الدكتور داهش
ناثر وشاعر
الجزء الثاني
أيّتها الحريّة
أنت قبسُ الله السّاطع ، ومشعل من مشاعل الفردوس
أنتِ أنشودة كلّ حيّ يُنشدك الجميع بلهفة وشوق
أنت عصفور فتّان ، أطلقه الله من فراديس الجنان
فالمسيني أيّتها الحريّة بسيّالك العجيب فتحييني
فكم من سجين حزين يدعوك بكلّ ما فيه من أمل
وكم من رهين في قيوده يتمنّى أن تهبيه عطفك
لأنّك رسولة السّماء وحبيبة الرّسل ، وعشيقة الملائكة والكاروبيم
فأنت هي ابنة الله .
فادن منّي أيّتها الحريّة .
داهش
من كتاب " من وحي السّجر والتجريد والنفي والتشريد"
إنّ للكرامة الشّمّاء وللحريّة الأبيّة ثمناً فادحاً من البذل
والتضحيات . أمّا الاستسلام والخنوع ، والذلّ وخضوع
النفس لاسترضاء الطّغاة البغاة والرضوخ لظلمهم
الشنيع ... فهو نذالة فاضحة . ونكبة فادحة لا ولن تنال منّي منالاً .
داهش
أحلام
قصّري الهمّ فالحياة منامُ والأماني في أرضنا أحلام
وابدلي الأرض بالسّماء ففيها لا شقاء لا خدعة ، لا خصام
أنا يا فتنة الزّمان خيال في خيال تلفّني الأوهام
حطّمتني الأيّام بعد اكتهالي فأنا رُمّة هنا وحطام
فانظريني في الرّسم ظلاّ خفيّاً سوف تُبدي أسراره الأيّام
كغريب أو سائح في ربوع كلّ آثارها أسىً وانتقام
والحكيم الحكيم من زاد زُهداً بحياة سرورها آلام
يشهد الله أنّني باشتياق لمكان سكّانه لا تضام
رافقيني إليه يا أخت روحي فبدار الخلود يحلو المقام
إنّ روحي تحنُّ دوما إليه فعليه تحيّة وسلام
حليم دمّوس
مقدّمة
بقلم : ياسر بدر الدين
إنّها المرّة الأولى التي يظهر فيها مثل هذا الأثر الجميل .
كتاب "ناثر وشاعر" لؤلؤة فريدة في جيد الأدب العربيّ ، اشترك في تأليفه اثنان من عمالقة النّثر والشّعر : الدكتور داهش وحليم دمّوس . فيه من التفرّد والسّبق والابتكار ما يرفعه إلى مرتبة الأعمال الأدبيّة العالميّة الخالدة .
شاعر كبير يُحوّل إلى شعر مؤلّفات ناثر كبير ، ويختار من خمائلها – ويا لصعوبة الاختيار !- ثلاث باقات من الورود والرياحين العبقة الأخّادة الحالمة !
يُشكّل هذا الكتاب إضافة جُلّى إلى الإنتاج الأدبيّ العربيّ قديمه وحديثه ، فقد كثر الزّبد الذي يذهب جفاء في هذا الأدب ، وقلّ ما ينفع الناس ، ولا سيّما في عصرنا الحديث ، حيث انخرط الكُتّاب في جوقة المُصفّفين للسلطان ، وأصبح الكتاب قينة للمتعة والتسلية ؛ وهو ، في ميزان النقد المُنصف الرصين ، لا يعدو كونه أوراقاً ملوّثة بالحبر .
لم يبق بين الكُتّاب – ويا للأسف !- من ينصر حقّاً أو يُزهق باطلاً ، ولا بين الكتب ما يدوّن صدقاً أو يُظهر حقيقة . كلّهم يكتبون من أجل أنفسهم ، من أجل علوّهم الكسيح ، هدفهم الكسب المادّي ، ودافعهم الزّهو والأنا والغرور ، ممّا أدّى إلى إنتشار الدكاكين الأدبيّة الرخيصة ، وازدحام المتسوّلين والمتسكّعين على أرصفتها الذليلة .
الدكتور داهش وحليم دمّوس ، الأديب العملاق والشاعر الكبير تآلفا وتعاطفا ، فكان هذا المؤلّف المُمتع النفيس عملاً معجزاً يُضاف إلى سائر أعمال الدكتور داهش الجليلة المُعجزة .
وقد وصفه حليم دمّوس ، في مقدّمة الجزء الأوّل ، بأنّه "سيّالات روحيّة سامية هامية سكبتها يدُ العناية لأنبل رسالة وأشرف غاية . ولقد أنزلتها القدرة القهّارة على يد شخصيّة جبّارة ، وعبقريّة روحيّة مختارة ، مثّلت ، وتمثّل ، وستمثّل ، على مسرح هذا الوجود ، أدهش رواية ، لها بداءة وليس لها نهاية .
والسؤال الكبير المهمّ الذي يطرح نفسه بحدّة وغرابة ، هو كيف يُمكن شاعراً أن يقوم بمثل هذا العمل الشاقّ ؟!
كيف يضطلع شاعر بنظم آثار ناثر بأكملها ، لو لم يكن هذا الناثر ذا شأن عظيم ومميّز بالنسبة إليه ، يُشكّل نثره قناعات ومقدّسات تُلهم روحه ، وتطلق بوحه ، وتُلهب عواطفه ومشاعره ، وتُزيّن عروس شعره !
ثم كيف يُمكن عروس الشعر هذه أن يهفو قلبُها ، ويعلو إيقاع نبضها ، إذا لم يُحرّكها الهوى ، ويُتلفها الجوى ؟!
وهل من السهل استمالة غواني الشّعر وحسان البلاغة والبيان ، وتطويع الحروف وسبكها عقود لآلئ وجُمان ؟!
إذا ، إنّ في الأمر لسرّاً ، والسرّ يكشف عن وجهه ، حين نعرف أنّ الشاعر الكبير أحبّ الناثر الكبير ، وعاش معه فترة غير قصيرة من الزمن ، اقتربت خلالها نفسه من نفسه ، وهفت روحه إلى روحه ، وتوحّدت بينهما الفكرة والخفقة والنظرة والحالة الشعوريّة والشعريّة ، فكأنّ الشاعر هو الناثر ، والناثر هو الشاعر .
يقول حليم دمّوس في هذا الصّدد :" أُقسم – وما أقسمت إلاّ صادقاً – أنّهم لو عرفوا ما عرفت ، وفهموا سرّ ما وصفت ، وأدركوا مساقط تلك الكلمات العلويّة ، وحقيقة مهابط تلك المشاعر القلبيّة ، لخشعت نفوسهم لديها ، وحنّت قلوبهم أبداً إليها ، وأطلّت أرواحهم عليها ، ورفّت جوانحهم حواليها ".
وهنا يكمن عنصر الإبداع الفنّي في هذا العمل الذي يتجاوز صعوبات جمّة تفرضها طبيعة النقل . فالمعروف بل المؤكّد أنّ متاعب كثيرة تُرافق النقل أو الترجمة في العمل الأدبيّ ، خاصّة في مجال الشعر ، تصل أحياناً إلى حدّ الاستحالة .
وقديماً قال أبو عثمان الجاحظ ، الرجل الذي وضع الحجر الأساس في عمارة النقد الأدبيّ العربيّ :" الشعر لا يُترجم ولا يجوز عليه النقل ". وهذا قول حقٌّ ،لأنّه من الصعوبة بمكان نقل الحالة الشعوريّة وتمثّلها ، فإنّ لكلّ أديب حالته النفسيّة ، ومزاجه ، وتركيبه المختلف عن الآخر . وهذه الحالة لا تتكرّر ، بل تتقلّب وتتغيّر . ثمّ إنّ هناك شحنات عاطفيّة وموجات شعوريّة في نفس الشاعر لا يمكن التقاطها أو احتواؤها ، لأنّ لها عالمها الخاصّ المنفصل الذي لا يخضع حتى للشاعر نفسه .
والشاعر حليم دمّوس تخطّى إلى حدّ كبير هذه العقبة ، بعدما عايش الرجل المعجز ، وتعرّف إليه عن كثب ، ونظم له شعراً الكثير من كتبه النادرة . فقد كان هذا الشاعر المجاهد ينظمُ كلّ كلمة يكتبها الدكتور داهش ، وكلّ كلمة يقولها ، كانت تتحوّل في نفسه إلى شعر يتفجّر ينابيع صافية في مختلف المواضيع والمواقف ، فكانت هذه الطُرفة التي جمعت حلاوة النثر ، وطلاوته ، وعذوبة معانيه ، إلى قوّة النظم ، ومتانة السّبك ، ورقّة البوح ، وسلاسة التعبير .
كتاب " ناثر وشاعر " هو روعة اللقاء ، وفرحة الحضور في مهرجان الأفكار والمشاعر والظلال والألوان والأحزان ، حيث تسابقت الحروف لتنتظم في أسماطها عقوداً وكواكب ونجوماً داهشيّة مشعّة سوف يُذهبُ بريقها السماويّ هذا الظلام .
ياسر بدر الدين
20 حزيران 1983
مقتطفات
من كتاب
الإلهات السّت
إلى الحقيقة
إهداء الكتاب
إلى الجدول الرقراق المتدفّق بلطف دون أن نُعيره أقلّ اهتمام أو حساب .
إلى الخضمّ الجبّار الذي لا نجرأُ أن نخوض أعماقه في وضح النهار .
إلى المُهنّد البتّار الذي سيجزّ رؤوس كافّة الفُجّار والكُفّار .
إلى الضيف المطرود من جميع أمم الأرض وقبائل الغبراء .
إلى المُثخن بالجراح الدامية والمطعون بحراب وحوش البشر الغلظاء .
إلى الشعلة الإلهيّة الملتهبة والمُستمدّة أنوارها من لدُن السماء .
إلى الصفاء والنقاء ، والطهر والبهاء .
إلى (الحقيقة ) المنبوذة التائهة في صحراء هذا العالم التاعس الفاسد أُهدي هذا الكتاب .
القدس ، 25 كانون الأوّل 1935
إلى الجدول الرّقراق يسقي بلطفه ويروي بني الغبراء دون حساب
إلى الزّاخر الجبّار إن لاح موجه نخوض بأعماق له وعباب
إلى الصارم البتّار يحتزُّ أرؤساً ويُلوي على خام لنا ورقاب
إلى النازل المطرود من كلّ أمّة وإن كان ما يرويه فصل خطاب
إلى المُثخن المُضنى بدامي جراحه وقد طعنوا أضلاعه بحراب
إلى الشّعلة العُظمى تلهّب نورها كمثل بروق وانقضاض شهاب
إلى مصدر الطّهر النقيّ ومُلتقى صفاء قلوب في بهاء شباب
إلى التائه المنبوذ في أرضه ، إلى (الحقيقة) أهدي في الحياة كتاب
بيروت ، تشرين الثاني 1942
211- ربّاتُ الأولمب
ودوّى صوت رهيب طبّق الآفاق قائلاً من أحد المرتفعات :
في هذه اللحظة انقضّت خمس سنوات منذ ابتدأت تلك المأساة
العميقة بآلامها ، المفعمة بأشجانها وبماضي الذكريات ".
وصمت الصوت ، وانتصف الليل ، وأخلدت ضوضاء النهار إلى سكينة شاملة خرساء .
وعانقت الأحلام أرواح النيام ، وحوّمت الأشباح ، وأنارت النجوم قبّة الفضاء .
ساعتذاك ، اجتمعت الإلاهات الستّ على قمّة (الأولمب) الراسخ برواسيه
وعزمن أن يوفدن إحداهنّ لتذهب إلى (الشابّ) الحزين وتؤاسيه ،
علّها تُنسيه بلحظات ما تعانيه نفسه المحطّمة منذ خمس سنوات طويلات !
القدس ، 25 كانون الأوّل 1935
... ودوى صوت رهيب النّبرات طبّق الآفاق حتى النيّرات
قائلاً :" ها قد تولّت سنوات بمآسيها وماضي الذكريات "
***
أنصف الليل وقد نام الأنام وخبا الصّوت على تلك الأكام
وإذا الأشباح في جوف الظلام عانقت أرواح هاتيك النيّام
***
جاءت (الأولمب) ستّ الآلهات زينة الآكام والمرتفعات
فإذا (الأولمب) فيه البركات وعلى قمّته مجتمعات !
***
قرّ أن يوفدن إحدى الآلهات لفتى ذاق عذابات الحياة
علّ أن تُنسيه في لحظات ما تُعاني نفسه من نكبات !
بيروت ، 10 تشرين الثاني 1942