العدالةُ الروحيَّة والتقمُّص
بقلم الدكتور غازي براكس
في التعاليم الداهشيّة أنَّ الإنسان قوامُه جسَدٌ وسيَّالات وروح. فالروح هي أُمُّ سيَّالاته، لكنَّها لا تسكن جسدَه، بخلاف الظنِّ الشائع، بل تحيا في العالم الروحيِّ، لأنَّها نفثة إلهيَّة خلقَها الله على صورته ومثاله، فلا يشوبها الدَّنَس ولا تُخالطُها المادَّة. والجسدُ يتكوَّن من سيَّال الشكل العامّ الذي تؤلِّفُ طاقاتُه الاشعاعيَّة ذات التردُّد المُنخفض نسبيًّا العناصرَ الأوليَّة "الماديَّة" في الطبيعة. أمَّا السيَّالات فهي التي تُشكِّلُ أبعاد الإنسان الروحيَّة خارج العالَم الروحيّ، وهي التي تخضع للتقمُّص. غير أنَّ بعضًا قليلاً منها يتَّحدُ بجسد الإنسان ليُشكِّل ذاتَه النفسيَّة المتمتِّعة بالإدراك والنزعات والإرادة في دورةٍ من دورات الحياة التي تكاد تكون لا نهائيَّة.
فنتيجةً للعدالة الإلهيَّة، توجَّب أن يكون للسيَّالات الهابطة من عالم الروح، بفِعلِ استحقاقها المَبنيِّ على أَعمالها ورغباتها المُختارة، مقرٌّ مؤقَّتٌ تُعاني فيه المِحَن والتجارب التي تستحقّها حسب درجتها الروحيَّة. وهذا المقرُّ الماديُّ أشبه بسجن يحدُّ من قدرتها ومعرفتها وراحتها، تُمضي فيه الزمن الذي تُحدِّدُه المشيئةُ الإلهيَّةُ وفق استحقاق تلك السيَّالات.
وبناءً على ناموس العدالة والاستحقاق، وُجِدَت الأرض كوكبًا ذا مُستوًى مُنخفض نسبيًّا بين بلايين الكواكب، وكُوِّنَ البشرُ وسائر المخلوقات فيها، حيوانًا ونباتًا ومعادن وسوائل وغازات... وُجِدَت الأرض أشبه بصفٍّ ابتدائيّ في مدرسة الكون التي لا تُحصى صفوفُها، إذ إنَّ كلَّ كوكب أو نجم أو جُرم فضائيّ واحدٌ من صفوفها.
ومثلما يكون، بين أفراد الصفِّ المدرسيِّ الواحد، تقارُب في المستويات من جهة، وتفاوت من جهة أخرى ناشئ عن الدرجات المختلفة في الذكاء، والنشاط، والاجتهاد، والخمول، والنزعات الخيِّرة والشرِّيرة، فيما بينهم، هكذا في صفِّ الأرض أيضًا. ففيه سُلَّم روحيَّة ذات حدٍّ أعلى وحدِّ أدنى للمعرفة والقُدرة والخير والشرّ والراحة والشقاء. فبين الصخرة والعشبة والجرثومة والقرد والنسر والإنسان تقاربٌ من ناحية، وتفاوتٌ من ناحية أخرى، لكنَّ الجميعَ في صفٍّ واحد.
وإذا خُيِّل للإنسان أنَّ بينه وبين سائر الموجودات الأرضيَّة فارقًا شاسعًا جدًّا، فذلك لسببَين: أوَّلاً، لأنّه يجبُ أن يحصلَ فارقٌ كبيرٌ في صفّ أفراده يُعدُّون، لا بالعشرات بل بألوف الأجناس، وبلايين بلايين الكائنات؛ ثانيًا، لأنَّ الإنسان يقيسُ قيمة الموجودات الأرضيَّة النفسيَّة بمقاييسه البشريَّة، وهذا معيارٌ خاطئ. فالفوارق أقلُّ جدًّا ممَّا يتصوَّر الإنسان، وهي لا تتناول الجوهر، بل تتناول درجته الروحيَّة وكيفيَّة التعبير عن نشاطه.
إذا حلَّلنا الذاتَ النفسيَّة لإنسانٍ متوسِّط في إدراكه وسلوكه الشخصيِّ وفي أوضاعه الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، بحيثُ يصلحُ لأن يكون نموذجًا لفئةٍ تضمُّ بلايين من الناس، لرأيناه يتكوَّنُ من مجموعة حاجات ودوافع ورغبات وأفكار وقِيَم مُعيَّنة: فهو حريصٌ على المال، شغوفٌ بالظهور والوجاهة، نزَّاعٌ إلى الغرور والكبرياء، ميَّال للسيطرة على غيره، مأخوذ بالشهوة الجنسيَّة والملذَّات الحسيَّة، متَّصف بنزعة عدوانيَّة غالبًا مُقنَّعة. وإذا فعلَ التهذيب والتَّمْدين فِعْلَهما في نفسه، لَرأيناه يُنفقُ المال من أجل الخير العامّ، ولكن حبًّا بالظهور أيضًا، ويتواضع لرؤسائه ومُساويه من زُملائه ليستكبر على مرؤوسيه، ويُنَكِّر نهمَه للسيطرة بثوب مزيَّف قد يُسمّيه الطموح أو إرادة القوَّة، أو العزَّة والكرامة، ويُحمِّل نزعتَه العدائيَّة قيمة اجتماعيَّة فيحوِّلها إلى الدفاع عن الطائفة أو الأسرة أو الحزب أو الوطن، ويحتال على الآخرين في إشباع شهواته، بما يُسمّيه الآداب واللياقة والمشاركة الاجتماعيَّة. لكنَّ الدافعَ النفسيَّ الأصيل وراء هذه التصرُّفات ما يزال هو نفسه، وإن اختلف الاتّجاه أو الغاية. هذا الإنسان المنوسِّط الذي هو نموذج لبلايين من الناس، دوافعُه ورغباتُه وأفكارُه مبنيَّة على قِيَم ماديَّة فرديَّة أو مقنَّعة بقناع اجتماعيّ. إنَّه منجذبٌ إلى الأرض، راضٍ بأوضاعها، ممجّد لقيَمها، منصرف همّه إلى تحسين أحواله الماديَّة والاجتماعيَّة، سواء على صعيد الفرد، أو الوطن، أو البشريَّة. ولذلك تُسمَّى سيَّالاته بالسيَّالات الماديَّة النـزعة.
غير أنَّ فئة كبيرة من الناس قد تكون أكثر من الأولى، تقترنُ فيها السيَّالات (الماديَّة النـزعة) بسيَّالات شرِّيرة. فواحدها إذا حرص على المال، قتّر وسلب غيره؛ وإذا استعلى على أحد، نبذَه وحقَّره وكدَّرَ عَيشَه؛ وإذا سيطر، ظلم واستعبد؛ وإذا اشتهى، اغتصبَ وشذَّ وسكر وعربد؛ وإذا عادى، أذى وقتل حتى لسببٍ تافه.
وثمَّة فئة ثالثة كانت وما تزال قليلة العدد، تقترن فيها السيّالات الماديَّة النزعة بسيَّالات روحانيَّة. فهي، أحيانًا، تفعل الخير، لأنَّ الخير هو الأسمى؛ وتحبُّ القريب لأنَّ المحبَّة هي الأغنى؛ وتدرك أنَّ الإنسان أخو الإنسان، غنيًّا كان أم فقيرًا، سيِّدًا أم مسودًا، فتتواضع وتعدل؛ وتغضب للحقّ، وتسخط على الطغيان والباطل، وإن كلَّفتها الغضبة عذابًا واضطهادًا؛ وتروِّض وحش الشهوة فيها، فتُذلِّله وتخضعه لرقابة العقل وصوت الضمير الأعلى.
فالإنسان هكذا، إلى أيَّة فئةٍ انتمى، تُشكِّلُ ذاته النفسيَّة مجموعةٌ من السيَّالات الروحيَّة الجزئيَّة المُتجسِّدة، المتفاوتة في دوافعها ونزعاتها وقواها ودرجاتها، المتآلفة تارَّة والمتضاربة طورًا، لكنَّها، على تفاوتها، استحقَّت أن تتعايش معًا، في الجسد الواحد، تمامًا مثلما البشر والحيوانات وسائر الكائنات الأرضيَّة استحقَّت أن توجدَ معًا في جسد الأرض الواحد. غير أنَّ لكلِّ سيَّال من سيَّالات الفرد إرادته الخاصَّة، ودرجته الروحيَّة الخاصَّة التي تُميِّز نزعته نحو الخير أو الشرّ، ولذلك فتطوُّر السيَّال، ارتقاءً أو انحطاطًا، مرهون بنشاطه الخاصّ، إلى حدّ بعيد.
فمريم المجدليّة كان فيها سبعة سيَّالات نجسة، أي شرِّيرة، أخرجَها المسيحُ منها، بقوَّة الروح؛ [1] وهذه السيَّالات كانت تُعايش في جسدها سيَّالاتٍ روحانيَّة أهَّلَتها للإيمان بالناصريّ، ولحياة عفيفة نقيَّة. وبطرس الرسول كان فيه سيَّال روحانيٌّ راقٍ، هو الذي خاطبَه المسيح بقوله: "أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة سـأبني كنيستي"؛ [2] لكنَّ بطرس كان فيه أيضًا سيَّال آخر غير راقٍ هو السيَّال المشكِّك الذي خاطبَه المسيح، في الوقت نفسه تقريبًا: "اذهب خلفي يا شيطان، فقد صرتَ عقبةً دوني، لأنَّ أفكارَك ليست أفكار الله بل أفكار البشر"؛ [3] هذا السيَّال هو الذي كان مبعث شكّ بطرس وضعفه عدَّة مرَّات. [4] وسيَّال بولس (شاول) الذي دفعه إلى اضطهاد المسيحيّين ليس هو سيَّال بولس الرسول الذي دفعه إلى الجهاد والتألُّم والتضحية بنفسه من أجل نشر المسيحيَّة في العالم. [5] وسيَّال جبران خليل جبران الذي هيمن على "دمعة وابتسامة" هو غير السيَّال الذي هيمن على "العواصف"، وهذان غير السيَّال الذي أملى عليه "النبيّ" و "يسوع ابن الإنسان". [6]
وإذا كانت السيّالات التي تتوسّل الجهاز الجسديّ الواحد متعدِّدة، ومتفاوتة، ومتمايزة في نشاطاتها ودرجاتها، فليس من العدالة أن يكون مصيرُ السيّال الذكيّ كالغبيّ، ولا الكريم كالبخيل، ولا العفيف كالزاني، ولا المتكبِّر كالمتواضع... وبعبارة جامعة، لا يكونُ مصيرُ السيَّال الروحانيّ كمصير السيّال الماديّ أو السيّال الشرِّير؛ فكلُّ سيّال يتحمّل مسؤوليّة نشاطه الخاصّ.
ومع أنّ الإنسان يجتاز عدّة مراحل في عمره: من الطفولة إلى المراهقة، إلى الشباب، إلى الكهولة، فإلى الشيخوخة، ومع أنَّ خلاياه تتبدّل في سياق هذا التطوُّر، فتموت الملايين منها وتتجدَّد الملايين، وتتغيَّر صورتُه الشكليَّة، فإنَّ سيَّالاته الروحيَّة التي تُؤلِّف ذاته النفسيَّة يبقى كلٌّ منها متحمِّلاً مسؤوليّته الخاصَّة باستمرار، لأنّه يبقى هو نفسه.
وعند الوفاة، تنطلقُ سيَّالاتُ الإنسان، وكلٌّ منها بلغ درجة روحيَّة معيّنة تختلف عن الدرجة التي بلغَها كلٌّ من السيَّالات الأخرى. والعدالة الإلهيَّة تقضي بأن يلقى كلُّ سيَّال تجسُّدًا يتُاسب درجة استحقاقه. لذلك جعل العقلُ الإلهيُّ المدبِّر أشكالاً ماديَّة تكادُ لا تُحصى في الأرض، يحتلُّ السيَّالُ المنطلق من جسده البشريّ واحدًا منها. وقد يكونُ جسدًا بشريًّا آخر، أو جسدًا حيوانيًّا، أو نباتيًّا، أو معدنيًّا، أو غير ذلك... وقد ينطلق سيّالٌ ما من الإنسان ليلاقي مصيرًا تجسُّديًّا جديدًا، قبل أن تحين لحظة الموت، وذلك نتيجة عمل حاسِم يؤدِّيه السيّال فيسمو بسببه سموًّا عظيمًا أو يتسفَّل تسفُّلاً كبيرًا، بحيثُ لا يبقى جهازُه الجسميُّ الحاليُّ صالحًا لإيوائه لتميُّز هذا السيَّال تميُّزًا كبيرًا عن إخوته السيّالات الأخرى.
غير أنَّ الأشكالَ الماديَّة المألوفة في الأرض قد لا تبقى جميعها صالحة لملاءَمة السيَّالات الروحيَّة المُتجسِّدة ذات الدرجات الأرضيَّة، إذْ إنَّ هذه تتطوّر باستمرار. لهذا السبب كانت أشكال الحياة الأرضيّة في الأزمنة السحيقة زحّافات وحشرات وحيوانات هائلة الخلقة؛ ومعظم تلك الأشكال الحيوانيّة قد انقرضَت لأنّ صورَها الماديّة لم تبقَ ملائمة لاستقبال السيّالات الأرضيّة المستمرّة التطوُّر. ولهذا السبب أيضًا، ظهرت أشكال ماديّة جديدة، كان شكل الإنسان الحديث من بينها؛ وقد تظهر في المستقبل، إذا أُتيح للكوكب الأرضيّ أن يبقى، أشكال أخرى. لكنّ بنية الإنسان ليست أفضل الصور الحيّة، حسبما يُظَنّ؛ فليس ضروريًّا أن يكون الشكلُ الباقي هو الأفضل، لكنّه الأنسب للاندماج بالسيّالات الأرضيّة الباقية. فالانسانُ بشكله الحاليّ ليس كائنًا لا تستغني الحياةُ عنه، فهو مجرّد مظهر من مظاهرها. وليس من كائنٍ لا غنى للحياة عنه إلاّ الله. من أجل ذلك قد ينقرض الإنسان بشكله الحاليّ من الأرض، إذا قضَت المشيئةُ الإلهيّة ذلك، وقد ينحلُّ الكوكبُ الأرضيُّ نفسه وتتفكَّك ذرّاتُه إذا أصبح غير مُلائم لسيَّالات المخلوقات الأرضيَّة بسبب تدنِّيها الروحيّ الكبير. أمّا الظروفُ البيئيّة المرافقة لظهور أصناف الكائنات فهي أسباب لا بدّ منها لاستمرار سيّال الشكل في تلك المخلوقات.
وليس غريبًا أن يتّخذ السيالُ الواحد نفسُه أشكالاً مختلفة أحيانًا. ففي الأناجيل أمثلة واقعيّة على ذلك. فالروح القدس كان يحتلُّ يسوع الناصريَّ لدى إحداثه المعجزات، فيتّخذ من شكل يسوع الجسديّ شكلاً مؤقَّتًا له. لكنّه في أثناء معموديّة يسوع تشكَّل في صورة حمامة. وبعد القيامة من الموت، تجسّدَت شخصيّة يسوع[7] أمام تلاميذه في الغرفة المغلقة، ونفخت فيهم الروحَ القدس بشكل نَفَس. ولدى حلول الروح على التلاميذ في يوم الخمسين، تشكّل بصورة ألسنة ناريّة. [8]
فإذا كان السيّالُ الروحيُّ المتحرِّر من كلِّ صورة ماديَّة يمكنُه أن يتّخذ، لغايات روحيّة، أشكالاً محسوسة مؤقَّتة مختلفة، فبالأحرى السيَّالات الهابطة، بفعل ذنوبها، من أجل أن تُسجَن في صُوَر ماديَّة. [9]
وإذْ كان كلُّ سيّال في الإنسان لا بدّ من أن يلقى مصيره الذي استحقّه، لحظةَ انطلاقه من الجسد، فليس أمامه، مادام مستواه الروحيّ في حدود الدرجات الأرضيّة، إلاّ أن تدفعَه النواميس الإلهيّة إلى تقمُّص الشكل الملائم له بين ملايين الأشكال الماديّة في كوكب الأرض.
فالسيّالُ المتجبِّر المتكبِّر، أو المتألِّه الكافر، ربَّما يُمسَخ، في دورته الحياتيّة اللاحقة، كائنًا مُعَرَّضًا للتحقير والإهانة ولظروف الحياة القاسية الزريّة، فيكون جَناه اللاحق نتيجةَ زرعه السابق. فقد يتقمّص شكلَ حشرات مهانة كالنَّمل والصراصير والديدان والجرذان وغيرها... فمن أحاديث النبيّ محمّد المأثورة على أنّها صحيحة: "يُحشَر المتكبِّرون والمتجبِّرون يوم القيامة في صُوَر الذَّرِّ تطؤهم الناس، لهوانهم على الله عزّ وجلّ"؛ أو قد يتقمّص قردًا أو خنزيرًا أو دابَّة مزدراة... فبين عجائب السيّد المسيح معجزة توضح التقمُّص المَسْخِيّ بصورة عمليَّة؛ وهي التي يأمر فيها مجموعة من السيّالات النَّجسة كانت تحتلّ مجنونًا بأن تغادره لتدخلَ في قطيعٍ من الخنازير كان عدده نجو ألفين؛[10] كما وردَ في القرآن الكريم: "قُل هل أنبئكم بشرٍّ من ذلك مثوبةً عند الله، مَن لعنَه الله وغضب عليه، وجعل منهم القِرَدة والخنازير وعبد الطاغوت، أولئك شرّ مكانًا وأضلّ عن سواء السبيل"؛ [11] أو قد بتقمَّص كومةً من النفايات، أو مجرورَ أقذار، أو نعلاً يلازمُ قدمًا كيفما يتحرّك يوطأ... إلى أشكال زريَّة تكادُ لا تُحصَر.
وربَّما يُمسَخ السيَّالُ الغبيُّ حمارًا، والمعاندُ الحقيقة بغلاً، والمؤذي ذئبًا أو وحشًا ضاريًا، والمتكبِّر المتكالب على حطام الدنيا كلبًا... إلى ألوف الصور الماديَّة التي هي في علم الله عزّ وجلّ.
وربَّما يكون جزاء السيَّال الشرِّير في تقمُّص صورة بشريّ ذي وضع شخصيّ واجتماعيّ شقيّ، بحيثُ يولد أعمى أو أبكم أو أصمّ، أو مُصابًا بعاهة جسديَّة، أو مسكينًا متسوِّلاً، أو مُستعبَدًا مهانا، أو إنسانًا محكومًا بأوضاع اجتماعيَّة واقتصاديَّة قاسية وضيعة...
وقد تجعل العدالة الإلهيَّة كلَّ شرِّير مؤذٍ مُصابًا بسيَّال شرِّه وأذاه في دورة لاحقة: فمَن سرَق يُسرَق، ومَن أحرقَ يُحرَق، ومَن أغرقَ يُغرَق، ومَن افترى يُفترى عليه، ومَن استعبَد يُستعبَد، ومَن ظلَم يُظلَم، ومَن أذلَّ يُذَلّ، ومَن عذَّب يُعذَّب...
وعلى العكس من ذلك، فالسيَّال الذي رقَّى نفسه قد يتقمَّص إنسانًا يكون في وضعٍ صحيّ أو اجتماعيّ أو ثقافيّ أفضل، أو قد يتَّخذ شكلاً من أشكال الموجودات الطبيعيّة يكون في عرف الله أفضل من وضعه البشريّ السابق. فالأزهار، والأشجار، والطيور، والهواء النقيّ، والماء الصافيّ، سيّالاتها، بصورة غالبة، أرقى من سيّالات الناس العاديّين. [12]
***
إنَّ الحياةَ زاخرةٌ بالأحداث المُستَغلِقة على الأفهام المُحيِّرة للألباب. فكَم من إنسانٍ يولَدُ أعمى أو كسيحًا أو مُصابًا بعاهةٍ لا بُرءَ منها؛ يُقبِلُ على الدنيا حاملاً قدرَهُ المشؤوم في جسده، وهو لم يعمل بعدُ لا خيرًا ولا شرًّا! وكَم من إنسانٍ صالحٍ تقصرُ أيَّامُه وتكثرُ مُنغِّصاتُه، ومن طالح يطولُ عمرُه وتقلُّ مُكدِّراتُه! وكَم من حاكمٍ طاغية أو مجرمٍ باغية تُقبلُ الدنيا عليه، ومن خَيِّر بسيط القلب تُدبرُ الدنيا عنه!
فما ذنبُ الأطفال تلدُهم أُمَّهاتُهم للآلام والشقاء؟ وما ذَنبُ الأيتام والأرامل أو الشيوخ تحصدُهم آلاتُ الحروب الجهنَّميَّة؟ وما ذنبُ الأبرياء، في كلِّ عصرٍ ومِصر، تلتهمهم الحرائق، أو تبتلعهم الفيَضانات، أو تمحقهم الزلازل؟
إنَّ هذه الظاهرات المؤسية التي تبدو كأنَّها مُناقضة للعدالة الإلهيَّة جعلَت كثيرين، في كلِّ زمن، حتّى الأتقياء والصالحين، يقفون منها موقف المتسائل الحائر، حتّى إذا أعياهم الجواب، استَسلَموا إلى مشيئة اللّه، وأعلنوا عجزهم عن فضِّ أسرار حكمته التي لا يُحيطُ بها علم، أو شكَّكوا في العدالة الإلهيَّة وانجرَفوا في تيَّار الإلحاد.
لكن أيُعقَل أن يحجبَ اللّه -وهو العادلُ الرحيم- عن النَّاس طُرًّا الجوابَ الصحيح عن تلك الأسئلة الخطيرة؟ لا، فالجوابُ الصحيحُ جعلَه في الأديان كلِّها إمَّا واضحًا مُفصَّلاً وإمَّا موجَزًا مُلمَّحًا إليه، لسببٍ علمُه لديه، كما ألهَمَ به فلاسفة وأُدباء ومُفكِّرين في مختلف العصور: إنَّه قانون التقمُّص.
فأديانُ الهند الرئيسيَّة الثلاثة، الهندوسيَّة، والبوذيَّة والجَيْنيَّة، ترتكزُ تعاليمُها جميعًا على التقمُّص. وأتباعُ هذه الديانات يُعَدُّون أكثر من بليون شخص، أي ما يُعادل خُمس البشريَّة.
كذلك فاليهود، عهدَ المسيح، كانوا يؤمنون بالتقمُّص. وقد ظهرَت آثارُ عقيدتهم في التلمود، كما أصبحت من أُسُس "القَبالَة" Cabala، كتاب اليهوديَّة الباطنيَّة، وآمَنَ بها الفرِّيسيُّون، وعلَّمها الفيلسوفُ فيلو اليهوديّ Philo Judaeus( 15 ق.م. - 50؟ ب.م.) المولود في الإسكندريَّة؛ وقد كان تأثيرُه بالغًا في مدرستها الفلسفيَّة الشهيرة. وإيمانُ اليهود بالتقمُّص في زمان المسيح ظاهرٌ في الأناجيل حيثُ ورد: "وفيما هو [المسيح] يُصلِّي على انفراد، كان التلاميذُ معه، فسألَهم قائلاً: مَن تقول الجموع إنِّي هو؟ فأجابوا: يقولون إنَّك يوحنَّا المعمدان، وآخرون إنَّك إيليَّا، وآخرون إنَّ نبيًّا من الأوَّلين قد قام" (لوقا 9: 18-19). [13]
كذلك تُثبتُ الأناجيلُ أنَّ تلاميذَ المسيح كانوا يؤمنون بالتقمُّص، وذلك في قول يوحنَّا الإنجيليّ: "وفيما يسوع سائر، رأى رجلاً أعمى منذ مولده، فسألَه تلاميذُه قائلين: يا سيِّد، مَن أخطأ أهذا أم أبَواه حتّى وُلِدَ أعمى؟ أجاب يسوع: لا هذا ولا أبواه، لكن لتظهرَ أعمالُ اللّه فيه" (يوحنَّا 9: 1-3). فسؤالُ التلاميذ يقتضي إيمانَهم بأنَّ الولدَ كانت له حياة سابقة قبل ولادته؛ وجوابُ المسيح لهم لا ينفي وجودَ الولد في حياة سابقة، إنَّما ينفي أن تكون خطاياه فيها قد سبَّبَت ولادته أعمى، ذلك بأنَّ أعمالَ الإنسان وذنوبَه في حياته السابقة لها تأثيرٌ كبيرٌ في وضعه الصحيّ والاجتماعيّ في حياته اللاحقة، لكنَّ الأعمى المذكور كان مُصابًا بالعمى لا عن استحقاق، بل ليكون وسيلةً يُمجَّدُ بها اللّه في معجزة؛ إذْ لو كان أعمى عن استحقاق، لقضَت العدالةُ الإلهيَّةُ أن يبقى أعمى طول حياته كسائر العميان.
والتأكيدُ الصريحُ لحقيقة التقمُّص في الأناجيل يظهر في معرض سؤال التلاميذ للمسيح عن هُويَّة يوحنَّا المعمدان. فقد وردَ: "سألَه التلاميذ: لماذا يقولُ الكَتَبة إنَّ إيليَّا يجبُ أن يأتي أوَّلاً؟ فأجابهم: أجل، يأتي إيليَّا ويُصلحُ كلَّ شيئ. ولكن أقولُ لكم: إنَّ إيليَّا قد أتى، لكنَّهم لم يعرفوه، بل فعلوا به كلَّ ما أرادوا. وكذلك ابن الإنسان سيلقى منهم الآلام. ففهمَ التلاميذُ، حينئذٍ، أنَّه عنى بكلامه يوحنَّا المعمدان" (متَّى 17: 10-13).[14] وقولُ المسيح لم يكن مجازيًّا، إنَّما هو حقيقة. وقد حدثَ التقمُّصُ المذكور إتمامًا لنبوءة وردَت على لسان ملاخي، أحد أنبياء العهد القديم، حيثُ يقول: "ها ءَنَذا أُرسلُ إليكم إيليَّا النبيّ قبل أن يجيء يومُ الربِّ العظيم" (ملاخي4:5).[15]
كذلك تظهرُ حقيقةُ التقمُّص في قول السيِّد المسيح: "مَن قال كلمةً على ابن البشر يُغفَرُ له؛ أمَّا مَن قال على الروح القُدُس فلا يُغفَر له لا في هذا الزمان (أو هذا العالَم) ولا في الزمان الآتي (أو العالَم الآتي) (متَّى 12: 32). وفي الحالَين يقتضي تمام المعنى حياةً أُخرى يعيشها الإنسان وتكون تتمَّة لحياته الحاليَّة.
كما يظهر التقمُّص في قول يسوع: "إنْ أعثَرَتْكَ يدُكَ أو رِجْلُكَ فاقطَعْها وألقِها عنك، فخيرٌ لك أن تدخلَ الحياة وأنت أعرج أو أقطع من أن تُلقى في النار الأبديَّة ولكَ يدان أو رجلان..." (متَّى 18: 8) وتمامُ المعنى يقتضي أن يعيش الإنسانُ حياةً ثانيةً تكونُ فيها عاهتُه نتيجة عمله الإراديّ في حياته السابقة. [16]
وخاطبَ المسيحُ يوحنَّا قائلاً في رؤياه: "تمسَّكوا بما عندكم إلى أن أعود. ومَن يغلب ويحفظ أعمالي إلى النهاية، فسأُعطيه سلطانًا على الأُمم فيرعاهم بقضيبٍ من حديد..." (رؤيا 2: 25-27). وتمام المعنى يقتضي أن يعيشَ المؤمنون حيواتٍ متعاقبة، تكونُ إحدى دوراتها عند عودة المسيح؛ فإذْ ذاك يُعطي الثابتين من المؤمنين سلطانًا على الشعوب.
كذلك قول المسيح لتلاميذه: "كونوا أنتم كاملين كما أنَّ أباكم الذي في السماوات هو كامل" (متّى5: 48) يوجب حيواتٍ متتالية كثيرة يعيشُها الإنسانُ، ليتمكَّن في خلالها من التغلُّب على ميوله الدنيويَّة ونزعاته الشرِّيرة، ومن الارتقاء الروحيّ العظيم الذي يؤَهِّله لولوج عالَم الكمال، عالَم الأُلوهة. فأيُّ بشريٍّ يستطيع أن يدَّعي أنَّه بوسعه أن يبلغَ الكمال في حياة واحدة؟ فإذا استحال ذلك، فكلامُ المسيح لا يكون له معنًى إلاَّ إذا أُتيحَ للإنسان أن يعيش حيواتٍ كثيرة تتكرَّر فيها تجاربُه ومحاولاتُه للتغلُّب على الدنيا.
ومع أنَّ عقيدة التقمُّص غير مُفصَّلة في الأناجيل كما في الأديان الهنديَّة، فقد تركَت آثارًا واضحةً في تعاليم كثيرين من آباء الكنيسة الأوائل، وفي عدَّة مذاهب مسيحيَّة قديمة وحديثة. فمن آباء الكنيسة أُوريجينوس Origen (185؟ - 254؟) وهو من مواليد الإسكندريَّة، وبونافنتورا Bonaventura (1217؟ - 1274)، وهو من مواليد توسكانا، وقد طوَّبَتْه الكنيسة الكاثوليكيَّة قدِّيسًا بالرغم من آرائه التقمُّصيَّة. ومن المذهب المسيحيَّة التي أخذَت بعقيدة التقمُّص الغنوستيَّة Gnosticism في القرون المسيحيَّة الأُولى، والكاثاريَّة Catharism في العصور الوسطى، والأنطونيَّة Antoinisme التي بدأت انتشارها بأوروبَّا في أواخر القرن التاسع عشر.
وفي القرآن الكريم كثيرةٌ هي الآيات التي تؤَكِّدُ التقمُّص؛ منها:
{كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثمَّ يُميتُكم ثمَّ يُحييكم ثمَّ إليه تُرجَعون} (سورة البقرة: 28).
{يا أيُّها الإنسان، ما غرَّكَ بربِّكَ الكريم الذي خلقَك فسوَّاك فعدَلَك، في أيِّ صورةٍ ما شاء ركَّبَك} (سورة الانفطار: 6-8). [17]
{قالوا: ربَّنا أَمَتَّنا اثنتَين وأحيَيتَنا اثنتَين، فاعترَفنا بذنوبنا، فهل إلى خروجٍ من سبيل؟} (سورة غافر: 11).
وعلى هذه الآيات القرآنيَّة وغيرها [18] بُنِيَت معتقداتُ عدَّة فِرَق إسلاميَّة جعلَت التقمُّص في عِداد حقائقها، وبينها الدرزيَّة وفِرَق شيعيَّة باطنيَّة. [19]
***
لكنَّ الغاية من هذه المقالة ليست عرض نظريَّة التقمُّص مثلما فُصِّلَت في المذاهب الدينيَّة، ولا مثلما عُرِضَت في كتابة عشرات المفكِّرين الأفذاذ قُدامى ومُعاصرين، بل عَرْض مظاهر التقمُّص وأسبابه مثلما تتراءى في كتاب مؤسِّس الداهشيَّة المُلهَم "قِصَص غريبة وأساطير عجيبة" بأجزائه الأربعة.
والقِصَصُ التي سأسردُ وقائعَها قد تبدو للقارئ مُغرِقةً في الخيال، بعيدةً عن الواقع، لكنَّ مؤسِّسَ الداهشيَّة الذي تشهدُ على صدقه ومعرفته الروحيَّة الخارقة أُلوفُ المعجزات المُذهلة التي حدثَت على يدَيه يقولُ مؤَكِّدًا:
"القِصَصُ التي ذكَرتُ فيها حوادثَ التقمُّص ليست خياليَّة؛ فأنا أُؤمنُ بالتقمُّص إيماني بوجودي، أي إنَّ الإنسان يتكرَّرُ مجيئه إلى الأرض ليتطهَّر من أوشابه ويتخلَّص من أوزاره" (ج2، ص7).
فلْنرَ الآن كيف يتمُّ التقمُّص في الحياة الواقعيَّة وفقًا للتعاليم الداهشيَّة.
أوَّلاً- إنسانٌ يتقمَّصُ إنسانًا:
في قصَّة "صداقة حميمة فعداء مُبيد" (ج2، ص 196-210) يتلقَّى جودي دعوةً من صديقه جيمس للنزول ضيفًا عنده في لندن مع مَن يُريد اصطحابه. فيُلبِّي الدعوة، ويختار صديقه الحميم أَلْفرِد لمرافقته. وتكون الزيارة فرصةً سانحةً لوَضع صداقة جودي وألْفرد على مِحَكِّ التجربة، إذْ يتنافسان في خَطْب وُدِّ سوزي، ابنة جيمس. لكنَّ الغادةَ تنجذبُ إلى جودي مُعرِضةً عن صديقه، فيشعرُ ألفرِد بكبريائه تُجرَح في الصميم، وتشتعلُ في نفسه شهوةُ الانتقام من صديقه. وبعد عودتهما إلى بلدهما المكسيك، يغتنمُ أَلفرِد فرصةَ زيارة جودي له، فيُنوِّمُه بمُخدِّر يسكبُه له في الماء، ثمَّ يُقيِّده ويفقأُ عينَيه بسيخٍ حديديٍّ مُحمًّى. وتنتهي هذه المأساةُ بموت جودي وقَتْل ألفرِد.
كثيرون ممَّن يطَّلعون على هذه الحادثة يظنُّون أنَّ قتلَ أَلفرد على يد شقيق جودي قد أوفى العدالةَ حقَّها. لكنَّ العدالةَ الروحيَّة أبعدُ من ذلك، وهي تأبى إلاَّ أن يكون الجزاءُ من نوع العمل. فأَلفرِد زرعَ بالجريمة التي ارتكبَها بذرةَ شرّ معيَّنة، وعليه أن يحصدَ جناها في تقمُّص لاحق، إذْ يولَدُ "أَعمى" (ج 2، ص 211- 220). ويجمعه القدَر، بعد أن يشبَّ، بفتًى يصطفيه صديقًا له هو جيرار. وتشاءُ الأقدارُ أن تنزلَ في ضيافة والدة قَتام الأعمى صديقةٌ لها مع ابنتها الوحيدة، بِتِرفلاي. فتعلَقُ الفتاةُ جيرار. وتتأجَّجُ جُذوةُ الحقد والانتقام في نفس قتام، فيُصمِّم على تسميم صديقه. لكنَّه سرعان ما يكتشفُ في حلمٍ يراهُ سببّ ولادته أعمى، وهو أنَّه فقأَ عَيْنَي صديقه في تقمُّصٍ سابق، كما يكتشفُ أنَّ بترفْلاي هي سوزي، فتكون الصدمةُ قويَّة عليه لأنَّه كان شديد التذمُّر من وضعه الشقيّ، كثير التظلُّم من "قسوة" ربّه، ويجرع السمَّ الذي كان قد أعدَّه لإهلاك صديقه، فيهلك هو بَدَلاً عنه.
وفي قصَّة "أُحبُّ الاثنتَين" (ج2، ص 232-236) يُصارحُ (ليثُ الغاب) غادتَين صديقتَين (شمس الضُّحى) و (وردة الربيع) بحبِّه لكِلتَيهما. لكنَّ (وردة الربيع) تعتزمُ الاستئثار به، فتتظاهرُ بالمودَّة لمُنافِستها، ثمَّ تصطحبُها إلى نزهةٍ في الجبل. وبينما تكونان في إحدى شُعَبه الضيِّقة، تدفع (شمس الضُّحى) صديقتها، فتهوي إلى الوادي، لكنَّ صخرةً ضخمةً تعترضُ هُويَّها، فيصطدمُ رأسها بها ويُفلَق. بعد ذلك تعيش (شمس الضُّحى) في كوابيس متلاحقة حتّى تقضي نحبَها في سكتةٍ قلبيَّة من غير أن تقترن بمَن تحبُّهُ.
لكن أتكونُ العدالةُ الروحيَّةُ قد استَوفَت حقَّها بموت الجانية؟
لا، فما زُرِع في حياةٍ لا بُدَّ أن ينمو في حياةٍ أخرى. وهكذا تتقمَّص (شمس الضُّحى) أميرةً مصريَّةً فاتنة (ج2، ص 237-240) تقترنُ بشابٍّ يُحبُّها وتُحبُّه. لكنَّ أيَّام أفراحها لا تطول، إذْ إنَّها بينما تكونُ تنتظرُ قدومَ حبيبها رعمون في الحديقة، تهوي عليها فجأةً مِسَلَّةٌ عظيمةٌ كانت قد أُقيمَت احتفاءً بذكرى مولدها الثامنة عشرة، فتسحقها. ولكن لماذا قُتِلَت الأميرةُ بهذه الطريقة الغريبة؟ يكشف الدكتور داهش عن أنَّ حجر المسلَّة هو نفسه حجر الصخرة التي تخضَّبَت بدماء مُنافِستها (وردة الربيع) في تقمُّص سابق، وسيَّالُ الصخرة نفسه سينتقم من الجانية فيما بعد، وفقًا لنظامٍ روحيٍّ دقيق. لقد قتلَت غريمتَها بإسقاطها على صخرة، إذن تُقتَلَ هي بسقوط الصخرة نفسها عليها.
ثانيًا - إنسانٌ يتقمّص حيوانًا:
لكن ليس محتومًا أن يتقمَّص الإنسانُ، بعد موته، إنسانًا آخر؛ فقد يتقمَّص حيوانًا لأسبابٍ كثيرة؛ منها نزعةٌ شرِّيرة فيه أو رغبةٌ شديدة تضعُ سيَّالاته -أي طاقاته النفسيَّة- في مجال الجاذبيَّة الروحيَّة التي تتَّصفُ بها سيَّالاتُ نوع من الأنواع الحيوانيَّة. وتُهيمنُ على هذا التحوُّل العدالةُ الروحيَّة وفقًا لنظامٍ إلهيٍّ دقيق.
ففي قصّة "الكلب الشريد الطريد" (ج 1، ص 52-55) يصفُ الدكتور داهش كلبًا جائعًا هزيلاً "يقوده أنفُه إلى ملحمة يقفُ أمام بابها ذليلاً؛" لكنَّ صاحبها بدَل أن يرحَمَه بعظمة يُلقيها إليه، ينهالُ عليه بهراوة غليظة ضربًا مُبرِّحًا ثمَّ يشجُّ رأسَه فيُهلكُه.
إنَّ مؤسِّسَ الداهشيَّة يؤكِّدُ أنَّ الحيوانات تتمتَّع بحياةٍ نفسيَّةٍ كالإنسان؛ فهي تُدرك وتشعر بالألم والحزن والفرح، كما إنَّها مسؤولة عن أعمالها ورغباتها بالنسبة للنظام الروحيِّ الذي يسودُ عالمها.[20] ولذلك فتعذيبُ الحيوان والاعتداء عليه كتعذيب الإنسان والاعتداء عليه من حيثُ تَرَتُّب المسؤوليَّة الروحيَّة على المُعتدي.
وهكذا تشاءُ الأقدارُ أن يولَدَ الكلبُ القتيلُ أميرًا، وأن يتقمَّصَ سيَّالُ صاحب الملحمة المُعتدي كلبًا. وكان كلبًا تاعسًا "مقطوع الذَّيل، مصلوم الأُذنَين، ضامر البطن، أعمش العينَين، أجربَ الجسم."
رآهُ الأمير مرَّةً ينهالُ عليه عدَّةُ فتيانٍ بالعِصيِّ والحجارة، فأنقذَه، وأمر بتضميد جراحه، وبتقديم الطعام له. لكنَّ الكلبَ أبى أن يذوقَ طعامًا، بل انكمشَ على نفسه، وجعلَت دموعُه تجري هتَّانة.
وتكشَّف الأميرُ سرَّ الكلب في حُلمٍ رآه وأخبر ذَويه به، فاندفعوا حيثُ كان الكلبُ في القصر، فإذا دموعُه ما زالت تتساتل، فتأكَّدَت لهم حقيقة الحلم. وازدادوا عجبًا حينما شاهدوا الكلب يلعقُ يدَي الأمير ويتمرَّغ دون قدمَيه، ثمَّ يعدو على الدرج إلى سطح القصر الشاهق، ويُلقي بنفسه إلى الأسفل مُنتحرًا.
أمَّا لماذا أبدى الكلبُ ذلك التصرُّف، فالسببُ تكشفُها التعاليمُ الداهشيَّة بأنَّ الحيوانات منحَتها القوَّةُ الموجِدة حسًّا يُخوِّلُها أن تعرفَ مَن كانت في حياتها السابقة، وسببَ مُجازاتها بتقمُّصها حيوانات. وهذه المعرفةُ للحياة الماضية حجبَها الله عن الإنسان رحمةً به.
وعلى نقيض مجرى الأحداث في هذه القصَّة أحداثُ قصَّة "الملك الكلب" (ج2، ص 13-14) إذْ إنَّ ملكًا مُستبدًّا يغتصبُ زوجةً فاتنة ويأمر بإلقاء زوجها الشابّ إلى الذئاب، فيتقمَّص الملك، بعد موته، كلبًا يُعاني من العذاب ألوانًا، ثمَّ تلتهمُه الذئابُ في ليلةٍ ثلجيَّة، فيحصدُ هكذا ما زرعَه.
وشبيهٌ بمصير الملك مصيرُ الرئيس الطاغية الذي جوزِيَ فتقمَّص بغلاً (ج 2، ص 40-42) قاسى عذابًا شديدًا من الحمير كما من صاحبه، وأخيرًا رمى نفسه في حفرةٍ تنصبُّ فيها مجاريرُ القرية، بعد أن أشعل صاحبه النار في جسمه.
وفي "التقمُّص والتناسخ أو عظُمَ ذَنْبُه فقُطِعَ ذَنَبُه" (ج 2، ص 31-39) يعرض الدكتور داهش قصَّة شقيقَين توأمَين، شِبل وغَضوب، تنافسا في خَطْب وُدِّ فتاةٍ خُلاسيَّة، داجية، كانت جارتهما؛ لكنَّ الفتاة انجذبَت عاطفتُها إلى غَضوب، فعاطاها الغرام خفية. وعرفَت والدتُه بالأمر، فغضبَت عليه وانصبَّت على الفتاة ووالدتها بالشتائم المُقذِعة، الأمر الذي أثار عاطفة غضوب وغضبه، فدفع والدته بعُنف، فاصطدمَ رأسُها بحافَّة العتبة، فقضَت نحبَها. فانتفضَ ابنُها شبل للمشهد المؤسي، وانقضَّ بسيفٍ كان قربه على مؤخَّرة شقيقه ثمَّ بترَ ساقَه، فأورده حتفَه. وانتهت المأساةُ بقَتل شبل لشرطيَّين حاولا الإمساك به، ثمَّ بِقَتل نفسه.
غير أنَّ أحداثَ المأساة تنتقلُ إلى مسرحٍ آخر لتستوفيَ العدالةُ الروحيَّةُ حقَّها. فتتقمَّص والدةُ الشابَّين قطَّة، ما تلبث أن تلِدَ ذكرَين هما شِبْل وغَضوب، وأُنثى هي الفتاة الخُلاسيَّة نفسها. وتجتاحُ سيَّارة القطَّ شبُّول (شبل) فتتسبَّب بقَطع ذنبه وكَسر رجله.
أمَّا تعليلُ هذه الأحداث فيوردُه مؤسِّس الداهشيَّة هكذا:
"والدة غضوب وشِبْل جوزِيَت فتقمَّصَت قطَّة، وذلك لكراهيتها لداجية ولتحاملها على والدة داجية بقسوةٍ وعُنفٍ بالغَين، إذْ قالت لابنها غضوب: "ما داجية إلاَّ قطَّة شرِسة." فأجابها غضوب: "لو قُدِّرَ لداجية أن تتقمَّص قطَّة لتمنَّيتُ أن أكون قطًّا لأقرنَ مصيري بمصيرها." وشِبل ما انتضى مُهنَّده ونكَّل به بشقيقه إلاَّ غيرةً وحسدًا من تفضيل داجية لشقيقه غضوب عليه، فجوزِيَ إذْ عاد إلى الأرض ثانيةً متقمِّصًا كقِطّ، واجتاحَتهُ سيَّارة ممَّا سبَّب له قطعَ ذنبه وكَسْر رجله؛ فالعدالةُ الروحيَّةُ تقتضي أن يُصاب بما أصاب به شقيقَه. فبالكيل الذي تكيلون به يُكال لكم ويُزاد. وهكذا عادوا جميعهم إلى عالم الأرض متقمِّصَين كقِطَط، واجتمعوا معًا لتتكرَّر تجربتُهم. فإذا استطاع غضوب أن يمتنعَ عن داجية التي أصبحت الآن شقيقته، فإذْ ذاك يُرقِّي درجَته الروحيَّة. وكذلك شبل، عليه أن يكون عفيفًا مع داجية التي أحبَّها في تقمُّصه السابق من صميم قلبه، وأصبحت الآن شقيقته. وما اجتمعَت، ثانيةً، واندمجَت بهم إلاَّ لتكون كالشَّرَك المتين ليقتنصهما. فإذا تغلَّبا على رغبتهما بالامتناع عنها، رقَّيا سيَّالاتهما، وإلاَّ فسيتكرَّر تقمُّصهما، وبتكراره تتجدَّد آلامهما بما سيعترضهما من عقباتٍ كأداء في عالم الأرض الملأى بالشرور والنكبات الجِسام."
والعبرةُ في ذلك أَنَّ على الإنسان أَن يُغالبَ أَيَّ مَيلٍ شرّير أَو رديء فيه، كالبُغض والحسَد والظلم وحبِّ الأذيَّة والزنى، لأنَّه لا يعرفُ كيف سيُجازى عليه. كذلك عليه أَلاَّ يُبرِّرَ ميلَه ذاك أَيَّ تبرير، لأنَّه إذا لم يتغلَّب عليه مهما كلَّفَه من مشقَّة، فإنَّه سيُسبِّبُ له تكرارَ تقمُّصاته الدنيويَّة الشقيَّة، وربَّما هبوطَه إلى العوالم الجحيميَّة. أمَّا إذا تغلَّبَ عليه فسيُرقّي سيّالاته ويستحقّ تقمُّصًا أفضل.
لكنَّ تقمُّص الإنسان حيوانًا لا يكونُ دائمًا لمُجرَّد عقابه. فقد يكونُ تحقيقًا لرغبةٍ شديدةٍ تعتلجُ في نفس الإنسان، كأن تتمنَّى فتاةً عند موتها أن تصبحَ ضفدعة لشدَّة ما تُحبُّ المكوثَ في الماء، [21] أو أن يتمنَّى عريسٌ وعروسُه، عند احتضارهما، أن يتقمَّصا عصفورَين، [22] فتستجيبُ القوِّةُ الموجِدة للدعاء الحارّ المقرون بالرغبة الشديدة، ذلك إذا استحقّ الراغبُ هذا التقمُّص.
كما قد يكونُ تقمُّص الإنسان حيوانًا للاقتصاص من مُعتدٍ شرِّير برَدِّ ظُلمه إليه بمِثله، كما الحالُ في قصَّة "والدة لم يُسجِّل التاريخُ قسوةً كقسوتها وإجرامًا كإجرامها" (ج1، ص 104-107). ففيها يذكر الدكتور داهش أنَّ امرأةً روسيَّةً، بتروفسكا، اتَّجهَت بعربتها التي يقودُها حصان إلى قريةٍ نائية، في ليلةٍ ثلجيَّة؛ وكانت تصطحبُ طفلَها وطفلتَها. وهاجمَت الذئابُ العربة، فأَلقَت الأُمُّ إليها بابنها ثمَّ بابنتها لتُشغلَها عنها. وقد لاقَت الأثيمةُ حتفها بعد عامَين من سجنها.
لكنَّ عقابها المزدوج لم يكن كافيًا بنظر العدالة الإلهيَّة. فقد تقمَّصَت فتاةً روسيَّةً باسم فالنتينا. وبعد أن عقدَت خطبتَها على شابٍّ روسيّ، شاءَت الأقدارُ أن تقرأَِ أمامه خبر بتروفسكا المُفجع، وذلك بعد ستِّين عامًا من حدوثه، وأن تُدافعَ عن الجانية، الأمرُ الذي استَفظَعهُ خطيبُها، ففصمَ خطبتَه لها وغادرَها. لكنَّها اعتزمَت الاقتصاصَ منه، فطاردَتهُ ليلاً. وكان أن هاجمَتها الذئاب، وافترسَها اثنان منها كانا طفلَيها نفسهما في دورٍ سابق، وقد استحقّا أن يولَدا ذئبَين.
وشبيهٌ بهذا التقمُّص ما حدث في قصَّة "حُبّ نيرانُه مُبيدة" (ج 1، ص 70-77)؛ ففيها يخونُ مكاروف صديقه ويقتُله، ثمَّ يغتصبُ عروسَه ويقتلها أيضًا لطَمسِ آثار جريمته المزدوجة؛ وقد كانت شقيقتُه شريكتَه في الجناية. "لكنَّ عينَ الله المُراقبة كانت لهذَين المجرمَين بالمرصاد، فالمكانُ الذي حفرا فيه الحفرةَ لضحيَّة الغدر كان مكمنًا للعقارب؛ فلسعَت هذه العقارب المجرمَين لسعاتٍ مُميتة أوردَتهما مواردَ التهلكة."
غير أنَّ هذا الجزاءَ الإلهيَّ الفوريَّ لم يكن كافيًا، فالعدالةُ الروحيَّةُ اقتضَت أن يتقمَّصَ الجانيان، في روسيا نفسها، باسم بوشكين وكْراسيا. وعشيَّة اليوم المُعيَّن لعرسهما، بينما كانا مُتَّجهَين على زحَّافة إلى قرية العريس، فاجأَهما ذئبان كانا تقمُّصَيْ ضحيَّتَيْهما في الدور السابق، فمزَّقاهما ولم يُبقيا منهما إلاَّ العظام. فما يزرعه الإنسانُ فإيَّاهُ يحصد.
***
يقولُ مؤسِّسُ الداهشيَّة في مقدّمة الجزء الثاني من "قِصَص غريبة وأساطير عجيبة":
"مِن المؤكَّد أنَّ [الإنسان] لا يستطيع أن يكون سلوكُه مثاليًّا إذْ إنَّ دنيانا حافلة بشتَّى المُغريات التي تُسقطُه في أشراكها التي لا ينجو منها ناجٍ. فالمرأةُ له بالمرصاد، تستهويه فيندفع في خِضَمِّ الشهوات العارمة، وحبُّ المال يُكبِّلُه بكبوله التي لا تُقاوَم فيستعبدُه، والعظمة، وحبُّ الوجاهة، والكبرياء الخ... جميعُ ما ذكَرتُ تقودُه إلى مهاوي الهلاك المؤكَّد".
وإذا اعتبَرنا أنَّ مُعدَّلَ عمر الإنسان 75 سنة، وحذَفنا منه سنوات الطفولة غير المسؤولة المقدَّرة بـ 15 عامًا، ثمَّ حوالى ثلث عمره الباقي الذي يُقضِّيه في النوم، ثمَّ ثلثًا آخر يُقضِّيه مريضًا، أو منهمكًا في تحصيل معيشته -لو حذَفنا كلَّ تلك السنوات من مُعدَّل عمره، لَما بقي له إلاَّ حوالى 20 سنة، عليه أن يُصارع فيها ميولَه الشرِّيرة ونزعاته الدنيويَّة ليستطيعَ أن يُرقِّي نفسَه فيستحقَّ النعيم وينجو من الجحيم. وهذه المدَّة الباقية لا تكفي على الإطلاق ليتمكَّن الإنسانُ من الانتصار على طبيعته البشريَّة النزَّاعة للشهوات الدنيويَّة والأمَّارة بالسوء؛ وهكذا "سيذهب البشرُ جميعُهم إلى جهنَّم النَّار المتَّقدة" -على حدَّ قول مؤسِّس الداهشيَّة- "ويمكثون مُخلَّدين فيها من دهرٍ إلى دهر، ومن أزلٍ إلى أبد. وهذا أمرٌ غير جائز إطلاقًا، وظلمٌ رهيب، فرحمةُ اللّه عظيمة وعميمة. لهذا أعطانا فرصةَ إصلاح أنفسنا والارتقاء بأرواحنا، فمنحَنا نعمةَ التقمُّص؛ وربَّما أعطانا إيَّاها 6000 مرَّة نعودُ فيها إلى عالَم الأرض، لنتغلَّبَ في خلال هذه التقمُّصات الألفيَّة على ضعفنا البشريّ والارتقاء بأرواحنا لنبلغَ جنَّة النعيم. "ففي خلال هذه التقمُّصات الـ 6000 ممكنٌ لأيِّ بشريّ أن يُحسَّن سلوكه في خلال دوراته الحياتيَّة وتكرار ذهابه وإيابه. فإذا تكرَّر مجيئُه 6000 مرَّة، وبقِيَت أعمالُه شرِّيرة، إذن يستحقَّ، إذْ ذاك، أن يُخلَّدَ في جهنَّم النَّار الخالدة بنيرانها، وهذا يكونُ عدلاً وحقًّا." وعلى القارئ أن يفهمَ معنى الخلود هنا بالدهر الطويل وليس بالزمن الذي لا نهاية له، لأنَّ كلَّ زمنٍ له نهاية، وليس سوى اللّه أزليٌّ أبديّ.
***
ويُستَخلَص من أجزاء كتاب "قِصص غريبة وأساطير عجيبة" الأربعة الأمور التالية:
أوَّلاً- على كلِّ إنسانٍ أن يُدركَ أنَّ أوضاعَه الصحيَّة، العقليَّة والجسديَّة، وظروفه الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة هي أفضلُ ما يُمكنُ أن يكون عليه بالنسبة لأعماله ونزعاته في دورته الحياتيَّة السابقة ووفقًا لنظام العدالة الروحيَّة الشامل. ولذلك فعليه أن يتقبَّل الأحوال التي وُلِدَ فيها شاكرًا رحمة الله، غير مُتذمِّر ولا مُتظلِّم، وأن يسعى أقصى جهدِه ليُحسِّنَ أعماله وأفكاره ورغباته، لكي تتحسَّن أوضاعُه إن لم يكن في حياته الراهنة ففي حياته المُقبلة، سواءٌ أكان ذلك في امتداداته التقمُّصيَّة عَبرَ أولاده، أم في تقمُّصاتٍ مُستقلَّة.
وكونُ الوضع الراهن لأيِّ كائنٍ هو الأفضل له ينطبقُ أيضًا على الحيوان والنبات والجماد. وقصَّة "تحوَّلَ الكلبُ لإنسان فحلَّت عليه المصائب" (ج1، ص 127-133) توضيحٌ وتصديقٌ لذلك. [23]
ثانيًا- يستحيلُ أن يتذكَّر الإنسانُ حياته في دورْ سابق، بخلاف ما يُشاع ويُكتَب عن إمكان ذلك. وسببُ هذه الاستحالة أنَّ نفسَ الإنسان تتكوَّن من عدَّة سيَّالات روحيَّة لا من سيَّالٍ واحد، وأنَّ النشاطَ النفسيَّ، أكان أعمالاً أم أفكارًا أم رغبات، تشتركُ فيه السيَّالاتُ جميعها، وإن يكن اتِّخاذ القرار يعود، في الغالب، للسيَّال المُهَيمن عليها خَيِّرًا كان أم شِرِّيرًا، روحيَّ النزعة أم ماديَّـَّها. ولدى انطلاق السيَّالات عند وفاة الإنسان، يكون كلٌّ منها على مستوى روحيٍّ يختلفُ عن الآخر. وهذا المستوى يؤَهِّلُ كلَّ سيَّالٍ ليتَّخذ جسدًا يُناسبُ درجته ونزعاته وما ارتكبه من أعمال. وهكذا تتبعثر السيَّالات في تقمُّصاتٍ مختلفة ربَّما كانت موزَّعة في الأرض، أو ربَّما انتقلَ بعضُها بفِعْل استحقاقه إلى عالَمٍ عُلويٍّ أو سُفليّ. ويكونُ مَثَلُ النفس، إذ ذاك، مَثَلَ الورقة التي كُتِبَت عليها قصَّة، ثمَّ مُزِّقَت ونُثِرَت مِزَقُها مع الرياح. فعثورُنا على مِزْقةٍ منها لا يُمكِّنُنا، في أيِّ حال، من معرفة مُجمَل القصَّة تَبعًا لِما كان يُوضِّحُه مُؤسِّسُ الداهشيَّة.
وعلى الخائف من ضياع هُويّته شخصيَّته الإنسانيَّة من جرَّاء البعثرة النفسيَّة أن يعلمَ أنَّ كيانَ الإنسان الفرديّ، كأيِّ كيانٍ ماديّ فرديّ آخر، يكونُ له مثالٌ يُحفَظُ في عالَمٍ خاصّ. أمَّا الوحدةُ الروحيَّة الحقيقيَّةُ فتكونُ في الروح النقيَّة التي تحيا في عوالم الأرواح والتي تتَّصلُ بها اتِّصالاً إشعاعيًّا خفيًّا جميعُ السيَّالات التي تكونُ هابطة منها بفِعل اختيارها. وهذا أمرٌ معقَّد ليس المجالُ هنا للخوض فيه.
ثالثًا- قد يتركُ سيَّالٌ شخصًا ما، في أثناء حياته أو بعد موته، لينتقلَ إلى شخصٍ آخر ينتمي أيضًا إليه، وذلك وفقَ ترتيب روحيّ. مثالُ ذلك انتقالُ سيَّال الصيَّاد الذي قتل الحيَّة، عام 1916، إلى الدكتور فريد أبي سليمان. وكانت الحيَّةُ تعتزمُ لَدْغَ طفل، ابن سبع سنوات، سيُصبحُ فيما بعد مؤَسِّس الرسالة الداهشيَّة (ج2، ص 30). لكنَّ السيَّالَ المنتقل إلى إنسان، بعد ولادته، يستحيل أن يكون سيَّاله الرئيسيّ، لأنَّ السيَّال الرئيسيَّ هو الذي يمدُّه بالحياة ويمنحُه طابَعه الشخصيَّ المميَّز.
رابعًا- مثلما أنَّ الإنسانَ قد يتقمَّص إنسانًا آخر أو حيوانًا أو نباتًا أو جمادًا، فإنَّ أيَّ سيَّال يكونُ في أحد العوالم الثلاثة غير البشريَّة يُمكنُ أن يتَّخذ تقمُّصًا آخر في عالمه نفسه أو في أيِّ عالَمٍ آخر من العوالم الثلاثة الأخرى، وفقًا لاستحقاقه.
خامسًا- مثلما أنَّ سيَّالاً ما قد يرتقي حتَّى يتخطَّى درجة الأرض الروحيَّة، وينتقل إلى عالَمٍ فردوسيّ، فإنَّ سيَّالاً فردوسيًّا قد يهبطُ إلى الأرض، كما قد يرتقي إليها سيَّالٌ جحيميٌّ بفعل استحقاقه. [24]
سادسًا- تبقى العاطفةُ في السيَّال بعد انتقاله إلى تقمُّصٍ آخر، سواء أكانت عاطفة حبٍّ أو بغض أو خوف أوغير ذلك، وأيًّا كان التقمُّص. وفي القصص أمثلةٌ وافرةٌ على ذلك. والنبوءة التي تنبَّأ فيها مؤسِّسُ الداهشيَّة بمَصرع الرئيس كِندي، عام 1963، ونشرَتها جريدة "الجريدة" في حينه تؤَكِّدُ أنَّ مصرعَ الرئيس الأمريكيّ على يد أُزوالد مردُّه إلى أسبابً تقمُّصيَّة. وقد علمتُ من رجل الروح أنَّ أُزوالد فيه سيَّالٌ من بوث قاتل أبراهام لنكولْن، كما أنَّ جون كِنِدي فيه سيَّالٌ من لِنْكولن نفسه. وقد بقِيَت عاطفةُ الحقد والكراهية التي كان يكنُّها بوث للنكولن في سيَّاله المُنتقل إلى أُزوالْد، ودفعَتْه إلى ارتكاب الجريمة مرَّةً أُخرى.
سابعًا- إنَّ العلاقة الجنسيَّة الحاصلة بين شخصَين تشبك سيَّالاتهما في عشرات التقمُّصات الممتدَّة على آلاف السنين، وتجعل كلاًّ منهما مُعرَّضًا للوقوع في مصائب تنتجُ عن تصرُّفات الآخر. ومثَلُ ذلك مثَلُ ما يحدثُ للأولاد من مُكدِّرات ومصائب من جرَّاء تصرُّفات الأب والأُمّ، لارتباط سيَّالات الأولاد بالأهل؛ وهذا ما يُفسِّرُ قول الكتاب المقدَّس "الآباءُ يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون،" أو ما يحدث للأهل من جرَّاء تصرُّفات أولادهم.
ثامنًا- قد تبقى العاهةُ أو العلَّةُ في السيَّال إذا انتقلَ إلى تقمُّص آخر حتَّى يستوفي السيَّالُ جزاءه.
هذا هو مُلخَّص نظريَّة التقمُّص، وخاصَّةً كما يُحصَّل من "قصص غريبة وأساطير عجيبة". ولا ريبَ في أنَّ التقمُّص مظهرٌ من مظاهر الرحمة الإلهيَّة الواسعة، نَفْيُه يعني نَفْيَها. بل إنَّه نتيجة للعدالة الإلهيَّة؛ إنكارُه يعني إنكارَها. فبدلَ أن ننسبَ إلى لله ظلمًا أنَّه يفرضُ على الإنسان أن يعيش حياةً قصيرةً واحدة لا طاقة له فيها على تنقية نفسه من أدران الأرض والتغلُّب على المغريات الدنيويَّة، ثمَّ يزجّ به في جحيمٍ أبديَّة، نؤمن بالله إلهًا رحيمًا يبعثُ الإنسانَ مرارًا وتكرارًا في هذه الأرض مُفسِحًا أماهه مجالَ مُصارعة شهواته الماديَّة ونزعاته الشرِّيرة ليتغلَّبَ عليها فيستحقّ، إذ ذاك، سعادةَ العوالم النعيميَّة.
وغايةُ القول إنَّ للتقمُّص قوانين روحيَّة تخضع لها الكائنات الماديَّة جميعًا. فالسيَّال يضع نفسه، برغباته وأعماله واهتماماته، في مجال الجاذبيَّة الروحيَّة الخاصَّة بعالَم ما من عوالم الكائنات التي لا تُحصى؛ وبعبارة أخرى يصنع السيَّال مصيره بإرادته، ويجعل نفسه ملائمًا لشكلٍ خاصّ من أشكال الحياة الراقية أو المنحطَّة.
وكما إنَّ كلَّ سيَّال في الإنسان يزرعُ اليوم ما يحصدُه غدًا، فإنَّ كلَّ سيَّال حاليّ فيه، يحصد اليوم ما زرعَه في دوراته الحياتيَّة السابقة، بحيثُ يمكن القول إنَّ أيَّ إنسانٍ حيّ هو مجموعة من السيّالات التي مرَّ كلٌّ منها في مظاهر تقمُّصيَّة مختلفة من مظاهر الحياة الأرضيَّة. ووَضْعُ الإنسان العقليّ والصحيّ والاجتماعيّ هو حصيلةُ أوضاع سيالاته في أدوارها الحياتيَّة الماضية.
وبما أنَّ بين تكوين الجسم البشريّ وتكوين الجمّ من الأجسام الحيوانيَّة نقاط تقارب، فإنَّ كثيرين من الناس تبقى في هيئات أجسامهم وملامح وجوههم آثار أشكال حيوانيَّة يكون بعض سيَّالاتهم قد تقمَّصَها سابقًا؛ وهذه الآثار قد يستطيع الـمُلاحِظ المتبصِّر أن يكتشفَها. فهذا شخص يُذَكِّرُكَ بالكلب، وآخرُ بالقرد، وثالث بالماعز، ورابع بالأسد، وخامس بالذئب، وسادس بالفيل، وسابع بالنّسر، وثامن بالثعلب، وتاسع بالبطريق، وعاشر بالفهد، وهلمَّ جرًّا.
غير أنَّ هُويَّة التقمُّص السابقة لم يُعطَ الإنسان أن يُدركها إدراكًا أكيدًا بقدرته العقليَّة الصرف. فإذا ظهر شبه ما بين إنسان وحيوان، أو بينه وبين إنسان آخر سابق، فيكون ثمَّة مجرَّد احتمال لتقمُّص معيّن ماضٍ قد يُخطئ الظنُّ فيه وقد يُصيب. أمَّا المعرفة اليقينيَّة فهي للروح العليّ يبلّغها مَن أذن الله له بواسطة أِنبيائه ورُسُله.
[1] لوقا 8: 2.
[2] متى 16: 18.
[3] متى 16: 23.
[4] انظر متّى 14: 31؛ 26: 34-35 و 69-75.
[5] انظر في سفر أعمال الرسل اضطهاد بولس (شاول) للمسيحيّين: 7 : 58 ؛ 8: 1 و 3؛ 9: 1-2؛ ثمّ يقظة الإيمان في نفسه وجهاده ابتداءً من الاصحاح التاسع.
لقد أدرك العالِمُ النفسيُّ السويسريُّ كارل يونغ أنَّ (بولس) لم يكن خارج شاول، بل كان في داخله، ثمّ استيقظ. انظر: C.G. Jung, Psychologie de l'Inconscient, p. 73.
[6] راجع غازي براكس: جبران خليل جبران - القسم الثاني "جبران في دراسة تركيبيَّة"، كذلك ملحق الكتاب "دراسة جبران النفسيَّة على ضوء المبادئ الداهشيَّة"، ص 534-543.
[7] راجِع الجزءَ الثاني من "الكتاب الداهشيّ"، القسم الأِوَّل "مُعجزات داهش في ضوء العقل والدين"، الفصل 16 "مُعجزات التجسُّد".
[8] انظر متى 3: 16؛ يوحنّا 20: 22؛ سفر أعمال الرسل 2: 1-4.
[9] لقد أظهرت التجارب العلميّة أن الطاقة نفسها يُمكن أن تتحوّل تحوّلات متنوِّعة: فقد تكون كتلة ماديَّة، أو طاقة ضوئيّة، أو مغنطيسيّة، أو كهربائيّة، أو حراريّة، أو حركيّة أو غير ذلك... كذلك فالطاقة الكامنة في الماء يُمكن أن تتحوَّل إلى أشكال مختلفة: فقد تبدو سائلة، أو بخاريّة لطيفة أو كثيفة، أو مائعة كما في الثلج، أو صلبة كما في الجليد.
[10] (مرقس5: 1-6).
[11] (سورة المائدة: 60). انظر أيضًا سورة البقرة: 65، وسورة الأعراف: 166.
[12]إنّ العلماء الذين درسوا الفنانين والأدباء دراسات نفسيّة، لاحظوا أنّ النبات والطيور، كما الماء والهواء، بصورة عامّة، يتحسّس الفنانون ماهيّتها بحدسهم فيحيطونها بهالة من الروحانيَّة، وهذه الحقيقة واضحة لكلِّ متأمِّل بصير في الأدب والفنّ. راجع كتابات جبران خليل جبران على سبيل المثال. كذلك "جبران خليل جبران" لغازي براكس، ص 191-193. انظر أيضًا:
G. Durand, Les Structures anthropologiques De L'imaginaire, p. 133-136, 369-372.
G.Bachelard, l'Air et les songes, p. 82-85, 231-255 (surtout 237, 250)
[13] انظر أيضًا مرقس 6: 15-16).
[14] انظر أيضًا متّى 11: 13-15.
[15] انظر أيضًا بشارة الملاك لزكريَّا في إنجيل لوقا (1: 13-17).
[16] انظر أيضًا مرقُس 9: 42-43.
[17] شبيهة بهذه الآية الآية القائلة: "نحنُ قدَّرنا بينكم الموت، وما نحنُ بمسبوقين على أن نُبدِّل أمثالَكم ونُنشئكم في ما لا تعلمون" (سورة الواقعة: 60).
[18] انظر سورة البقرة: 65؛ وسورة الأعراف: 166.
[19] راجع كتاب "فِرَق الشيعة" لأَبي محمَّد حسن بن موسى النوبختي، نَشْر جمعيَّة المستشرقين الألمانيَّة، طبعة إستانبول، 1931، ولا سيَّما ص 31-37.
[20] الدكتور داهش: قصص غريبة وأساطير عجيبة، ج2، ص39.
[21] انظر المصدر السابق، الجزء الأوَّل، ص 93-95: "أُسطورة بدولارين"؛ وص 116-118: "ضفدعة الغدير".
[22] انظر المصدر السابق نفسه، ص 90-92: "وزُلزِلَت الأرضُ زلزالها".
[23] مِثلُ موقف الكلب موقفُ الحمير في "مذكِّرات دينار" (ص 94-95)، وكذلك موقف معدن الذهب في الكتاب نفسه (ص 24-26)، وموقف القنديل في "القنديل اليتيم" (قصص، ج1، ص80).
[24] انظر قصص غريبة وأساطير عجيبة، ج1، ص 29، 140، 162؛ وج2، ص 58، 188؛ وج3، ص 130.