادات البشر لي قانونًا، أسير على ما يسيرون عليه. ونُقِشَ أيضًا في نفسي الحزنُ والفرح، وكلُّ العوامل البشريَّة الأخرى التي لم أكن مقيَّدًا بها قبل مجيئي إلى أرض الفساد. وحتى أكملتُ العشرين بقيتُ في كدٍّ وجدٍّ وشرور وآثام لا عدَّ لها.

وكانت كلُّ  هذه الشرور خاضعةً بأكملها للقانون الأرضي الذي يسيرُ عليه الجسد الذي هو غلافٌ للروح.

كنتُ قبل مجيئي إلى الأرض لا أعرفُ عنها شيئًا البتَّة، لأن كل ما قمتُ به كان من مطالب الجسد المادّيّ لا الروح العلويّ. إذًا لم قضت الإرادة بمجيء الصلاح الطاهر ودمجه في الطلاح الفاسد؟

فكرتُ كثيرًا دون أن يفتح عليَّ بفهم ذلك، فتركُتُه إلى أن تأتي ساعة معرفتي.

عشراتُ السنين تصرمت، وإذا بظهري قد تقوَّس من مرور السنين التي حملتُها مُرغمًا.

فيا لها من أعوامٍ تأتي مسرعةً كالبرق الخاطف. إذ ذاك اعتمدتُ رأسي بيدي، ورحتُ أهيم في بوادي التخيُّلات، علَّني أفوز بحلٍّ مقبول.

ولكنني وأأسفاه ! عدت دون نتيجةٍ منطقية. إنَّ الحياة يا أخي ليست سوى وهمٍ باطل وظلٍّ زائل. فالأنهار الجارية وهي تصطخب، والبحار الثائرة وهي تزمجر، وكل ما في الكون من صاخب وصامت، سيعتريه الذبول فالأفول. فإذا ما ولت بعد ذلك صلةُ الحياة، وغمرت الكائنات شوكةُ الموت المُسيطر، من تلك النقطة فقط تبتدئ حقيقة معرفة الكائنات والحياة التي كنا نحياها سابقًا، فنعلم مبلغ الخطأ الذي كان جسدنا المادي يحاول إقناعنا به كحقيقة واقعة، لأنه منها وهي منه؛ وهو عندما يتلاشى نبتدئ نرى بعين الحقيقة كل أخطائنا الماضية، فنأسف لجهلنا الصارخ، ولكن لا نفع في الندم.

هنا: ننتشي برحيق الغبطة الخالدة الأزلية، وننعم في الطهر والنقاء الناصعين، وننشد أهازيج النصر مع الملائكة الأطهار لانتصارنا على المادة ورذائلها الخسيسة. هناك، حيث لا مكر ولا حسد، ولا كبرياء ولا دناءة، ولا سفالةً ولا جريمة، ولا بغض ولا نقيصة، بل حب شامل، وسرور كامل، إذ يظللنا العلي القدير، ويرعانا بحنانه اللانهائي. ولكن، متى يأتي ذلك اليوم السعيد؟ وهل يجوز لنا الاندماج مع الملائكة الأطهار، قبل أن نكون قد كفرنا عن أعمالنا الشريرة تكفيرًا ينيلنا ما نصبو إليه؟

كلا، بل يجب علينا التكفير أولاً، وعندها نستحق أن ننعم بالسعادة الخالدة.

ومن أعالي السماوات، تتراءى لنا من خلال الأزمان السحيقة صورُ أعمالنا الماضية كغمامةٍ سوداء مُرعبة، تذكرنا بما كنا نقوم به عندما كانت المادةُ هي العامل المُتسلَّط على عقولنا ونفوسنا. فلنضرع إلى الله تعالى أن يرشدنا إلى الطريق القويم، كي نقوى على محاربة الأدران والشرور، فنقرب وقت خلودنا، حيثُ السعادة مع الأتقياء الأنقياء، وإلا فالويلُ ثم الويل لنا إن بقينا بعيدين عن جادًّة الصواب والحقّ واليقين.

داهش.

                                عام 1933