الرحلات الداهشية
حول الكرة الأرضية
الرحلة الثالثة
عام 1971
نيجيريا – غانا –شاطئ العاج
السنغال إيطاليا
جزيرة الأحلام
سأستقل الزورق الذهبي الرائع الجمال،
و أبحر به إلى جزيرة الأحلام الفتانة
إذ تعبت نفسي من البقاء
في أرض التعاسة و الشقاء،
و سئمت روحي من المكوث
في عالم الأضاليل و الرياء.
داهش
ليت شعري أيها الإنسان،
إذ مهما كنت عظيماً،ومهما أتيت بالغرائب و المعجزات،
ومهما قمت بأمور مدهشة، واستنبطت شؤوناً لم يسبقك إليها غيرك،
ومهما كانت...
فإنّ في أعماق الحياة شيئاَ لا يدرك،ولا تعرف ماهيّته و كنهه،
يهزأ بك و بأعمالك إلى ساعة ينقضي فيها أجلك،
فتذهب و كأنك لم تكن!
المؤلف
مقدمة
لبنان
زلزلته المآسي و دمرته الدواهي!
هذا هو الجزء الثالث من"الرحلات الداهشية حول الكرة الأرضية".
و قد غادرت أمريكا عائداً إلى لبنان لكي أطبع كتب رحلاتي في بيروت،و إلا لما غادرت بلاد الحرية المطلقة.
لقد نعمت عامين و نصف العام في نيويورك،و كاليفورنيا، و لوس أنجلوس،و بيفرلي هلز،و فنكس،و لاس فيغاس،و فرجينيا، وواشنطن، و جبال الروكي، و فلوريدا، و غيرها و غيرها من الولايات الأمريكية،و جميعها تتمتع بحرية شاملة.
عدت لبيروت لأطبع كتبي،و إذا بي أجد أن الحالة الأمنية فيها مؤسفة، و حوادث الخطف تمتلئ بأخبارها الجرائد اليومية،و الإنفجارات قائمة على قدم و ساق،و الإشتبكات متواصلة، و الخلاف متفاقم،و النقمة عامة، و السكينة مفقودة،و الخصام عارم،و عدم الإستقرار متمركز،و مثبت نفسه بعنفوان!...
و إذا الغلاء متصاعد،و الماء شحيح،و الكهرباء انقطاعها متواصل، و التلفون أعجز من أن يمكّن المرء من الإتصال بالذين يودّ محادثتهم!
و كذلك التهجير مستمر، فكم و كم من المنازل و المدارس قد استولى عليها الهاربون من هول المدفعيّة و تفجير القنابل و صواعق الصواريخ المدمرة! إنها فوضى هائلة،و بؤس شديد،و ضطراب شامل،و رعب ماحق، و بلايا متواصلة! فالأيتام في كل منزل،و القتلى في كل عائلة،و القلق هائل، و الوجل صائل و جائل!
و في الساعة الثانية عشرة من منتصف ليل 30/4/1979، و كنت نائماً بفراشي، استيقظت على انفجار هائل أرعب دويّه المسامع، عقبه تحطيم غرفة نومي، إذ اقتلعت النافذة فيها و تفجّر سقفها، فتساقطت الحجارة منه لتملأ أرض الغرفة.
كما هوت قطعة كبيرة من الخشب فوق تختي، لكنّ عين العناية أنقذتني إذ استقر لوح الخشب على حديد سجف النافذة فلم يسقط عليّ،و إلا لكان أوردني موارد التهلكة، إذ إنَّ ثقله كان كافياً للقضاء عليّ، و خصوصاً أنه يهبط من علو يبلغ خمسة أمتار. و قد تذكرت البيت الشعريّ القائل:
و إذا العناية راقبتك بعينها نمْ، فالمخاوف كلُّهنَّ أمانُ
و هكذا نجوت من موتٍ مُحقَّق أو من عاهة مستديمة.
و كذلك اقتلعت النوافذ في الصالون و غرفة مكتبي و مدخل المنزل، و زعزعت قوة الإنفجار الهائل قرميد السقف و أطارت بعضه، فأسرع الأخوة باحضار مئات من قطع القرميد من زحلة، و تولوا إصلاحه و إصلاح ما تردّم من هول الخمسين كيلوغراماً من الديناميت الشديد المفعول.
حقاً إن الداخل إلى لبنان مفقود، و مغادره هو المولود. فالمرء يخرج من منزله و هو لا يعرف إذا كان سيعود إليه حياً، أم يكتب له أن يقضي نحبه برصاصة قنص أو رصاصة طائشة، أو متفجرة ترسله إلى العالم الآخر.
إنها قلقة تدع المرء حيالها شريداً بأفكاره، حائراً بمصيره. و ها قد مضت أربعة أعوام،و بدأ العام الخامس، و ما تزال حرب لبنان دائرة رحاها، متفجرة صواريخها، محمحمة مدفعيّتها،و طعمتها الشبان و الشيوخ و النساء و الأطفال.
إنه غضب الله قد انصب على البلاد و العباد، فهل اتعظوا؟!
و بعد، إنّ ما يصيب الإنسان هو من صنع يديه و نتيجة لأعماله. فلو لم نستحقّ ما أصبنا به لما أوقعه الله فينا.
و قديماً نصح الأب نوح قومه أن يرتدوا عن معاصيهم،فتهكموا عليه، فأهلكهم الله و أباد وجودهم.
و كذلك أبناء سادوم و عامورة ارتكبوا الشرور، و تمنطقوا بالمعاصي فأمطرهم الله ناراً و كبريتاً جزاء على شرورهم العظيمة و آثامهم المروّعة.
إن البشر اسمهم مشتق من الشر. فالويلات تنصب عليهم انصباب الحمم بالنسبة لأفكارهم و لأعمالهم و لارتكاباتهم الإجرامية. فإذا أردنا أن تزول عن كاهلنا هذه الدواهي المرعبة ، فما علينا إلا التزوّد بالفضيلة، و رفعنا أكف الدعاء لباري الوجود لكي ينهي أيام محنتنا المزلزلة. فمن سار مع الله أقاله الله من عثرته و أنقذه من كوارث الزمان،و أوصله إلى شاطئ الأمان.
و الآن، لننس ما قاسيناه في هذه الأعوام الطافحة بالمخاوف و الأهوال الجسام، و لنلج الطائرات و القطارات و السيارات التي أقلّتني، و دعونا نجوب المدن التي حللت بها،و الأماكن التي شاهدتها، ففي ولوجنا إيّاها متعة لنا تنسينا أعوام الحرب وويلاتها،و مخاوف الصواريخ و تفجّراتها.
داهش
بيروت الساعة الواحدة و النصف بعد ظهر 7/5/1979
26 كانون الثاني 1971
إلى مطار بيروت
نهضت باكراً و رتبت حقائب السفر، لأني مزمع على القيام برحلة إلى كانو بأفريقيا الشمالية،و هي تبعد عن بيروت أربعة آلاف كيلومت و نيفاً. و جعل الإخوة و الأخوات يتوافدون إلى منزلي.
و في تمام الساعة التاسعة و النصف بلغنا المطار، فترجلنا و أخذت لنا صور سينمائية و فوتوغرافية.
و أعلن المذياع أنّ على المسافرين إلى كانو أن يتوجهوا للطائرة. فتوجهنا إليها، و ارتقيناها، و جلسنا في مقاعدنا. و كانت الساعة العاشرة و النصف.
و في تمام الساعة الحادية عشرة إلاّ ربعاً، درجت بنا الطائرة لمدة خمس دقائق، و توقفت حوالي الدقيقة. ثم انطلقت بأقصى سرعتها مدة دقيقة واحدة، و ارتفعت في الهواء.
و الطائرة هي من نوع بوينغ، و تستوعب 146 راكباً، و فيها كلّ وسائل الراحة.