الداهشيّة
وَأثَرُ الأخْلاقِ في حياةِ الأُمَمْ
تقديم
فُطِرَ الإنسانُ على تعليلِ الحوادث التاريخيَّة وتفسيرِها. فهو لا يقتصِرُ على سَرْدها، بل يحاولُ ردَّها إلى مُخْتَلفِ أسبابٍ منها الطبيعيّ، أو الأجتماعيّ، أو الإقتصاديّ...
ولكنْ، مهما تتباينِ الآراءُ في تعليلِ التاريخ، يبْقَ للأخلاقِِ والقيمِِ دورها الكبير في تقريرِ الوجْهةِ التي ينتحيها الزَمَنْ.
من هنا يَنْطَلِقُ الأستاذ نقولا ضاهر المُجاز في التاريخِ والآثارِ والفنون، فيردُّ حوادثَ التاريخ إلى أسباب أخلاقيَّة نفسيَّة. إنَّ قيام الأمَم وزوالها، في إعتقاده، وَقْفٌ على نهضةِ الأخلاق أو انحطاطها.
فلنرافقه في رحلته عَبْرَ التاريخ، منذ طُوْفانِ نوح حتَّى عصرنا الراهن، مروراً بالأمبراطوريّتين الرومانيّة والعربيّة... وَلنسْتَمعْ، أخيراً، إلى رأيه في كيفيَّةِ الخلاص من أزْمَةِ القرن العشرين، علَّنا نَتَبيَّنُ، في غَمْرَةِ الظلام، طريقَ التَقدُّم والإرتقاء...
طوني شعشع
شغل موضوع " الأخلاق " عقول كثيرين من الفلاسفة والمفكّرين، وليس في وسعنا أن نعرض جميع الآراء والمناقشات التي دارت حوله، لأنَّ بحثنا يقتصر على تبيين مدى تأثير الأخلاق والقيم الروحيّة في حياة الأمم. وقد يكون إنحطاطها سبباً في كارثة تقضي لا على الأمم فحسب، بل على البشريّة جمعاء، ذلك ما لم تستجب لنداء الرسالة الداهشيّة وتُطَبِّقْ فضائلها وقيمها الروحيّة السامية.
ولا يَخْفَ علينا أنَّ الأخلاق نوعان متضادَّان: أخلاق كريمة، وأخلاق ذميمة. أمّا الأخلاق الكريمة أو المناقب – موضوع بحثنا – فهي مجمل الفضائل التي يتَّصف بها الإنسان، ومجمل القيم الروحيّة التي يعتنقها الفرد أو المجتمع.
ولا مدعاة للقول أنَّ مقياس الأخلاق هو الأعمال. وأقصد بذلك أنَّ قيمة الإنسان المعنويّة ليست في أقواله ومواعظه، ولكنَّ قيمته تكمنْ، قبل كلِّ شيء، في أعماله الفاضلة وتصرّفاته الحميدة.
فأيُّ قيمة، ترى، لإنسان يدَّعي العفّة وهو غارق في حمأة الخطيئة؟ ولفرد يدعو إلى التواضع وهو متكبّر متعجرف؟ ولامرىء يتشدّق بالصدق وقلبه مملوءُ بالكذب والمراءاة؟ وأيُّ قيمة لأمّة تنادي بالسلم ومساعيها جميعها من أجل الحروب؟ أو تبشِّر بالاخاء والعدالة والمساواة وهي تستعمر الشعوب الضعيفة وتستثمر قواها؟ هذه الحقيقة البديهية ألحَّ عليها الأنبياء كثيراً. لنتذكّرْ قول السيّد المسيح: " ليس كلَّ من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات. ولكنَّ الذي يعمل مشيئة أبي الذي في السماوات هو يدخل ملكوت السماوات " ( متى 7:21 ). ولنتذكّرْ قول القرآن الكريم: " مَنْ عَمِلَ صالحاً مِنْ ذَكَر أوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلْنحْيِينَه حياةً طيِّبةً وَلنجْزِيَنَّهُمْ أجْرَهُمْ بأحْسَنِ ما كانوا يَعْمَلون " ( سورة النحل 97 ).
وإذا كان لا بدَّ للفضائل والقيم الروحيّة من أن يكون لها أثرٌ حيٌّ فاعل في الإنسان والمجتمع، فيجب أن تقترن إقتراناً وثيقاً بالإيمان باللّه عزَّ وجلّ، لأنّه وحده المصدر المطلق لكلِ قيمة عليا. إنَّ الإيمان باللّهِ نافذة تطلُّ منها أشعة السماء على الأرض، فتؤنس قلوب المؤمنين وتمنحهم القوّة للسير بركب الإنسانيّة إلى مزيد من المعرفة والحرّيّة والسعادة.
هذه الفضائل والقيم الروحيّة هي من الحضارة بمقام النسغ من الشجرة. فنحنُ نعتقد أنَّ مفهوم الحضارة يختلف عن مفهوم المدنيّة. فالمدنيّة تقتصر على الجانب الآلي التقنيّ الماديّ من المجتمع الإنسانيّ، بينما تشتمل الحضارة على معطياته الفكريّة والفنيّة والقيم الروحيّة، وهذه الأخيرة هي جوهر الحضارة وعلَّة وجودها. وعليه، فإنَّ في العصر الراشدي من مخزونٍ حضاريّ ما يربو بكثير على حضارة القرن العشرين. ومجمل القول إنَّ الحضارة هي إنجذاب داخليّ مطّْرَدْ في المجتمع نحو الأسمى، في حين أنَّ المدنيّة هي إمتدادُه الأفقيّ الخارجيّ. وإلى ذلك أشار العالِمُ الفرنسي " لكونت دي نوي " بقوله:
" وفي كلِّ الحالات، من الواضح إنَّ الغاية الحقيقيّة من الحضارة يجب أنْ تكونَ مساعدة الإنسان على التحسُّن من كلِّ النواحي لا على اختراع آلاتٍ يُقْصَد منها الإنقاص من الجهد الجسديّ... ومن الضروري أنْ تُشاد من الداخل لا من الخارج. وكلُّ حضارةٍ تخضعُ لنموٍّ آليّ وحلولٍ تقنيّة مصيرها الفشل " (1).
وإنّي سأحاول في هذا البحث الموجز أن أُظهر، بالاستناد إلى براهين من الكتب المقدّسة والتاريخ، كيف أنَّ الأمم ترتفع أو تنهار بمقدار تمسّكها بالمناقب والقيم الروحيّة، أو تخلّيها عنها.
* * * * * *
كم من أمَّةٍ تخلَّت عن أخلاقها وقيمها الروحيّة السامية، فعمَّ فيها الفساد والرذيلة، وكان عقابها الهلاك. " لأنَّ الذين يتركون سُبُلَ الاستقامة ليسيروا في طريق الظلمة، ويفرحون بصنيع الشرِّ، ويبتهجون بخدائع السُّوء، لهم عذابٌ أليم "، كما يقول أشعيا النبيّ. وتؤكّد الكتب المقدّسة هذه الحقيقة في مواضع كثيرة منها.
فلنصغِ مثلاً إلى التوراة تصفُ لنا كيفَ حلَّ غضبُ الإله طوفاناً أفنى البشريّة الأثيمة وغسل الأرض من الشرور والخطايا: " ورأى الربُّ أنَّ شرَّ الناس قد كثُرَ على الأرض، وفسُدت الأرض أمام اللّه ومُلِئتْ جوراً. أمّا نوح فقد كان رجلاً باراً كاملاً في أجياله، فقال اللّه لنوح: لقد دنا أجلُ كُلِّ بشرٍ بين يديّ، فقد امتلأت الأرض من أيديهم جوراً. فها أنذا مُهْلكهم مع الأرض. فاصنع لك فُلْكاً من خشبٍ واجعله مساكنَ لك ولأهلكَ ولجميع البهائم والطيور، وها أنذا آتٍ بطوفانِ مياه على الأرض لأهلك كُلَّ جسدٍ فيه رُوحُ حياة من تحت السماء. وبالفعل كان المطر على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلةً، فكثرت المياه جدّاً وسارت الفلك على وجه الماء، ومحا اللّه كلَّ كائنٍ على وجه الأرض من الناس والبهائم وطير السماء. وبقي نوحٌ وَمَنْ معه في الفلك فقط ".( سفر التكوين، الفصل السادس والفصل السابع).
وقد أيّد القرآن الكريم هذه الحادثة بآياتٍ متعدّدة، منها قوله تعالى: " وقَوْمَ نوحٍ لمَّا كذَّبوا الرُسُلَ أغْرقناهم وجَعَلْناهم للناسِ آيةً، وأعتدْنا للظالمين عَذًاباً أليماً " ( سورة الفرقان، الآية 37).
ولكنَّ البشر، كما تروي التوراة، لم يرتدعوا ولم يتّعظوا من ذلك العقاب الرهيب، بل عادوا إلى اللهوِ والمجونِ والعبث، وانغمسوا في ملذّاتهم وآثامهم، وكفروا بالخالق عزَّ وجلّ، فاستحقّوا " وخصوصاً سكّان مدينتي سدوم وعمورة " سُخط الإله. وَرَدَ في التوراة أنّهُ " بعد أنْ تدنّست الأرض تحت سكّانها وكثر صراخ الشعب في سدوم وعمورة، وعظُمَتْ خطيئتهم لأنّهم تعدّوا الشرائع الدينيّة السماويّة ونقضوا الحقَّ ونكثوا عهد الأبد، غضِبَ الربُّ الإله، وأمطر عليهم كبريتاً وناراً، فأصبحَ الهاربُ من صوت الرعْبِ يسقط في الحفرة، والصاعدُ من الحفرةِ يؤخذ بالفخِّ، لأنَّ كُوَى العلاءِ قد تفتّحتْ، وأُسُس الأرض قد تزلزلت، وأُحرِقتْ تلك المدن بجميع ما فيها من سكّان ونبات وجماد. ولم يخلُصْ من تلك البقعة من الأرض إلاَّ رجلٌ صالحٌ اسمه "لوط " مع ابنتيه " ( العهد القديم: سفر التكوين – الفصل 19 )، لأنّه كان من أتباع النور، والنور يسطعُ في سماءِ الفضائل، والفضيلة ما ساكنت يوماً ولن تُساكن الرذائل.
ويشير القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة التاريخيّة بآياتٍ كثيرة منها: " وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ القُرُوْنِ من بَعْدِ نوحٍ. وكفى برَبِّكَ بذنوبِ عِباده خبيراً بصيراً " ( سورة الإسراء، الآية17 ).
ومن هذه الآيات قوله تعالى: " وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانت ظالمةً وأنشأنا بَعْدَها قَوْماً آخرين ". ( سورة الأنبياء، الآية 11).
بعد أن استنطقنا الكتب المقدّسة، لنستنطقْ كتب التاريخ. وأودُّ أن أشير إلى أنَّ كتب التاريخ هي أشبهُ بمرآةٍ تنعكسُ عليها أعمالُ البشر وتجعلُ الماضي حاضراً ليأخذَ الإنسانُ العبرةَ منه، ويبتعد عمّا يسيءُ إليه.
لقد اختلف الباحثون في أسباب انهيار الأمم، فمنهم من ردَّها إلى عوامل إقتصاديّة، ومنهم من ردَّها إلى عوامل إجتماعيّة...
وإذا كانت هذه أو تلك من الأسباب المباشرة، فإنَّ جوهر أسباب سقوط الدول والأمبراطوريّات لدى المتأمّل البصير هو أخلاقيٌّ يعودُ إلى إنعدام القيم الروحيّة وفقدان الإيمان بالعزَّة الإلهيّة. فكمْ أُمَّةٍ عظُمتْ حضارتها وشمخت علومها، ولكنّها لم تصمد ساعةَ شرعَ الفسادُ ينهشُ أخلاقها، فانهارت. وأكتفي لضيق المجال بذكر حضارتين عريقتين بلغتا أوج مجدهما ثمَّ إنهارتا، وكان إنهيارهما عظيماً، وهما: الحضارة الرومانيّة، والحضارة العربيّة.
أمّا الأمبراطوريّة الرومانيّة، فبعد أنْ حكمت العالم القديم بالقوّة، واكتسحت معظم البلدان، دبَّ الفسادُ الأخلاقيّ في أرجائها، فانغمس معظمُ أباطرتها في ملذّاتهم الدنيويّة الحقيرة. وقد تمادوا في عبادة اللذَّة والشهوات إلى حدَّ أنّهم كانوا بعد أنْ يتخمهم الطعام، يحاولون أنْ يتقيّأوا ما تناولوه حتى يستعيدوا من جديد لذَّة الأكل والشراب. ويروي التاريخ أنَّ الأباطرةَ في عهد الأمبراطوريّة كانوا يصرفون معظم أوقاتهم بإحياء ليالي الأنس والسمر ومعاقرة الخمر والخلاعة وإقامة الحفلات الماجنة الصاخبة التي تضجُّ بصورة التهتُّك والتبذُّل.
ورغم وجود الرحمة الإلهيّة المتجلّية في الدعوة المسيحيّة التي تنادي بالإيمان والحقَّ والمحبّة، ما كانوا يرتدعون بل إضطهدوا المسيحيين ونكّلوا بهم تنكيلاً. وبالرغم من تعسّف الرومان وجورهم، وبالرغم من قوّة السلاح لديّهم، إنتصرتْ الدعوة المسيحيّة في النهاية بسلاح المحبّة والإيمان، إنتصار الفضيلة على الرذيلة، وانتصار الحقَّ على الباطل.
هذا الإضطهادُ الجائر، وتلك التصرُّفات الفاسدة، جاءت نتيجة تخلّي الرومان عن روح الحقِّ وممارسة الفضائل، ففسدوا، وتداعت قواهم، مٍمّا أتاح لشعوب البرابرة الصغيرة أنْ تقوّض أركان الأمبراطوريّة الرومانيّة، فتعجّل بسقوطها. هذا ما دعا العالم الإجتماعي " ول ديورانت " إلى القول في كتابه " تاريخ الحضارات " : " لم يشهد التاريخ أنَّ حضارةً سقطت تحت ضغط الغزوات الخارجيّة. الحضاراتُ دائماً تنهارُ من الداخل". لقد صدق ديورانت! إنَّ الأُمّة كالشجرة، إذا كانت سليمةً تحدَّت الرياح وهزأت بالعواصف، أمّا إذا قرضها السُّوس فإنّها تتهافت من تلقاءِ ذاتها.
وهكذا الأمم إذا دبَّ الفسادُ فيها، وسيطرت المطامع على نفوسِ أبنائها، انقسمت على ذاتها، واندثرت. وهذا مصداق لقول السيّد المسيح في الإنجيل المقدّس:" إنَّ بيتاً منقسماً على نفسه لا يثبت "( إنجيل متَّى، 25). ويؤكّد الإمام علي بن أبي طالب كلام السيّد المسيح بقوله" أيّها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامُكم يوهي الصُّمَّ الصًِلاب، وفعلكم يُطمع فيكم الأعداء " (1)
ويجدر بنا، ونحن نتحدّث عن الحضارة الرومانيّة، أنْ نقف قليلاً عند مدينة بومبي. فالمؤرّخون يروون أنّها كانت قائمة في إيطاليا قرب مدينة نابولي، وبقربها بركان " فيزوف " ويذكرون أنَّ سكّان بومبي كانوا ذوي مدنيّة متقدّمة جدّاً، وأنّهم بلغوا أقصى حدود الكفر والشرور، والفساد والفجور. وبعد أنْ تفشَّتْ الرذيلة في قلوبهم ، وطغت على القيم الروحيّة والإنسانيّة، حلّت اللعنة عليهم، فتفجّر بركان " فيزوف "، قاذفاً إيّاهم بحممه الملتهبة، فسالت الحمم في شوارع المدينة، واجتاحت البيوت والمخادع، والتهمت بألسنتها كلَّ ما وقعت عليه، وانتهت مدنيّة بومبي، وأصبحتْ أثراً بعد عين... وتجدرُ الإشارة إلى أنَّ سكان بومبي لم يُعاقبوا هذا العقاب الشديد إلاَّ بعد أنْ انحدروا إلى دركٍ رهيب من الإسفاف الخلقي. وخير دليل على ذلك آثار الهياكل العظميّة المتحجّرة في أوضاع تهتُّكيّة والباقية حتى يومنا هذا. مثلُ هذا العقاب يُشير إليه القرآن الكريم في الآية: " وإذا أَرَدْنا أن نُهلك قريةً أمرنا مُتْرِفيها فَفَسَقوا فيها، فحقَّ عليهم القول فدمّرناها تدميرا " ( سورة الإسراء، الآية 16) وفي الآية: " ولو أنَّ أَهْلَ القُرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماءِ ولكنْ كذَّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون " ( سورة الأعراف، الآية 96).
أمّا الصورة التاريخيّة الثانية، فهي صورةُ الحضارة العربيّة.
كان العرب يعيشون في جاهليَّة عندما دوَّى صوتُ القرآن في نفوسهم، فاتّحدوا تحت راية الإسلام. واستطاعوا في العصر الراشدي أنْ يبسطوا نفوذهم من حدود الهند شرقاً حتى أفريقيا غرباً، وأنْ يدكّوا عرش الأمبراطوريّتين الفارسيّة والبيزنطيّة. كلُّ ذلك بفضل إيمانهم بالدين الجديد وتمسُّكهم بالمثُلِ العليا التي دعا إليها الإسلام. ولكنْ ما كاد يخفُت صوتُ القرآن في ضمائرهم حتى انقطعوا إلى الملذّات وانجرفوا في تيّار الغيّ والضلال. فقامت الحانات في جوار المساجد واختلط غناءُ القيان بدعاء المآذن، وعشّشتْ الضغينة في قلوب الناس ففرَّختْ أحقاداً أدّت إلى إنقساماتٍ صدَّعتْ أركان الدولة العربيّة، وأعادت إلى الأذهان ذكرى الجاهليّة وعصورها المظلمة. وهكذا كان ضعفُ الإيمان وانهيار الأخلاق سببين رئيسيين أدّيا إلى تفسُّخ قوّة العرب وشلّ عزيمتهم واستعبادهم زهاءَ خمسة قرون، إلى أنْ تنبَّهوا من سُباتهم وشعروا بالحاجة إلى إصلاح أخلاقيّ. فانبرى زعماء الإصلاح أمثال محمد عبده والأفغاني والكواكبي في مطلع " عصر النهضة الحديثة " يُنادون بالعودة إلى إقتفاء أثر الخلفاء الراشدين. يقول محمد عبده في كتاب " العروة الوثقى ": " ألا ترى لو عمّت الصفات الحميدة أمّةً من الأمم أو غلبت في أفرادها، لا يكون بينها سوى الإتّحاد والإلتئام التامّ؟ أمّا واللّه لو نفخت نسمة من الفضائل على أرضِ قومٍ وكانت مواتاً لأحيتها ولأقامت لها من الوحدة سياجاً لا يُخرق... وإنَّ أولى الأمم بأن تبلغ الكمال في هذه الصِفات الشريفة أُمَّة قال نبيُّهم : " إنّما بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق " (1).
وقد فطن كثيرون من الشعراء والأدباء إلى أهمّية القيم والفكر الخلقيّة ودورها في حياة الشعوب والأمم. فالشاعر أحمد شوقي يقول:
وإنّما الأمم الأخـلاق ما بقيـت فإنْ هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ويقول أيضاً:
وليــس بعامـرٍ بنيـانُ قـومٍ إذا أخلاقهـم كانت خرابـا
وقد أدركَ الشاعر الداهشيّ حليم دمّوس كذلك، خطورة الوضع الإجتماعي الناجم عن المفاسد والشرور، فكتب يخاطب شباب الوطن قائلاً:
قلْ للشبيبة أنْ تكون صفوفها قدسيّــة الأهـــدافِ والأرواحِ
لا عذر بعد اليوم إن لم تنطلق كالسهم نحـو مواطـنِ الإصــلاحِ
فتعهَّدوا أرواحكم قبل الرَّدى، فصلاحكـم في الأرض خيرُ سـلاحِ
حطَّمتمُ جُنحَ الإخاء وقد هوى أيطيـر طائركـم بغيــر جَنـاحِ؟
* * * * * *
والآن، بعد أنْ استنطقنا الكتب المقدَّسة وكتب التاريخ واستخلصنا أنَّ مصاير الأمم والحضارات تقرّرها إرادة الإنسان وسلوكه، أطرح السؤال التالي: ما هو واقع القرن العشرين الأخلاقي؟
كثيرون هم المفكّرون والفلاسفة وعلماء الإجتماع الذين بحثوا في الأوضاع العالميّة الراهنة على ضوء مناهج علميّة منطقيّة. وقد خرجوا بنتيجةٍ مؤدّاها أنَّ العالم بأسره يعاني قلقاً وضياعاً وصراعاً قد يؤدّي، إذا تفاقم، إلى حرب ذريَّة تكون فناءً شاملاً للبشريّة. أمّا سَبَبُ ذلك في إعتقاد معظمهم فهو فقدان القيم الإنسانيّة الروحيّة وسيطرة المطامع والميول الوضيعة على عقل الإنسان ومسلكه. حسبي أنْ أشير، في هذا المجال، إلى بعض المراجع، منها كتاب " القنبلة الذريَّة ومصير الإنسان " للفيلسوف الألمانيّ كارل ياسبرس، وكتاب " هل تستمرّ حياة الإنسان؟ " للفيلسوف البريطانيّ برتراند راسل، وكتاب " مصير الإنسان " للعالم الفرنسيّ لكونت دي نوي.
وفي إعتقادي أنَّ معاناة أزمة القرن العشرين ليست وقفاً على العلماء والفلاسفة، بل في إستطاعة أيِّ فردٍ من أفراد المجتمع أنْ يتيقّن من ذلك إذا كان ذا بصيرة نيِّرة وعقل نافذ. فما عليه إلاَّ أن يستقصي من مصادر الإعلام، على إختلافها، أخبار الحوادث العالميّة من زلازل ومجاعات وأوبئة وفيضانات وجرائم متفشّية في بقاع الأرض، ويربطها بواقع البلد الدينيّ والأخلاقيّ ليخلص إلى نتيجة مفادها أنَّ هذه المصائب والعذابات ما هي إلاَّ عقاباً إلهيّاً عادلاً حلَّ بالبشر لكفرهم وفسادهم. وأصدق دليلٍ على صحّةِ ذلك الزلزال الذي ضرب، في أوائل عام 1973، مدينة " مانغوا " عاصمة " نيكاراغوا " في أميركا الوسطى، فدمّرها وقضى على عشرات الآلاف من سكّانها وشرّدَ الكثيرين... وقد دلّتْ الإحصاءات العلميّة الحديثة على أنَّ تلك المدينة تعدُّ نسبيّاً من أكثر مدن العالم شرّاً وفساداُ، ولذلك استحقَّت غضب الإله وفقاً للآية الكريمة: " وَضَرَبَ اللّه مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنّة يأتيها رزقُها رغَداً من كلِّ مكان، فكفَرتْ بأنعم اللّه فأذاقها اللّهُ لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " ( سورة النحل، الآية 112)، ووفقاً للآية: " ظهر الفساد في البرِّ والبحرِ بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بَعْضَ الذي عملوا لعلَّهم يرجعون " ( سورة الروم، الآية 41 ) .
تُجاه هذه المشكلة المصيريّة، أين هي خشبة الخلاص؟
وما هو الحلّْ؟
لن يكون الحلّ عن طريق العلم، لأنَّ المشكلة ليستْ علميّة، بل هي مشكلة حضاريّة إنسانيّة. والعلم، على العكس، بَدَلَ أنْ يحلّها زادها تعقيداً وتفاقماً بما قدَّم للإنسان من وسائل للدمار رهيبة، فبهر بصره وأيقظَ الكبرياء في نفسه، فتغطرس وألحد. ولن يكون الحلّ عن طريق الأحزاب والعقائد المذهبيّة أو الفلسفيّة لأنّها، رغم كثرتها ورغم نداءاتها وقوّتها، لم تنقذ البشريّة ممّا تعاني، بل على العكس، زادت في الصراع بين البشر لأنّها راحت تكرّس الإنقسامات، ولأنَّ همّها ينحصر في عالم الإنسان الخارجيّ غير معيرة عالمه الداخليّ أهميّة كبرى. فما من بشريّ إلاّ تسرّبَ إلى نفسه من سموم الأرض مقدار.
إذاً، من أين الحلّ؟
الحلّ، هو أن ندرك علَّة الفساد ونهتدي إلى علاجها. أمّا علَّة الفساد فمتأصّلة في نفس كلِّ إنسان، في بنائه الخلقيّ والروحيّ. أمّا علاج هذه العلّة فهو بإصلاح النفس البشريّة إصلاحاً يقوم على تحريرها من نزواتها ورغباتها الدنيويّة وعلى الإيمان بوحدة الأديان وأخوَّة الإنسان للإنسان.
ولكنْ، هل إستطاع الإنسان، حتى الآن، أن يتداوى بهذا الدواء؟ نقول: لا، ونؤكّد أنّه ساعة يعجز الإنسان، لا يبقى إلاَّ أنْ تتدخّل، لإنقاذه، قدرة الرحمن. وقد تدخّلت المشيئة الإلهيّة، فطلعتْ على العالم برجلٍ هو معجزة القرن العشرين، وبيديه هديّة السماء إلى الأرض لإنقاذ أبنائها التائهين، إنّها " الحقيقة الداهشيّة " المؤيّدة بمعجزات الروح. وَمَنْ كان ذكيّاً واعياً لا بدَّ له منْ أنْ يسأل" أنكون أمام رسالة سماويّة جديدة؟ أتكون الداهشيّة خشبة الخلاص شاءتها العناية لعصرٍ يغرق في محيط الفساد؟ أيعيد التاريخ نفسه؟ أكما في أيَّام نوح ولوط، هكذا اليوم؟
بعد سنوات عديدة على البحث، وعلى ضوء مطالعات وإختبارات، تأكّد لي أنَّ الداهشيّة حقيقة روحيّة سماويّة تؤيّدها المعجزات، وقيمتها العمليّة الحضاريّة تكمن في دورها الأخلاقيّ على صعيد الفرد والمجتمع. والداهشيّة ترمي، قبل كلّ شيء، إلى بناء الإنسان وخلاصه. فهي لا تريد إنساناً يتحدّث عن العفّة، بل إنساناً عفيفاً، ولا تريد إنساناً يعلّم الصدق، بل إنساناً صادقاً، ولا تريد قائداً يدعو إلى الإستشهاد، بل تريد شهداء. ولذلك، فهي لا تؤمن بالمواعظ إذا لم تؤدِّ إلى العمل.
ولكنْ، ما هي الوسيلة التي تعتمدها الداهشيّة لإقناع الإنسان بضرورة العودة إلى القيم الروحيّة السامية؟ وما هي الأسس التي عليها ترتكز الفضائل الداهشيّة؟
بالإضافة إلى تعاليمها السامية الداعية للعودة إلى ينابيع الأديان المنزلة، فقد أيّد اللّه الداهشيّة ببرهان ماديّ حاسم على صحّة التعاليم وصدق الرسالة، هو المعجزة. فالذكيّ الذي يشاهد قوانين الطبيعة تُخرق على يدي الدكتور داهش، والذي يشاهد الكسيح يمشي، والمجنون يبرأ، والجماد يتحرّك، وتتغيّر طبيعته، والصخور العظيمة تنتقل من مكان إلى آخر، والغيب يتكشّف، وأبواب المستقبل تُفتح (1)... الذي يشاهد هذه الأعمال الخارقة التي يعجز عنها العلم، لا بدَّ له، إذا كان ذكيّاً واعياً، من أنْ يسلِّم بوجود قوّة خفيّة، عالمة، قادرة، هي قدرة الروح العليّ تصنع المعجزات إثباتاً لحقيقة الألوهة ولتعاليمها في الأديان.
ولهذا الإيمان الحقيقيّ باللّه سبحانه وبتعاليمه نتائج مهمّة وخطيرة في حياة الفرد. فساعة يؤمن الإنسان إيماناً راسخاً حقيقياً عملياً لا شفاهياً بوجوده تعالى، وبوجود النفس وخلودها، وبالثواب والعقاب، فإنّه، إذا كان واعياً، سيسعى من أجل خلاصه. وخلاصه يكون باتّباعه القيم الروحيّة التي نادت بها الأديان.
إنَّ الداهشيّة رسالة سماويّة غايتها الأولى والأخيرة إنقاذ الإنسان ممّا يتخبّط فيه من شرّ وشقاء. هي من السماء، إنّما للبشر. وإذ تُبشّر بوجود اللّه تعالى وبوجود النفس وخلودها وبالثواب والعقاب، وبوحدة الأديان، وبأخوّة الإنسان للإنسان، فمن أجل غاية واحدة فقط ألا وهي عودة الإنسان إلى الفضيلة.
وهكذا، فالأساس الذي تنبثق منه الفضائل الداهشيّة هو الإيمان باللّه عزَّ وجلّ كمصدر للخير والقيم. وبتعبير آخر إتِّخاذ اللّه المثل الأعلى لوحيد المسيطر على حياتنا كلّها. والفضائل ما هي إلاّ ظلاله تدلُّ عليه وتقود إليه. فإذا كان الناس يتهالكون على اللذّة والجنس والخمر والعربدة ويطلبون الأمجاد الدنيويّة، فلأنّهم يؤلّهون المادّة غير مؤمنين بحقيقة روحيّة. أمّا الداهشيّة فهي رسالة سماويّة تنادي بالعفّة والترفّع، وبالمحبّة والتواضع... لأنّها تمجّد الروح ولا تؤلّه غير اللّه الأحد خالق السماوات وفاطر الأرض.
ولذلك، فمن يؤمن بالداهشيّة ويطبّق تعاليمها، يولَدْ من جديد، فتتجدّد نفسه وتساعد في ظلّ الفضيلة. ويتجلّى ذلك في مسلك الداهشيين. فهم أهلُ عمل لا أهلُ قول. فحليم دمّوس الشاعر الكبير كان قبل إيمانه بالداهشيّة مادّياً تماماً، فأصبح بعد إيمانه بها روحانياً تماماً. وتجسّد إيمانه في حياته فكراً وقولاً وعملاً. وقصائده التي كتبها إبّان إيمانه بالداهشيّة تُعبّر عن ذلك أصدق تعبير.
والدكتور جورج خبصا، الطبيب العالم، والأستاذ اللامع في معهد الطبِّ الفرنسيّ، بفضل إيمانه بالداهشيّة، جعل حياته ومهنته وقفاً على مساعدة الفقراء. كان يعالجهم مجّاناً ويهبهم الدواء. ويعرف الكثيرون كيف كان يبيع أملاكه ليعيش، في حين أنّه كان بإمكانه أنْ يمتلك القصور الفخمة لو أراد أن يكون كسواه من الأطباءِ غير الإنسانيين.
ولا أريد أن أذكر الإضطهادات التي تحمّلها الداهشيّون بإيمان ثابت لا يتزعزع في سبيل عقيدتهم الحقّة.
إنّما أكتفي قائلاً إنَّ الداهشيّة إذ تُجدِّد نفوس المؤمنين بها، تجعلهم يعيشون كإخوة تماماً كما كان يعيش تلاميذ المسيح أو أتباع محمّد. وهذا طبعاً يُبشّر بأمرٍ خطيرٍ وعظيم القيمة والأثر في المستقبل. إنّه يشير إلى أنَّ حضارةً داهشيّةً ستظهر وتسيطر في العالم. وهذا أمرٌ طبيعي لأنّه بظهور المسيحيّة طُويتْ صفحةٌ من التاريخ وفُتِحتْ صفحةٌ أُخرى. وبظهور الأسلام طُويت صفحةُ الجاهليّة وفُتِحتْ صفحةُ الهداية. وهكذا اليوم، فالبشريّة أيضاً تقف على المفترق الخطر ذاته. مدنيّتنا الماديّة تتهافت كما بيَّنت، وبتهافتها ستطوى صفحةٌ من التاريخ لتُفتح صفحة الخلود مكتوباً عليها بحروفٍ نورانيّة إسم " الداهشيّة ".
فمنْ يدرس، متبصِّراً، كيف أنَّ الداهشيّة إستطاعت فعلاً لا قولاً أنْ تخلق في الإنسان ذاتاً جديدة، يُدرك فوراً، بأنّها لا شكَّ ستخلق حضارة جديدة. لأنَّ الحضارة هي الإنسان. المدنيّة الحاليّة تتدهور لأنَّ إنسانها فقد قيمته الروحيّة، فقد فضائله الأخلاقيّة. ويجب ألاَّ نغترَّ بالمظاهر الفارغة لهذه المدنيّة، لأنّها كمظهر الشجرة التي جفَّ فيها نسغُ الحياة تنتظر ضربات الفأس.
وإذا عدنا إلى مؤلّفات الدكتور داهش، تبدّت لنا صورةٌ جليّةٌ واضحة عن الحقيقة التي ذكرتها. فكم هي القطع التي يصف فيها الدكتور داهش إنهيار الأخلاق، منبِّهاً إلى الخطر الرهيب الناجم عن ذلك. إسمعوه يصف الأرض بواقعية وبلاغة عجيبتين في القطعة الآتية:
أرضكم هذه!
أمّا أرضُكم فحقيرة:
فرغباتكم دنيّة،
وتمنّياتكم فيها ذريّة،
وكُلُّ من يدُبُّ عليها مجرمٌ أفّاك وحقيرٌ سفّاك.
الغشُّ يسري في منعطفاتها،
والطمعُ يتمشّى في نفوسِ أبنائها،
والتدليس البغيض يعشّشُ في أعماق قُسسها،
وحُبُّ المرأة أصبح جزءاً لا يتجزّأ منها،
والمال – ألا لعنةُ اللّه على هذا المعدن الخسيس – هو الذي يسيّر جميع شؤونها.
فلا ( الملكُ ) صاحبُ التاج والصولجان،
ولا ( العالم ) الجليل صاحبُ الرفعةِ والشان،
ولا ( القائد ) صاحبُ السطوة والسلطان،
ولا ( العظيمُ ) القدر أو الحقير من الإنسان.
ليس جميع هؤلاء سوى أفاعٍ سامّة، وذئابٍ خاطفة، ووحوش باطشة!
لقد ذهبت الكرامة،
وتلاشت الفضيلة،
وامّحى الصلاح من أرضكم،
فساد الشرُّ والفساد،
واطغت النقيصة على أرجاء معمورتكم الزريّة،
ولم يُجدِ الصلاح بكم شيئاً!"
من كتاب " عواطف وعواصف " ص 79- 80 )
بعد أنْ يصف الدكتور داهش واقع العالم الخُلقي، يتَّضح لنا إختلاف مُثُله العليا عن مُثُل الناس. فمُثُلُه روحيّةٌ خالدة، أمّا مُثُل الناس، فماديّةٌ فانية. يقول:
لي ولكم!
" لكــم ميولكـم ولـي ميولــي
لكم إتّجاهاتكــم ولــي إتّجاهاتي
لكم إغراقكـــم في ملذّات ( الجسد )
ولي إغراقــــي في تقشُّفات ( الروح )!!..
لكم إغراقكم في الضلالة ولي إغراقي في الهداية!
لكـم إبتساماتكــم ولكنّها دمـــوع!!
ولــي دموعـــي ولكنّها إبتسامــات!
لكـم أزهــارُ الحياة ولكنّها أشـواك
ولـي أشواك المـوت ولكنّهــا أزهــار
لكم النساء والحمر، والجاه والمال، والنفوذ والسلطانُ والحياة.
ولي اللّه والسماء، والحقّ، والمعرفة، والعدالة، والمجهول.
والإندماج ( بالقوّة الموجدة)!!
لكم ما ليس لي
ولي ما ليس لكم!.."
من كتاب " القلب المحطّم – مختارات، ص 69- 70 )
فلا عجب، والحالة هذه، من أن يُعْلنَ الدكتور داهش غُربته عن عالم الأرض الموبوء، في قطعة " أنا غريب " من كتاب " القلب المحطّم " مختارات، ص 39 ):
" نعم!.. أنا غريب في هذه الحياة الغريبة عنّي.
نعم!.. أنا حئتُ من عالم مضيء غير هذا العالم الكئيب ".
ولكنَّ هذه الغربة ليست مصدر إعتزال عن المجتمع، وإبتعاد عن آلامه وأمراضه، بل على العكس، إنّها مصدر قوّةٍ علويّة، تُفجّر ثورةً كاسحةً على كلِّ المفاسد، بقصدِ الإصلاح الشامل. فموقف الدكتور داهش، إلى كونه واقعياً، هو موقف هادف. لنستمع إليه في القطعة الآتية سيفاً يبتُرُ الباطل بلا رحمة، وساعداً يبني عالم الغد:
أنا ثائر!
" أنا ثائر.. على الوجود والموجود!
أنا ثائر.. على الهيئة الإجتماعيّة ونُظُمها الجائرة!
أنا ثائر.. على البشريّة، ومعتقداتها السخيفة!
أنا ثائر.. على المظالم النكراءِ التي تقومُ بها الإنسانيّة المجرمة!
أنا ثائر.. على الدنيا! وما تحويه في باطنها وظاهرها، ومعلومها ومجهولها!
أنا ثائر.. على الكون، وعلى بنيه الأشرار، وقاطنيه الفجّار!
أنا ثائر.. على بني البشر الطغاة، المفسدين العتاة، الظالمين القساة!
أنا ثائر.. على الميول الوضيعة، وألأعمال السافلة!
أنا ثائر.. وسأظلُّ ثائراً.. حتى تثور لثورتي الكائنات!
بل ستجتاحُ ( ثورتي ) معالم هذه النُّظُمِ الجائرةِ السخيفة! وتدكُّها دكّاً، وتتركها قاعاً صفصفاً... لتبني على ( أنقاضها ) نظماً أخرى!"
( من كتاب " القلب المحطّم " – مختارات، ص 142 )
ولكن إذا رفض البشرُ أنْ ينظروا إلى واقعهم بمنظار الحقيقة، فأصَمُّوا السمْعَ عن هذه الصرخة الدّاوية، متمسّكين بصلفهم وشرورهم، إذا رَفَضَ الناسُ نداءَ السماء الذي هو نداء العقل، أفيمكن أنْ تستمرَّ الحياةُ على الأرض؟ أيمكنْ للبشر عن طريق المعاهداتِ والمؤتمراتِ أنْ يُحلُّوا السلام؟ أيمكنهم أن يربحوا الدنيا المتهالكين عليها؟ ماذا يقولُ صوتُ " العدالة " ؟ إسمعوا الدكتور داهش في مقطعٍ من كتاب " مذكّرات دينار " ، بعد أنْ يصفَ واقع الإنسان والمجتمع، يُعلنُ حُكمَ التاريخ:
" إنّني أؤكّد لكم بأنّه لا المؤتمرات، ولا القرارات، ولا المداورات، ولا المناورات تستطيع أن تمنع وقوع حربِ فناءٍ ثالثة...
فما دامت شياطينُ أَطماعكم لا تزالُ قاطنةً في أعماق أفئدتكم، ومستقرّةً في تلافيف أدمغتكم، وساريةً في كريات دمائكم، وهاجعةً في ضلوعكم وأحشائكم، وملتصقةً في كيانكم منذ تكوينكم، ومتسرّبةً في صميم شرايينكم، وكامنةً في شغافِ أرواحكم، وتابعةً أيّامكم كظلّكم في ليلكم وصباحكم فليستْ بعيدةً تلك الساعة التي تُهيِّئون بها مُعدَّاتكم وتُتمُّون بها إستعداداتكم...
وإذ ذاك تنطلقُ الشياطينُ الجهنّمية من عقالها، وتُخرجُ فدائح أثقالها، كي تُدمّر الأرض وما فيها، وترَدُمها بمن فيها... "
( مذكَّرات دينار، ص: 278 – 279 )
وهذه قطعةٌ أدبيّةٌ أخرى للدكتور داهش من كتاب " جحيم الذكريات " يخاطبُ فيها الروح أبناءَ الأرض ويؤكّد لهم أنَّ عقاب اللّه الرهيب سوف يحلُّ بهم حرباً ذرّيةً شاملة، إذا استمروا في ضلالهم وشرورهم وغلاظة قلوبهم:
الضباب
ضباب!
ضباب كثيف يحيط بنفسي...ويكبلها بقيوده!
ضباب متلبد في سماء حياتي
يحتاطني مثلما يحتاط السوار معصم الحسناء!
ضباب جميل! يتجمّع ليعود ثانية فيتبدد!
خيالات،وطيوف غريبة تتراءى لي من خلال الضباب...
وآلاف من العيون الناريّة ترمقني!
ويتبدّد هذا الضباب المكفهرّ ليعود ويتجمّع
بألوان بيضاء مشوبة بالصفرة كالقطن المندوف!
ومن خلاله تظهر لي وجوه ناعمة،ولكنها حزينة!
وعيون ذابلة كأنها تستجدي العطف ممن تنظر إليه!
وأياد...لا يمكن معرفة عددها لكثرتها!
بعضها منبسط القبضة،
والآخر مقفل!
وأصابع متشنجة،والأعصاب ثائرة،
وهي متوترة كالحبال الغليظة!
وأيادٍ أخرى هادئة،وادعة،مستكينة،
لا يبدو عليها أي أثر للحياة...
لولا بعض الرعشات بين الفترة و الفترة!
ويعود هذا الضباب فيتبدد!
ليعود إلى التجمّع بصور و ألوان أخرى غاية في الغرابة!
وأنا باق في مكاني!.. أنعم النظر في هذه المشاهد الغريبة!
وفجأة تراءت لي سحابة كثيفة تجمعت واتحدت
مع قطع من (الضباب) السابح في الفضاء!..
حتى إذا ما ائتلف الجميع تكوّن من هذا (الضباب) جبار رهيب،
وهو متنْمطق بالغيوم!
ويضع مكان عينيه كوكبين يخطف بريقها البصائر والأبصار!
وبسط هذا الجبار يده،وصاح بي قائلاً:
"يا ابن الأرض!
بلّغ رسالتي هذه لأبناء قومك،
هؤلاء الأقزام الذين يظنون أنَّهم بلغوا من المعرفة والحكمة
الغاية التي ينشدونها!
قل لهم يا ابن الطبيعة ،ما أعْطيكه الآن..."
ودوّى صوته كهدير المياه وهي تتدافع في الأودية الصامتة!..
ثم قال:
"يا أبناء الأرض المساكين!
منذ عشرات الآلاف من السنين،
وأنا أشاهد أعمالكم،وأسمع أقوالكم،
وأراقب أفعالكم،
وأقرأ ما يجول في أفكاركم،
وإذا هي هي لا تتغيّر!
فأنتم تفْنَوْن في حب (المرأة)!
وتتهالكون على (المادّة)!
وتعبدون (السلطة)!
وتقدِّسون (السطوة)!
وتعتدون على (الضعفاء)!
وتكفرون (بالسماء)!
وتموّهون (لحقائق)!
وتخادعون بعضكم بعضاً!..
قويّكم يعتدي على ضعيفكم!
وخبيثكم يعتدي على آمنكم!
قُسُسُكم يتظاهرون بالتقوى وهم الأبالسة المتجسِّدون!
دستم على الوصايا!
وهزأتم بالشرائع الإلهية!
وكفرتم بالسماء!
وقدستم الأباطيل!
هزأتم بالتعاليم السامية!
واتبعتم شهوات قلوبكم الدنيئة!
قرأتم ما أوصاكم به سيّد الأطهار!
ولكنَّكم...لغلاظة في قلوبكم،ولعدم إيمان في أعماقكم،
لم تفعلوا بما جاء في هذه التعاليم السامية،
حتى ولا ببعضها!
لا، بل كانت أفكاركم لا تدور إلا حول الجرائم والشهوات،
والأماني الساقطة والنزوات!
وقد راقبتكم طويلاً!
وصبرت عليكم صبراً جميلاً...أجيالاً وآجالاً...
علكم تعودون وتصلحون خطأكم،
وعلّ (الندم) يجد له مكاناً في قلوبكم!
ولكن،عبثاً كان انتظاري هذا!..
فالأجيال المُملّة قد مضت وانقضت!
وأنتم ما زلتم على حالكم!
لا بل ازدادت آثامكم أضعافاً مضاعفة...
عما كان يقوم به آباؤكم،وأجدادكم!
لهذا،
صمّمت،اليوم أن أبلغكم (أمري) الذي لا يردّ،
والقاضي بتدمير(عالمكم) الحقير هذا...
الذي لوثتموه بجرائمكم،وأطماعكم،وشهواتكم!..
وأصدقكم،يا أبناء (الأرض) القول:
إن (روحي) قد سئمت كل ما هو كائن في عالمكم الوضيع!
لقد مَللّت شمسكم وقمركم!أفلاككم ونجومكم!
هضابكم و أوديتكم! أرضكم وسماءكم!أشجاركم وأطياركم!
سهولكم وجبالكم! بطاحكم ووهادكم!..
وكل ما تراه العين،ويصل إليه الإدراك في عالمكم الملوّث،
المُصاب بأعمالكم الوضيعة و أفكاركم الشائنة!
سأمحو (عالمكم) من (الوجود)،
وأجعلهُ نسياً منسيّاً،
لأن الإختبار أكّد لي
أنه محال أن تسموَ (أرواحكم)المثقَّلة بالأوزار!
فهي ستزداد سوءاً على سوء!
إن (إرادتي) قد قضتْ:
أن تلاشي(أرضكم) لتعود فتغمرها (بالضباب)!
(الضباب) الذي سيسود هذا (العالم)!
وسأجول أنا في (عبابه)طوال الأجيال القادمة،
من دون أن أدع لأيّ عنصر من العناصر المعروفة الآن عندكم،
أن يشاركني البقاء!
أما (الأطفال)...
هؤلاء الذين لم يلوثوا، بعد،
بأوزار هذه (الأرض) وشهواتها الدنيئة،
فسألمس (جباههم) بأناملي (السحرية)،
فيرقدوا رقاداً عميقاً!
حتى إذا ما (استيقظوا)...
وجدوا (أنفسهم) في(مكان) آخر
أسمى من (عالمهم) القاسي!
أما ( أجسادهم) الغضة،البريئة،
فسأحوّلها إلى (ضباب)!
بيروت في 10 أيار سنة 1942
( مختارات، ص 268 )
أيُّها الأجيال الطالعة، يا رجال المستقبل!
لا عجَبَ إنْ حدّثناكمْ عن الإيمان والأخلاق، وعن الفضائل والقيم الروحيّة، فأنتم اليوم في ربيع العمر تتفتّحُ عقولكم على مدنيّةٍ أبرزُ ما يقال فيها إنّها مدنيَّةُ علمْ . ولكنّكم في الوقت نفسه تشهدونَ إنهيار حضارةٍ تشامخَ فيها ماردُ العلمْ ونُحِرَتْ بسوس الرذيلة. إنَّ حضارةً إكتشفتِ الذرَّة وفجّرتها، وأطلعت سُفُنَ الفضاءِ، هي نفسها اليوم تستلقي في خَدَرِ الإلحاد فتكفُرُ بالخالقِ المعبود، لترسِفَ في الأغلال والقيود.
شئنا هذه المحاضرة وفي نفوسنا أملٌ بكم، أملٌ بأن تكونوا نواةَ جيلٍ ينمو إلى جانب الفضيلة ويترعرعُ في ظلالها، جيلٍ يحملُ مشْعَلَ الهدايةِ إلى أقصى أقاصي المسكونة، غير هيّابٍ ولا وجِل، جيلٍ يستشعرُ مرارة الضياع، فيعملُ على الإنقاذ.
ولكنْ، ليَعْلَمْ كُلٌّ منكم أنَّ إصلاح الآخرين يبدأ بإصلاح الذّات، " وأنَّ اللّه لا يُغيِّرَ ما بقومٍ حتى يغيِّروا ما بأنفسهم " ( سورة الرعد، آية 12 ).
دار النسر المحلّق شهر آذار 1973.