info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى " الرحلاتُ الداهشيّة  حولَ الكرَةِ الأرضيَّة الرحلةُ الأولى"

 الرحلاتُ الداهشيّة

 حولَ الكرَةِ الأرضيَّة

 

الرحلةُ الأولى

عام 1969

            

                               من الشرْق إلى الغربْ

تايلنْد- كمبُوديا- هونغ كونغ- اليَابان- الولاَيات المتّحدَة الأميركيَّة- كنَدا-      انكلترة- هولْندا- فرنسَا- ألمانيا- سويسرا- النمسَا- إيطاليَا.

                                   

 تَوطِئَة

بِقلم الدكتور فريد أبو سليمان

 

في الثاني منْ آب 1969 غادرَ الدكتورُ داهشُ لبنانَ، برفقةِ الدكتور جورج خبصا أَخيه الحبيب وطبيبِ الأمراضِ الجلديَّةِ الأشهر، للقيامِ برحلةٍ حولَ العالم.

وكانَ الدكتورُ داهشُ منذ 28 آب 1944- ذلكَ اليوم المشؤومِ الذي اعتُديَ فيه على حريّتهِ ظلماً وعدواناً- متوارياً عنْ العيان. وكانتْ الصحفُ اللبنانيّةُ تتخبَّطُ في ما تذكرهُ عنهُ منْ أخبار، وما ترويهِ من أمورٍ، وما تنشرُه من اختلافاتٍ ما أنزلَ اللهُ بهَا مِن سلطان.

لقد حجزَ الطاغيةُ حريّتَهُ بطريقةِ التعسُّفِ الرهيبِ والظلمِ الهائلِ دون ذنْبٍ أو وِزْرٍ ارتكبَه. وبأَسفٍ عظيمٍ أَقولُ إنّه لم تَشجُبْ أيّةُ صحيفةٍ يوميّةٍ أو أسبوعيّةٍ أو شهريّةٍ هذا الظلمَ الهائلَ الذي أوقعَهُ به بشارة الخوري رئيسُ الجمهوريةِ يومذاك، ولمْ يُحرّكْ أيُّ صحفيٍّ قلمَه ليُناصرَ المظلومَ البريء. وبالعكس، راحتْ هذه الصحفُ ترشقُ داهشاً بألسنةٍ حِداد لتنال إعجابَ الحاكمِ الطاغية، مع أنَّ الصحفيَ صاحبَ رسالةٍ مقدَّسةٍ واجبُهُ أن يُناصرَ العدالةَ ويُهاجمُ الباطل، وإنْ يكنْ هذا الباطلُ متربِّعاً بدسْتِ الأحكام.

ثلاثةَ عشرَ عاماً قضّاها وراءَ أربعةِ جدرانٍ لم يُشاهدْ خلالها سوى إخوانِه المُجاهدين المخلصين، هؤلاءِ الذينَ هاجموا الباغيةَ بكُتُبِهم السوداءَ التي زَلزَلتْ عرشهُ وهدَّمتْ كرسيَّه، وحطَّمتْ كبرياءَه، وردّمَتْ عُنفوانَه، وكشَفَتْ أسرارَه، وهتكَتْ مخبَّآته.

وإذْ ذاكَ أعلنَ الشعبُ ثورَته على هذا الباغيةِ طارداً إيّاه من الحكم. فقبعَ في منزلهِ بالكسليك، والأَلمُ يعتصرُ قلبه، والحزنُ يفري كبدَه، والشَّجنُ يُؤرِّق جفَنَه، وذكرياتُ السلطةِ تُبعدُ الكرى عنه. وهكذا انتصرَ الحقُّ وزُهِقَ الباطلُ، إنَّ الباطلَ كان زهوقاً.

وليته وُجِدَ صحفيٌّ أو نائبٌ أو وزيرٌ أو أديبٌ يشجبُ جريمةََ الإعتداءِ التي ارتكبَها الباغيةُ الطاغيةُ بشارة الخوري بنزعِهِ جنسيَّة رجلٍ بريء، مثلما وُجِدَ في فرنسا، إذْ هبَّ الكاتبُ الكبيرُ إميل زولا يُدافعُ عن دريفوس، مُتطَوِّعاً لمناصرةِ الحقِّ، مهاجماً حكومةَ بلادهِ وقضاءَها لينصرَ الحقيقةَ التي يجبُ أن تكونَ ظافرة. وقدْ اضطُرَّ بعدما نشرَ دفاعه "أنا أَتَّهمُ" لمغادرة فرنسا، فإذا هو شريدٌ طريدٌـ يجوبُ مُدُناً عديدةً بسببِ دفاعهِ عن رَجُلٍ ظلَمَتْه حكومةُ بلاده، متحمِّلاً شظفَ العيشِ في هذا السبيلِ النبيل. وأخيراً، انتصرَ الحقُّ وخرجَ دريفوس من سجنهِ ظافراً منصوراً، وأُعيدتْ كرامتُه إليه. وعادَ إميلْ زولا إلى بلادهِ محمولاً على الأعناقِ. فقد قدَّر الشعب الإفرنسي هذا البطلَ المغوار الذي لا يُشَقُّ له غبار وذلك بعدَ أنْ تأكّدَ للفرنسيين أنهُمْ وحكَّامهُم كانوا أجمعين مخطئين بظلمهِم لدريفوس، بينَما كانَ إميل زولا هو الوحيدُ على صواب. وهكذا انتصرَ حقُّه على باطلهم. فأقامتْ فرنسا له عيداً تكريميًّا يُحتفَلُ به كلَّ عامٍ لأجلِ مناصرتهِ العدالة. أمّا في لبنانَ فلم يوجَدْ أيُّ شخصٍ دافعَ عنْ الدكتور داهش واستنكرَ الظلمَ الرهيبَ الذي أوقعَهُ بشارة الخوري به. وهذه وصمةُ عارٍ ستبقى خالدةً ما خلدَ الزمانُ، تُذكَرُ وتُعلَنُ وتُنشرُ كلّما ذُكِرَتْ قضيّةُ ظلمِ داهش.

وبعد فالقارئ سيجدُ في كتابِ الرحلة العالميِّةِ هذه لذَّةً فريدةً. فإنّه سيجوبُ مع الكاتب المدنَ والعواصمَ، ويخترقُ السهولَ والفيافيَ، ويرتقي الجبالَ، ويهبطُ إلى الأوديةِ، وسيزور المتاحفَ والمخازنَ، ويطوفُ في المعابدَ والملاهي، ويرودُ كلَّ مكانٍ وطئتهُ أقدامُ داهش وخبصا.

وسيُدهَشُ مِنَ الوصفِ الدقيقِ والتدوينِ الأمينِ اللذَيْن يلمسهُمَا في كلِّ ما خطّه الكاتب، وهما من المزايا التي تفوَّق بها الدكتور داهش على أكثرِ الرحَّالةِ العالميين، وخصوصاً رحَّالةََ العربِ الأقدمين.

لكنّ هذه الرحلةَ اللذيذةَ المثيرةَ المفرحةَ في مختلفِ تنقّلاتِها ومحطّاتِهَا، محزنةُ مفجعةُ في نهايتها. ذلك بأنَّ الدكتور خبصا أُصيبَ بتسمُّم في الدم بأثناءِ هذهِ السفرةِ، ممّا نغَّصَ عيشَه وأبعدَ النومَ عن عينيه، وبعثَ الألمَ العميقَ في نفسِ رفيقِ رحلتِهِ الدائم: الدكتور داهش. فإذا بهِ يرسلُ نفثاتِ صدرهِ الحزين، وأنّاتِهِ وتأوّهاتِه على الذي رافقَهُ من بيروت إلى طهرانَ، فالهند فبنوم ين، عاصمةُ كمبوديا، فبانكوك، فهونغ كونغ، فكيوتو، فطوكيو، فنارا، فأوزاكا، فنيكّو، فكماكيرا، فشيكاغو، فلندن، فباريس، فروما، فغيرِها وغيرِها من البُلدانِ، حتَّى عادَ أخيراً معه إلى بيروت بتاريخ 19 تشرين الأول 1969 وهو أقربُ إلى الهيكلِ العظميّ منه إلى الإنسانِ الحيّ. وفي 23 تشرين الأوّل أُدخِلَ الدكتور خبصا إلى مستشفى أوتل دييه، فمكث فيه 16 يوماً، ولم تنفع فيه حِيَلُ الأطبّاء، فماتَ في الساعةِ الخامسةِ والثلثِ من فجرِ 8 تشرين الثاني 1969 مأسوفاً عليه، مبكيّاً على أخلاقهِ العاليةِ وخلالهِ النبيلة. ولا شكَّ في أنَّ القارئ سيلفى في مطالعةِ هذهِ الرحلةِ العجيبةِ الطريفةِ المتعةِ والفائدة.

بيروت، في 16/1/1979         الدكتور فريد أبو سليمان

 

السَّبتْ في 2 آب 1969

في يَوْمِ سَفَري استَيْقَظْتُ مَريضاً

فورَ يقظتي صباحَ اليوم، بادرتُ إلى ترتيب حقيبَتيْ سفري، مع أنني استيقظتُ وأنا شاعرٌ بأنّني مريضٌ، إذْ كنتُ أُحسُّ بدُوارٍ شديد يتملّكني تملّكاً تامّاً. كنتُ أرى اللوحاتِ الزيتيّةِ تدورُ، والغرفةُ تنطوي جدرانُها على نفسِها، وكلُّ أثاثِها يعلو ويهبِطُ، فاستعذتُ بالله من شرِّ الشيطانِ الرجيم، وقلتُ في نفسي: تُرى، هل أستطيعُ السفَر وأنا بهذهِ الحالةِ الفظيعةِ! وسرعانَ ما انتابني الغَثَيان، فاستعنتُ عليه بكوبٍ من عصير الليمون.

وفي تمامِ الساعةِ السابعةِ والنصف، وصلَ الدكتورُ جورج خبصا رفيقُ رحلتي حولَ العالم. وعندما علمَ ما بي، قال لي: لنعدِلْ عن السَّفَر، لأنك بهذه الحالةِ لا يمكنكَ أن تتحمَّل مشاقّ الرحلة. فأجبتُه: سأسافرُ مهمَا كلَّفني الأمر، ولنْ أَعدلَ عن هذهِ الرحلةِ، خصوصاً أنَّ تذاكر البان أميركان PAN AMERCAN قد أُنْجِزَتْ، وهي بحوزتي، وقد بلغَتْ كلفةُ السفرِ بالطائراتِ ذهاباً وإياباً ثلاثة آلاف دولار، أيْ نحو عشرةَ آلافِ ليرةٍ لبنانيّةٍ. وأسرعَ بعضُ الإخوةِ فدلّكوا لي جسمي بالعطورِ، وتنشَّقتُ منها مراراً وتكراراً، متناولاً بعضَ المُنْعِشات، حتى شعرتُ بأنَّ حالتي قد تحسَّنت ولله الحمد!

وقد تقاطرَ الإخوةُ والأخَواتُ الذي عرفوا أنني سأسافرُ مساءَ اليوم، منْ أجلِ توديعي. وقدْ عَدَدْتُهم، فكانوا ستةً وأربعين شخصاً بينَ رجلٍ وامرأة. وسرعانَ ما أَزفَ الوقتُ، إذ أشارتْ الساعةُ إلى الخامسةِ والنصفِ مساءً، فنزلتُ للحالِ، يرافقُني رهطٌ من الإخوةِ والأخواتِ، قاصدينَ المطارَ.

 

 في مَطَارِ بيروت

بَلَغْنا المطارَ في الساعةِ السادسة إلاَّ رُبْعاً مساءً. وقد استقلَّيتُ سيارةَ الأخِ الكريمِ فريد فرنسيس، ورافقني بها ليلى إبنةُ شقيقتي أنتوانِت، وإِلين ضاهر، والأخُ الحبيبُ الدكتور فريد أبو سليمان. أما الدكتور خبصا فقدْ استقلَّ سيّارة الأخ هادي حجَّار، ورافَقَتْهُ زينا حدّاد وشكري وجورج شكُّور. واستقلَّ سيارة إيليَّا حجّار الأستاذ الأديب أسعد علي وغازي براكس. وكذلك واكبْنَا الأخَ العزيزَ سليم قمبرجي وشقيقه عليّ. وفي سيّارةِ الأخ سِرْج رافقَتْنا السيّدة رباب المقدّم وابنتها سهيَّلا.... وغيرهم من الأخوة والأخوات الداهشيّين عددٌ كبير.

وعندما بَلَغَ رَتْلُ السيّارات محطَّة الطيران، ترجَّلنا جميعاً. وبعدَ أن قبَّلتُ كُلاَّ منهم قبلة الوداع، غادرتُهم مع أخي الدكتور خبصا، ونزلنَا إلى صالونِ الإنتظارِ قبلَ أنْ نستقلَّ الطائرة الجبَّارة الجاثمة على أرضِ المطارِ.