
المُؤدِب
أما (المؤدب) فكان سوطه مجدولاً بأربعة عشر أفعوانًا كل منها هائل الخلقة، بشع التكوين! وكان يسوق أمامه قطعانًا لا نهاية لها، من مختلف أجناس البشر وشتى مللهم ونحلهم. وكان كل قطيع يسير مع فئته الخاصة:
فرجال الدين يسيرون أفواجًا أفواجًا؛
وهناك أرتال منهم كانوا يشبعون شهواتهم الأرضية الدنيئة، بالرغم من منصبهم الديني العظيم؛ ون بعد كنت ترى جماهير من (التجّار) يسيرون معًا؛ وغيرهم من الملوك بعضهم لا يزالون يعتمرون بالتيجان! وآخرون قد نزعوا تلك التيجان وحطموها تحت أقدامهم!
وعلى يمين المؤدِّب اجتمع عشرات الأُلوف من القادة والسياسيين الذين كانوا يوجهون دفة الأمور السياسية والاجتماعية. وكانوا بأكملهم ينظرون إلى وجهه، والذهول مرتسم بأتم معانيه في أعماق مآقيهم الشاخصة حيث يقف غيرهم وغيرهم من متخذي شتى الصناعات.
ونطق سوط المؤدب بلعلعته الرهيبة! وفحّت أفاعيه وراحت تنفث نيرانها ودخانها فيمتزجان بالسم الزعاف وتسري هذه العناصر الثلاثة، فتمتزج في عروق هؤلاء، وتمتزج في دمائهم المسودّة للأَلم والرهبة والقلق والذهول وشتَّى المتناقضات التي أخذ يَعمل فعلُها في نفوسهم الوجلة وأرواحهم القلقة الحائرة.
وراح المؤدب سأل رجال الدين:
- والآن انبئوني اليقين.
لماذا هزأْتم بتعاليم سيّدكم وتعاليم الكتب المنزلة التي كانت تهديكم إلى الصراط المستقيم؟
ولِمَ اتَّبعهم شهوات قلوبكم؟
ورتعتم في جنانكم الأرضية،
وأنتم تعرفون إنَّما أنتم تسيرون على الطريق المعوجّ؟
ولِمَ لم تزوروا البؤساءَ، وتعطفوا على الفقراء؟
ولِمَ لم تزوروا السجناءَ، بل فضَّلتم عليهم الأَغنياءَ الأَغنبياء؟
ولِمَ لم تصوموا وتصلُّوا؟
بل خصتم في بحار جرائمكم الوضيعة ولم تكلُّوا وتَمُلُّوا!
ولِمَ اتخذتم شبكةَ الدين لاصطياد الوادعين الآمنين، وأنتم عارفون أنَّكم مخطئون في طريقكم هذا غير القويم! وراح السوط يلعلع للمرّة الثانية على أَقفيتهم!... فهوَتْ أَفاعيه السوداء على لحومهم فَنَثَرَتْها.
وعملت أسنانها السامة في أحضائهم فقطعتها وهرأتها.
وإذا بالبكاء والعويل يرتفعان من الصدور فيشقان الفضاء!
وراح الصدى يتجاوز الآفاق، ويخترق أعمق الأنفاق!
وعاد المؤدب يقول:
أنتم سببُ كلّ بلاءٍ وانشقاق!
فخفضوا رؤوسهم وهم لا يجرؤون على رفعها إليه!
ورجعوا بذلٍ وخضوع عند نعليه،
علَّهم بعملهم هذا يسترضونه بعد شدة تعنُّته وكثرة تجافيه.
ولكنَّه أشاح بوجهه الوضَّاء عنهم،
وخلَّقهم يندبون جرائمهم الفظيعة، وهم يُقرّون بها ويعترفون.
وانتقل المؤدّب من فئة إلى فئة، وكلٌّ منها يَعترف بما ارتكبه من آثام وما اجترحه من نقائص لا يمكن وصفها أو حصرها. وفي كلِّ دورة، لكلِّ فئة من الفئات، كان سوط المؤدّب القويّ يقوم بتمثيل دوره على أَتم شكل، وأكمل صورة.
وعندما زحف الليل برهبته، واحتلّ الكائنات، وغمر البطاح بوشاحٍ مدلهمٍ قاتم، وناحت بنات عرس، واختبأت الطيور في وكناتها، وقف المؤدّب ورفع رأْسه إلى السماءِ بحزن وقال: -
أمّا الآن فأفنِ هذا العالم يا الله!
ولا تُبْقِه لأنَ الشر قد غمر آفاقه كافةً، ولم يعد يصلح لشيءٍ!
ويا أيّها العادل!... اغمر الاكوان بجحيمك المتأججة! ودع نيرانها الطاغية تطغى على كل ذي حياة!
لأن الجميع أخطأوا والجميع لا يستحقون عفوك ورضاك. واستطرد المؤدّب قائلاً:
- نعم. دعهم يا الله يخلدون في أهوال من العذاب الساحق الماحق حتى تأمر ارادتك العادلة بخلق عالم آخر فتعيدهم إليه علَّهم يَرتَدِعُون، وإلى محجّة الحقّ يعودون!
بيروت، بعد الظهر، 15 شباط، 1943