السنة الثامنة العدد الثاني خريف 2002
العلم والتكنولوجيا ومسؤوليَّةُ الإضطلاعِ بهما
إنَّ التنافسَ في تحصيلِ العلوم العالية وتوليد المُبتكرات التكنولوجية باتَ ضرورةً لاستمرار البقاء والتقدُّم. فجميع البلدان المتطوِّرة أدركت أنه ليس من شعبٍ يستطيع أن يصمدَ وينجحَ في صراع الحياة إلاَّ إذا تسلَّح بالقوَّتين العقليَّة والماديَّة المتمثِّلين في العلم والتكنولوجيا، هذه الضرورة تحمِّلُ الدول مسؤوليَّة جُلَّى من أجل النهوض بمؤسسات التعليم العالي وتزويدها بما تستلزمه من مختبراتٍ ومصانعٍ حديثة. لكنَّ تبعةً خطيرةً تقع أيضاً على عاتقِ العلماء وأساتذة التعليم العالي، هي أن يستلهموا ضمائرهم والقِيم الروحيَّة والإنسانيَّة الكُليَّة في كيفية توجيه علومهم وتطبيقاتها التكنولوجية بحيث تُفيد الشرية كلّها، وتُساعد في نشرِ الراحة والسلام والتعاون فيها. أمَّا إذا أتبع أرباب العلم أهواءهم الدنيويَّة أو عصبيَّاتهم ومصالحهم الماليَّة، فإنهم سيزيدون في اضطراب العالم، ويعجِّلون خرابه (أنظر د. براكس ص ۷ ).
لكن العلوم، سواء أكانت طبيعيَّة أم إنسانيَّة، لا يمكن أن تزدهرَ وتُؤتي ثمراً مُفيداً إلاَّ في مُناخ حريَّة فكريَّة يتَّسع لتعدُّديّة الثقافات واختلاف الآراء، لأنَّ الحضارة لا تتطوَّر إلا بالحوار والتفاعل الفكريّ والانفتاح على كل جديد مُفيد. فالانغلاق يؤدّي إلى الاختناق (أنظر د. الناشف، ص ۲۰ ).
والجدير بالذكر أن العالم العربي، في عصوره امتدَّت أوائل القرن التاسع المبلادي حتى أواخر القرن الثالث عشر، كان ينعم بحريـَّةٍ فكريَّةٍ نسبيَّة سمحت بالتفاعل الحضاري والنوع الثقافي فيه، كما باستخدام النهج العقلاني، الأمر الذي ساعد في ظهور عباقرة كثيرين كانوا سبباً جليلاً من أسباب خروج أوروبا من عصورِ الظلام نهضتها في بدايات القرن الرابع عشر. وهذا التفوُّق الفكريّ العلميّ العربيّ استتبعَ تفوقاً حضارياً، وبالتالي عسكريا، للعرب في الأندلس (جنوبي إسبانيا)، بحيث أصبحت معارف العرب وآدابهم قبلة الإسبان، فأخذوا ينهلون من ينابيعها، مُتخلِّين عن الآداب اللاتينيَّة، ومسبِّبين اضطراباً دينيَّاً وسياسيَّاً (أنطر د. عاصي، ص ٢٤ ).
ومثلما أنَّ النَّهضة الأوروبيَّة أدَّى إليها الانفتاح الفكريّ الأوروبيّ على الإنجازات الفلسفيَّة والعلميَّة التي خلَّفها اليونان والرومان والعرب، هكذا أدى انفتاح بعض البلدان العربية، في القرن التاسع عشر، على المُنجرات العلميَّة والأدبيَّة الغربيَّة إلى بداية نهضة عربيَّة شهدت بيروت بعض تجِّلياتها (أنظر د. حويلي، ص ٦٢ ). غير أنَّ نهج الحكم الاستبدادي المُدَعَّم بالعصبيَّة المذهبيَّة أو العشائريَّة أو الحزبيَّة لم يسمح للعوامل العربيَّة بأن تستمرَّ في توليد نتائجها الخيّرة فزخم الانطلاقة النهضويَّة العربيَّة ما لبث أن تلاشى؛ فكاد المُبدعون الذين يرتفعون إلى مستوى عالميّ يغيبون عن الساحة الفكريَّة، لا سيَّما في الحقولِ العلميَّة؛ حتى إنَّ تاريخَ العرب، بل آدابهم وعقائدهم، تولجَ المُستشرقون البحث والخوض فيها، كل وفق دوافعه ومآربه، إلا جماعةً منهم كانوا من العلماء المُنصفين (أنظر خوجة، ص ٦٧ ).
والصَّحافة، التي من المفروض أن تكونَ منبراً لإعلان الوقائع الصحيحة ومنارةً للرأي العامّ، أصبحت بأكثرها مأجورة للحكام أو لجهاتٍ مُمِّـولة مُختلفة، حتى كاد لا يبقى حرَّاً جريئاً إلاَّ صوت الصَّحافي المهجريّ, ونمودجاً على ذلك ذكرت بمقالي الآنف الذكر (ص ۷ ) نضال جبران مسوح، كما أبرز الدكتور ريتشارد بوب الدور الرائد لمجلَّة "الفنون العربيَّة الأمريكيَّة في نهضة الأدب العربيّ وأهمِّيتها التي لم يكن لها مثيل (القسم الإنكليزي، مي ٢٠ )؛ كذلك بسطَ الدكتور جورج الحاج صفحات مطويَّة لصحيفةٍ عربيَّة أمريكيَّة مغمورة هي "الرسالة". (أنظر ص ۳۲ ).
وقد ضمَّ هذا العدد أيضاً مقالاً مُفيداً باللغة الإنكليزيَّة هو تحليلٌ لقصيدة شمشون للشاعر الإنكليري العبقري جون ملتون، حاول فيها الدكتور سرُّوع أن يربطَ بين أحداث حياة الشاعر وأحداث حياة شمشون (أنظر ص 8 )؛ كما تضمَّنَ قصيدةً مُميَّزة للأستاذ علاء الأعرجي، أخيراً، أدرجنا، كالعادة، قصَّة قصيرة رائعة للدكتور داهش غنيَّة بالأملِ والرجاءِ والحبِّ، مع مُقتطفاتٍ من نشيد الأنشاد" الذي أعاد الدكتور داهش صياغته باسطاً معانيه، و"ساكناً فيه رهيفَ أحاسيسه وحبُّه الجمّ للجمال.
رئيس التحرير