
يا هذا
لقد تمعنتُ في معانيكَ ومراميك،
وخبرتُ ظواهركَ وخوافيك،
وعرفتُ جميع الأحداث التي أصابتكَ وانتابتكَ،
واطلعتُ على حالتي سرائكَ وضرائكَ على السواء؛
ولكني عرفتُ، في النهاية،
عرفتُ، يا هذا، بأنكَ لستَ أهلاً لثقتي وحناني، وعطفي وإيماني،
إذ إنكَ كشفت حقيقة نفسك بنفسك!
فإذا بك: عارٍ أمامها!
بارزٌ لكل ذي عيني مُلطخًا بالخزي، ملوثًا بالعار!
فيا للنذالة! ويا للانحطاط!
بل يا لِغرَّتي وجهالتي!
أنا الغِرُّ الجاهل الذي وَثِقَ بكَ،
فكانت ثقتي في غير محلّها،
وكان بّذْري بوادٍ غيرِ ذي زرْع!
لقد اجتاحت الحقيقةُ المرةُ كلَّ ما كان لي بكَ من ثقة،
وما أنطتُ فيكَ من آمال،
فهشمته تهشيمًا، وحطمته تحطيمًا!
وقد كان ما أردتَ،
فلُتردِ الآن ما يكون:
فستُلاقي شرَّ ما عملتَ، وستجني جزاءَ ما صنَعَتْ يداك.
أمّا أنا... أنا الغرُّ المسكين
الذي كنتُ أعطفُ عليك، وأهفو إليك.
أنا... يا هذا! لقد أمحى كلُّ ذلك،
وفترتْ تلك العواطفُ التي كنتَ تعهدها زخارةً جياشة،
متجهةً إليكَ اتجاهًا مُخلصًا!
أثبتَ أنت، وأثبتِ الأيامُ أنني كنتُ فيه مُخطئًا،
وأنكَ كنتَ لا تستحقُ في حالٍ من الأحوال.
وحلَّ مكانَ تلك العواطفِ النبيلةِ شعورٌ
أسميه أنا شعور "اللامبالاة" و"عدم الاكتراث"
أجل، ما عدتُ أبالي بكَ، ولا أكترثُ لك ولأعمالك!
وحسبي ما محضتُكَ إياه من نصحٍ وإرشاد،
وحَسْبي ما ألقيتُ عليك من دروسٍ
في تهذيبِ النفس، وتقويم الخُلُق،
وحَسْبي جزاءً على كل هذا:
تلك الصفعةُ الشديدةُ التي نالتني منك، بغيرِ جريرةٍ أو إثم!
وهل كان يُرجى منكَ ومن أمثالك غيرُ ما كان؟!
بل، هل كان يُنتظرُ أنكَ ستكونُ خيرًا مما أنت؟!
لا أظنُّ.
ولكنه درسٌ مفيدٌ لن أنساه لكَ، يا هذا.
وهو سيكونُ قائدي الى محجةِ الحق، وجادةٍ الصواب،
في مستقبل أيامي السوداء.
وأُفٍّ لكِ، يا دنيا!
وتُبًّا لما تحوين من أمانيَّ وآمال!
أنتِ لفظٌ لا معنى له،
بل إنني لأُحسُّ بكِ (كُتلةً) من حقارة، و(كومةً) من هباء!
فواأسفاه! ووالوعتاه! وواحرَّ قلباه!
لقد ذهبت المروءة! وراح الشَرفُ!
وتلاشت الاستقامة! وتبخَّر الحياء!
وحل الشرُّ محلَّ الخير، والرجسُ محلَّ الطهر،
والسيئاتُ محلَّ الحسنات!
ويا لَهَفي على آمالٍ كنتُ أُعلّقُها عليكَ،
وعلى أمانيَّ كنتُ أُنيطُها فيكَ!
ومهما امتدَّ بي حبلُ العمر، فإنني سأظّلُّ ذاكرًا مهزلتكَ هذه،
ولن أنساها ما حييتُ!
وقد صرتُ أَفهمُ أن بعضَ تلك الأعمال التي تصدرُ من بعض الناس
مطبوعةٌ بطابع الخير،
إنْ هي إلا وليدةُ رغبةٍ مُلِحَّةٍ يُمُرها أحدّهم
توصُّلاً لمنفعةٍ شخصية، ومصلحةٍ خاصة؛
فهي السمُّ في الدسم، والنيرانُ في الرماد!
وماذا يعني؟!
- قَسَمًا بالعليِّ الأعلى،
إنه ليس من (مخلوقٍ) على هذه (الكرة) الحقيرة
يستحقُّ أن ينالَ العفو والعفران،
أو الرحمةَ والرضوان!
ولَسوف يُلاقي جزاءَ ما ارتكبه من ذنوب وآثام،
وما قام بهِ من شرورٍ جسام، جزاءً وفاقًا
لا مفرَّ منه،
ولا محيصَ له عنه!
وهل ثمةَ (عواطفُ) بالمعنى الصحيح، يا هذا؟!
أنت يا صداقُ اصدُقْني.
ونفسُكَ؟
وَيْحٌ لها!
أـصدُقُكَ: إنها خاطئة، مسكينة!
وقد شطتْ كثيرًا، ونصحتُها كثيراً،
ولكنْ راح نُصحي عَبثًا، وذهب هباءً!
فانعم، يا هذا!
نعم، انعَمِ، الآن، بخيراتكَ الحقيرة
التي يُهوِّلُها (الوهمُ) فتراها كبيرة!
إنعمْ بها!
ولكنك ستندمُ، وستحزنُ، وستبكي بكاءً مُرًّا!
وجزاءُ (السماءِ) الذي ستنالُه هو جزاءٌ،
لا شكّ، حقٌّ عادل.
فارتعْ حيث شئتَ.
وانعمْ بما أردتَ.
وفُزْ بما لنفسكَ اخترتَ.
فإنني لن أهتمَّ، بعدَ اليوم، بكلِّ هذا، يا هذا!
إيطاليا، في 2 أيار 1935