info@daheshism.com
خامسًا: عوالمُ النَّعيم والجحيم والحضاراتُ الكونيَّة

سيَّالاتُ النفس الواعية: أَنواعُها وتفاعلاتُها
في ضوءِ التعاليمِ الداهشيَّة
(3)

بقلَم الدكتور غازي براكْس

 

سببُ الاختلافِ في مدارك الناس وفي نزعاتهم واستعداداتهم

لماذا هذا الاختلافُ الكبير في مدارك الناس، وفي نزعاتهم الراقية أو المنحطَّة ورغباتهم الخيِّرة أو الشرِّيرة، بل في استعداداتهم وهواياتهم؟

ينفي الدكتور مارتن سيلِغمان Martin Seligman –مُديرُ التدريب السيكولوجيّ العِياديّ في جامعة بنسلفانيا، في كتابه ما بوُسعِكَ تغييرُه وما ليس بوُسعِك1 What You Can Change and What You Can’t –أن يكونَ الجوابُ عن ذلك في أحداث الطفولة التي ضخَّم فرويد Freud تأثيرها كثيرًا، أو في عوامل البيئة المختلفة التي بالَغ السلوكيُّون Behaviorists في تضخيم تأثيرها أيضًا. مصدرُ الاختلاف الأهمّ يراه سيلِغمان في جينات كلِّ فردٍ وفي ما تحملُه المورِّثات من سِمات وخصائصَ واستعدادات مختلفة.

هذا الجوابُ صحيحٌ وجريء، لأنّه ينقضُ نظريَّة تساوي الناس عند الولادة، هذه النظريَّة العزيزة لدى كثيرين؛ لاسيَّما أنّ الأبحاثَ البيولوجيَّة تتوالى مؤكِّدةً تأثيرَ الجينات البالغ في تكوين شخصيَّة كلِّ إنسان ومَنحها طابعًا فريدًا. لكنْ لماذا يولَد الناسُ غيرَ مُتساوين؟

هنا الحدودُ التي تقفُ عندها المعرفةُ العلميَّة، لتبدأَ ما بعدها المعرفةُ الروحيَّة الداهشيَّة.

لقد باتَ مشهورًا أنَّ الجسمَ البشريَّ يُكوِّنُه 46 صَبغيَّةً (كروموزومًا) تنطوي على جينات (أي وحداتٍ وراثيَّة) يحملُ كلٌّ منها خاصَّةً مُعيَّنة من الخصائص الجسميَّة أو من الاستعدادات والمواهب وسائر السِّمات النفسيَّة التي من مجموعها ستُبنى الشخصيَّةُ المتفرِّدة لكلِّ إنسان في بُعدَيها الجسميّ والنفسيّ؛ لكنَّ بناءَ كائنٍ حيٍّ–إنسانًا كان أم غير إنسان–عمليَّة إبداعيَّة معقَّدة تتضاءَل حِيالَها عمليَّةُ بناء أكثر الأدمغة الإلكترونيَّة تعقيدًا وتطوّرًا. وفي التعاليم الداهشيَّة أنَّ عمليَّةَ التكوين هذه لَم تحدث صُدفةً ولا اضطرارًا من جرَّاء ظروفٍ بيئيَّة، ولا هي نتيجة تطوُّر مادِّيّ عَبْرَ ملايين السنين، بل في أساسها طاقةٌ روحيَّةٌ مُبدِعة هي السيَّالات الروحيَّة. هذه السيَّالاتُ، بما فيها من رئيسيَّة وطارئة ووراثيَّة، هي التي تبعثُ الحياةَ وتحملُ القِوى الإدراكيَّة والاستعدادات والنزعات والرغبات والمواهب التي تُصاغُ منها شخصيَّةُ كلِّ إنسان.

فالإنسانُ إذًا هو مجموع سيَّالاته، سيَّالاته التي تُعرِّضُه بواسطة جوهرها الروحيّ للتفاعُل مع كلّ إنسان، كما مع كلّ حَيّ وغير حَيّ، في الأرض كما في الكون كلِّه؛ إذْ إنَّ الكونَ بجميع مظاهره وعناصره ليس سوى نسيج من السيَّالات الروحيَّة. وسيَّالاتُ كلِّ شخص هي التي تمنحُه فرادتَه وتميُّزَه عن غيره بمستواها الروحيّ وبأنواع النزعات والرغبات والاستعدادات والمواهب التي فيها. فشخصيَّةُ الإنسان–ببُعدَيها الماديّ والروحيّ وبما فيها من اتِّزان أو خلَل على الصَّعيدَين الجسميّ والنفسيّ–مُبَرمَجة لا في المادَّة التي تُكوِّنُ جينات الإنسان، بل في السيَّالات العاقلة التي تُحيي تلك الجينات وتُبرمجُها، وتمنحُها خصائصَها ووظائفَها وأشكالها المتفرِّدة. لكنَّ اتِّصاف السيَّالات بحرِّيـَّة الإرادة يُفسِح المجال واسعًا أمام جُهدها الشخصيّ للاغتناء أو الافتقار في سياق الحياة؛ ذلك فضلاً عن أنَّه يبقى للتربية وللظروف البيئيَّة تأثيرٌ لا يمكن نكرانُه في صياغة شخصيَّة الإنسان سلبًا أو إيحابًا، لكنَّ هذا التأثير يبقى جزئيًّا محدودًا مهما يكن كبيرًا.

لقد جهدَ الفلاسفة وعُلَماءُ النفس، ولا سيَّما في القرن العشرين، لاستكشاف ماهيَّة النفس الواعية، أو ماهيَّة العقل الواعي Consciousness على حدِّ تعبير السيكولوجيِّين؛ فاختلفَت مذاهبُهم أيَّما اختلاف، وتضاربَت آراؤهم تضارُبًا شديدًا، حتَّى إنَّ المُؤتمَر الذي عُقِدَ في جامعة توسن Tucson بأَريزونا، في شهر أبريل 1996، وضَمَّ ألفًا من العُلَماء والفلاسفة والمُفكِّرين من 22 بلَدًا، وذلك من أجل التباحُث في ماهيَّة العقل الواعي ومصدره، لَم يُؤَدِّ إلاَّ إلى مزيدٍ من البلبلة والتبايُن في الآراء والاختلاف في النظريَّات. غيرَ أنَّ اتِّجاهًا يُمثِّلُه الدكتور تشالمِرز Chalmers يرى أنَّ العلمَ الحديث بحاجة إلى اكتشاف قوانينَ أساسيَّة جديدة تُضاف إلى القوانين الطبيعيَّة المعروفة كالجاذبيَّة والكهرطيسيَّة والوحدة المكانيَّة الزمانيَّة، ويعتبر أنَّ العقل الواعي لا بدَّ من أن يكون أحدَها، فيُصبح بصفته هذه خاصَّةً أساسيَّة في نسيج الكَون.2 وكَانَّما تشالمِرز ومَن نهَجَ نهجَه يُلمِعون إلى السيَّالات الروحيَّة بمفهومها الداهِشيّ من غير أن يُسمُّوها.

إنَّ السيَّالات بقوَّتها الروحيَّة الإبداعيَّة تصوغُ الجسمَ الحيَّ بكلِّ أعضائه وأجزائه تَبعًا لِمستواها واستحقاقها وبَرمَجتها، إذْ إنَّها تُعبِّر بواسطة الجسم الحَيّ–ولا سيَّما الدماغ وسائر الجهاز العصبيّ–عن نشاطها أفكارًا ورغباتٍ وأعمالاً. والإفرازات الكيميائيَّة (السيروتونين Serotonin وغيره ممَّا يؤثِّر في وظائف الدماغ واتِّصالاته الكهربائيَّة) ليست إلاَّ مظهرًا مادِّيـًّا من مظاهر نشاط السيَّالات الروحيَّة. ولهذا السبب نرى أنَّ العقاقيرَ المؤثِّرة في هذه الإفرازات قد تمنعُ ظهورَ الأعراض، لكنَّها لا تشفي العلَّة، لأنَّ العلَّة ليست في البِنْية المادِّيـَّة للجهاز العصبيّ بل في القوَّة النفسيَّة المُحرِّكة والمُشكِّلة له، أي السيَّالات الروحيَّة.

لكنْ ما سببُ الاختلاف في سيَّالات البشر منذ طفولاتهم، حتَّى في الأَبناء والبنات الذين ينحدرون من الأبِ نفسه والأُمِّ نفسها؟

الاستعداداتُ والنَّزَعاتُ والرَّغباتُ القويَّة لا تموت:

إنَّ الاختلافات في سيَّالاتنا مبنيَّة على نظام السَّبَبِيَّة الروحيَّة وفقًا للعدالة الإلهيَّة والاستحقاق الروحيّ (انظر صوت داهش، عدَد سبتمبر، 1995، وعدَد مارس، 1996). فالسيَّالاتُ الروحيَّة لا تفنى، وسيَّالاتُ البشر إنَّما هبطَت إلى الأرض بِفِعلِ أعمالها ورغباتها وبالتالي استحقاقها. وعند الموت، تبقى في كلِّ سيَّال رغباتُه القويَّة القديمة ونزعاتُه، كما تبقى مُنطبعةً فيه نتائجُ الأعمال التي قام بها في خلال حياته السابقة، وذلك تبعًا لنظامٍ إلهيٍّ عجيب. وعند انتقال السيَّال الرئيسيّ إلى مولودٍ جديد بموجِب نظام التقمُّص الشامل، وامتداد السيَّالات الثانويَّة إليه بواسطة الجينات الوراثيَّة من والدَيه، فإذْ ذاك تنتقلُ معه تلك الرغباتُ والنزعاتُ والآثارُ التي انطبَعَت فيه خلالَ حياته السابقة، فضلاً عن خصائص الجسد من سمنةٍ أو نحافة، ومرضٍ أو صحَّة. فنزعاتُ العدائيَّة والعُنف والحسد والحقد والخيانة والشَّبَق والتسلُّط والكبرياء وغيرها من النزعات الرديئة تبقى كما تبقى نزعاتُ المحبَّة والغَيريَّة والشفقة والتسامُح والتقوى والإخلاص والوداعة والتواضع وسواها من النزعات الراقية؛ كذلك يبقى مستوى الإدراك، عاديًّا كان أم متفوِّقًا أم متخلِّفًا، كما يبقى كلُّ خلَلٍ نفسيٍّ سواءٌ نتجَ عن صدمةٍ أم عن سلوكٍ مُنحرِف.

وفي قصص الدكتور داهش التي تدورُ حول مِحوَر التقمُّص أمثلة كثيرة يتَّضحُ منها بجلاء كيف أنَّ النزعات تبقى فاعلةً في السيَّالات من دورٍ إلى آخر، وتُتابعُ نشاطَها سواء كانت متقمِّصة إنسانًا أم حيوانًا أَم نباتًا أَم جمادًا.

وبسبب خاصَّةِ الاستمرار النفسيّ هذه، نرى تقارُبَ النزعات والأهداف والمطامح والتصرُّفات ماثلةً بين أشخاص تاريخيِّين، قادةً كانوا أم أُدباء أم عُلَماء أم هُداةً أم مُصلحين؛ ذلك لأنَّ سيَّالاً مُعيَّنًا يكون قد انتقل من السابق إلى اللاحق.

العلمُ يُؤَكِّدُ التعاليمَ الداهشيَّة

يزعمُ المذهبُ النفسيُّ السلوكيُّ Behaviorism الذي أسَّسهُ جون واطْـسُن J. Watson (1878–1958) أنَّ الطفلَ إنتاجُ محيطه بصورةٍ كُلِّـيَّة. وهذا المذهبُ الذي انتشرَ في الأوساط العلميَّة الأمريكيَّة بضعَ عشرات من السنين يتَّفقُ مع النظريَّات الفلسفيَّة المادِّيـَّة التي تجعلُ الإنسانَ ثَمرةً للمؤثِّرات المختلفة في محيطه.

وكان الفيلسوفُ الإنكليزيّ جون لوك J. Locke (1632–1704) أَوَّلَ مَن أَعلنَ أَنَّ العقلَ في الطفل أشبهُ بلوحٍ للكتابة فارغ blank slate. وأَصبحَت هذه الفكرة شبهَ عقيدة لدى معظم المُفكِّرين في النصف الأَوَّل من القرن العشرين كردَّةِ فِعلٍ ضدَّ التمييز العُنصريّ والجنسيّ.

لكنَّ الدراسات العلميَّة البيولوجيَّة والسيكولوجيَّة الحديثة أحدثَت ثورةً في المفاهيم مُناقضة للمذهب النفسيّ السلوكيّ، كما للمذهب الفرويديّ، ولكلِّ ما شابهَهما، إذْ أظهرَت أنَّ الإنسانَ يولَدُ وأكثر مُقوِّمات شخصيَّتهبما فيها من مستوًى إدراكيّ وحياة انفعاليَّة واستعدادات ومواهبمُبَرمَجة في جيناتِه Genes الفطريَّة، وأنَّ تأثيرَ العوامل البيئيَّة في الإنسان، سواء في طفولته أم سائر مراحل عمره، هو جزئيّ وليس كُلِّـيًّا.

فسيلِغمان وكثيرون غيرُه3 يُؤكِّدون أَنَّه قد أُجرِيَت دراساتٌ كثيرة، في عدَّة بلدان، على التوائم المُتماثلين Identical twins مِمَّن نشأوا في بيئاتٍ مختلفة، ومن مقارنتِها بدراساتٍ أخرى تناولَت التوائم غير المتماثلين والأشقَّاء العاديِّين، يتحصَّلُ أنَّ كثيرًا من السِماتٍ النفسيَّة (الإدراكيَّة والانفعاليَّة والنزوعيَّة) ومن الخصائص الجسديَّة له أصولٌ فِطريَّة في جينات الإنسان؛ إذْ ليس معقولاً أن يظهرَ عددٌ كبير من السِّمات النفسيَّة-الجسميَّة psychosomatic المُتماثلة في التوائم المُتماثلين إنْ لم يكن لها أُصولٌ وراثيَّة أو فطريَّة. من هذه السِّمات مدى سِمنة الجسم، والنزعة العُنفيَّة الإجراميَّة، ومستوى الذكاء العامّ الذي قد تصلُ نسبتُه الوراثيّةُ إلى 75٪، ونزعة الخجل الشاملة؛ ويُضيفُ فريقٌ من علَماء النفس إلى ذلك سماتٍ أخرى—لكن يُنازعهم في إثبات صحَّة وراثيَّتها آخرونهي: مدى التقوى الدينيَّة، ونزعة المحافَظة والتعلُّق بالتقاليد، والاتِّجاه المِهَنيّ، والنزعة الانطوائيَّة السَّوداويَّة أو الانبساطيَّة الانشراحيَّة، والمَيل إلى المخاطرة، والنزعة التسلُّطيَّة، ومدى سيطرة الإنسان على ذاته، والمَيل إلى التفاؤل أو التشاؤم، ونزعة التشكيك في الناس والسخرية منهم. فالعلماء يذهبون إلى أنَّ مقدارَ سمنة الجسم مُبَرمَج في الجينات. فبإمكان إنسانٍ ما أَن يلجأَ إلى التمارين الرياضيَّة ويتَّبعَ نظامًا معيَّنًا للحِميةِ في طعامه ليُخفِّفَ وزنَه، لكنَّ مقدارَ السمنة المُبرمَج في جسمه سيعود فيتغلَّب على وضعه الجديد المُصطَنع، فلا يسمح بتغييره إلاَّ في حدودٍ نسبيَّة ضئيلة.4 كذلك الأمرُ في أكثر الأمراض العُصابيَّة neurosis، كالذُّعر غير المنطقيّ panic، والرُّهاب phobia، (مِثالُه الخوف من المرتفعات أَو من البحر أو من بعض الحيوانات الأليفة)، أو الوساوس المُستحوذة (Obsessive-compulsive disorder) OCD، شرّيرةً كانت أم ذاتَ نمطٍ تكراريّ غيرِ منطقيّ... فهذه الأمراضُ العُصابيَّة قد تنفعُ العقاقيرُ أو العلاجاتُ النفسيّة في تخفيف أو حَجبِ أعراضها، لكنَّها لا تُزيلُ عِلَلها.

ذلك مع العلم بأَنَّ فريقًا من علماءِ البيولوجيا اكتشفوا مُؤَخَّرًا أَنَّه ما زالت أَسرار كثيرة من كُتلة المورِّثات محجوبة عنهم، ومنها أنَّ كيفيَّة تتابُع الـ د. ن. آي. ليست النظامَ الرمزيَّ البيولوجيَّ الوحيد المخزون في الكروموزومات. فقد اكتشفوا في هذه الأَخيرة ظاهراتٍ متنوِّعة سمَّوها epigenetic phenomena تعملُ أَشبهَ بالمفاتيح لتقوية أَو إضعاف تأثير الجينات؛ وهي أَشبهُ بمعلوماتٍ مُرمَّزة من الكيميائيَّات المعلَّقة بالـ د. ن. آي أَو ببعض البروتينات البسيطة.5 وهذا يدلُّ على أَنَّ العلمَ ما يزالُ بعيدًا عن فهمِ كلِّ الأسرار المُكتنِفة لِبِنية الإنسان النفسجسميَّة.

الطبيعةُ البشريَّة ميَّالةٌ إلى الثبات لكنَّ الإرادةَ مُبدِعة

إنَّ السِّماتِ النفسيَّة المُشار إليها أَعلاه يتعذّرُ تغييرُها بقَدر ما هي فطريَّة وِراثيَّة، ويُمكن تغييرُها، في قدْرها الباقي، بعوامل التربية والثقافة والعشرة والجُهد الشخصيّ كما بالمُعالَجات الطبِّـيَّة إذا اقتضى الأمر.

ولأنَّ بناءَ المقوِّمات الأساسيَّة للشخصيَّة يتمُّ في سيَّالات الإنسان الفاعلة في جيناته الفطريَّة، فإنَّ الطبيعةَ البشريَّة تميلُ إلى الثَّبات، إذْ إنَّ تغييرَ الإنسان لسيَّالاته صعبٌ جدًّا؛ لكنَّه غيرُ مستحيل. فالاختباراتُ الشخصيَّة والدراساتُ الكثيرةُ تُظهرُ أنَّ الإنسانَ يستصعبُ جدًّا تغييرَ عاداته حتّى التي تؤثِّرُ فيها العواملُ البيئيَّة أكثر من العوامل الفطريَّة، كالتدخين مثلاً. فكثيرون ممَّن يُدمنون التدخينَ يستمرُّون في هذه العادة رغمَ إصابتهم بنوباتٍ قلبيَّة وإنذار الأطبَّاء لهم. أمَّا مُقترِفو الجرائم، مثلاً، من النزَّاعين إلى مُعاودة الجرائم، فالدراساتُ التي تناولَتهم أظهرَت أنَّ برامجَ الإصلاح التي أُخضِعوا لها لَم تكن نتائجُها مُشجِّعة.

ولكنْ ما مدى حريَّة الإنسان في تغيير ما بشخصيَّته إذا كانت الطبيعةُ التي يولَد بها الإنسان ميَّالة إلى الثبات؟

الإيمانُ بأنَّ اللّهَ يختارُ مَن يُريد ليُكافئَه ويرفعَه أو ليُعاقبَه ويخفضَه، وذلك دونما نظر لاستحقاق الإنسان، أخذ به كثيرون من المسيحيِّين، وخصوصًا في القرون الوسطى، واستعاضوا عن الأعمال الصالحة بالنعمة غير المشروطة. لكنَّ الداهشيِّين تأكَّدَ لهم أنَّ النظامَ الإلهيَّ الذي يسودُ الكونَ كلَّه مرتبطٌ بالعدالة والسببيَّة الروحيَّين. ولذلك فولادةُ الإنسان في وضعٍ جسديٍّ وصحيٍّ وعقليٍّ معيَّن مُرتبطٌ باستحقاقه. وكلُّ تغييرٍ يطرأُ عليه بجهده الشخصيّ، أو بجُهدٍ طبيّ، مرتبطٌ أيضًا باستحقاقه.

فالإنسانُ حرُّ الإرادة، وحريَّتُه منحةٌ إلهيَّةٌ، ولذلك فوَضْعُه النفسجسميّ الحاليّ هو الذي سبَّبَ صياغتَه في حياةٍ سابقة، فأصبحَ جسدُهُ بما فيه من صحَّةٍ أو مرض، ومن توازنٍ عقليٍّ أو خَلل، قدرَه الشخصيَّ الذي صاغَهُ بأفكاره ورغباته وأعماله الحرَّة.

لكنَّ الإنسانَ يستطيعُ أن يُغيِّرَ مصيرَه في حياةٍ مُقبِلة بتغيير أفكاره ورغباته وسلوكه إلى الأفضل والأسمى في دوره الحياتيِّ الحاليّ، لكنَّ تغييرَه لوَضعه الراهن المقيَّد بجيناته وبالتّالي بسيَّالاته الراهنة يتطلَّبُ منه جُهدًا شخصيًّا جبَّارًا؛ هذا إذا لَم تكُن الإصابةُ في عقله.

فَذو الجنسيَّةِ المثليَّة الشاذَّة، مثلاً، إمَّا أن يكونَ بإرادته قد اختار هذا السلوكَ كتجربةٍ راقَتهُ؛ فإذْ ذاك بإمكانه أن يتخلَّصَ منه قبل أن يُصبحَ عادةً فيه مُستفحلة؛ وإمَّا أن يكونَ هذا السلوك فيه صفةً وراثيَّةً، أي قد داخلَ سيَّالاً فيه امتدَّ إليه من أبيه وربَّما من جَدّه؛ وإذْ ذاك عليه من أَجل تغيير سلوكه أن يبذلَ جُهدًا جبَّارًا ويُقاومَ ميلَه المتأصِّل في جيناته مُقاومةً مستمرَّة حتَّى يرتقي السيَّالُ بقَهر النزعة المِثليَّة فيه قهرًا متواصلاً. ولا شكَّ بأنَّ هذه المغالَبة الطويلة شاقَّة ومُضنية. لكنَّ مَن أراد الارتقاءَ بسيَّالاته عليه أن يتحمَّلَ التعبَ والانزعاجَ الشديدَين. وقِسْ على هذا السلوكِ الجنسيّ كلَّ عادةٍ سيِّئة متحكِّمة بالإنسان وكلَّ رذيلةٍ متأصِّلة فيه.

وقد أسفرَت دراستان علميَّتان نُشِرتا في فبراير 1996إحداهما عن مرَض آلتسايْمِرز Alzheimer's، والأُخرى عن الوساوس المُستحوِذةعن أنَّ للإرادة تأثيرًا لا يُستهانُ به في إعادة تنظيم الخلايا الدماغيَّة المُختلَّة؛ فالأفكار والرغبات والتصرّفات بإمكانها، إذا كانت متواصلة ومُلِحَّة، أن تُصحِّحَ شيئًا مِمَّا اختلَّ من وظائف الدماغ، وبالتالي أن تُبرئَ الإنسانَ من عاداتٍ أو انفعالاتٍ مرَضيَّة.

حاجةُ السيَّال إلى تحقيق ذاته

إنَّ القوَّةَ الدافعة لجميع الحاجات والرغبات والاستعدادات الكامنة في أَيِّ سيَّال هي حاجةُ السيَّال إلى تحقيق ذاته، فهي الحاجةُ الأُمّ. إنَّها غايةُ الحياة في السيَّال التي بدونها ينتفي نشاطُه. فمثلما يتحقَّقُ كيانُ الجسم عُضويًّا بنشاط الحياة البيولوجيَّة التي تنتظمُ خلاياه وأنسجتَه جميعَها لتوجِّهَها إلى بناءِ الأعضاءِ عُضوًا فعُضوًا، هكذا ينطوي كلُّ سيَّال على دوافعَ مُختلفة تنشطُ جميعُها، بقوَّةِ الحياة التي فيها، إلى التحقُّق. وهذا النشاط يقوى أَو يضعف تَبَعًا لقوَّة الدوافع أَو ضعفِها.

والتحقُّق التامّ لذات السيَّال لا يتمُّ إلاَّ بإشباع طبيعتِه، سواءٌ كانت مادِّيـَّة أم روحانيَّة، مُتخلِّفة في بُعدِها الإدراكيِّ أم متفوِّقة. وإلاَّ فشعورُ صاحب السيَّال بعدم الامتلاء وبالجوع إلى الغذاء يبقى قائمًا. وهذا الإحساسُ يولِّدُ الشعورَ بعدمِ الرضى والإحباط. ولذلك فالتغلُّبُ على هذا الشعور يستوجبُ مشقَّةً كبيرة وانزعاجًا شديدًا، ويقتضي، بصورةٍ عامَّة، زمنًا مديدًا.

أَمَّا إذا تمَّ الإشباعُ فيتولَّدُ عنه الشعورُ بالرضى، ويكونُ هذا الشعور مصحوبًا بلذَّةٍ حسِّـيَّة في حال إشباع الدوافع المادِّيـَّة كالشهوات الجنسيَّة، أَو لذَّةٍ معنويَّة كالجاه والسيطرة، أَو مُقترنًا بمُتعةٍ عقليَّةٍ روحيَّة في حال إشباع الدوافع الراقية أَو الروحيَّة كالتذوُّقِ الفنِّيّ والأدبيّ والتأُمُّل في عظمةِ ما أَبدعَته القوَّةُ الموجِدة.

بَيدَ أنَّ تغذيةَ اللذَّةِ المُصاحبة لإشباع الرغبات والنزعات المتولِّدة من دوافعَ مُنحطَّةكالشَّبق والحسَد والعِدائيَّة وحُبِّ الإيذاء والكبرياء والأنانيَّة والتسلُّط والبُخل والجشَعتستثيرُ نشاطَ هذه الدوافع نفسها، بحيثُ تكونُ نتيجتُها حَطَّ السيَّال لا ترقيتَه؛ وقد تُؤَدِّي إلى هبوطِه إلى درَكٍ سُفليّ بفِعلِ جاذبيَّة المَيل الذي فيه، الأمرُ الذي يُولِّدُ تبكيتَ الضمير والندَم، وربَّما الوساوس. وهكذا كثيرًا ما يعقبُ الألمُ المعنويُّ اللذّةَ المنحطَّة، فتكونُ كالشصِّ الذي يُقدِّمُ الطُّعمَ إلى السمكة ليُهلكَها.

وقد أكَّد جولدشتاين Goldstein وعشراتٌ مِمَّن بحثوا في الشخصيَّة الإنسانيَّة أنَّ الدوافعَ والنزعات والاستعدادات في الإنسان همُّها الأوَّل أن تُحقِّقَ ذاتَها. ولِذا فالشعورُ بالاكتفاء أَو الشعورُ بعدم الرضى ينجمان عن مدى إشباع تلك الدوافع أو عدم إشباعها.

تناقضُ السيَّالات في الإنسان يُولِّدُ التناقُضَ في نزعاته وتصرُّفاته

إنَّ الباحثَ المتأَمِّلَ في مَن يعرفُهم من الناس، سواءٌ كانوا من الأَقربين أم الأَبعدين، لا بُدَّ من أَن يُلاحظَ أنَّ التناقضَ يبدو في ميولهم وتصرُّفاتهم، حينًا بعد حين. فقد يُظهرُ الواحدُ منهم التسامُح في موقف، والعصبيَّةَ في موقفٍ آخر، أو الكرمَ في ظرفٍ والبخلَ في ظرفٍ آخر، أو التعفُّفَ حينًا، والفجورَ حينًا آخَر... ومردُّ ذلك إلى أنَّ كلاًّ من البشر يتأَلَّفُ كيانُه النفسيّ من سيَّالاتٍ متفاوتة بدرجاتها الروحيَّة، وبالتالي مُتناقضة بنزعاتها. وهذا يُثبِتُ أنَّ النفسَ ليستمثلما يظنُّ أكثرُ الناسوحدةً لا تتجزَّأ. فشخصيَّةُ الإنسان يطبعُها سيَّالُه الرئيسيّ بطابعه، لكنَّ نفسه تنطوي على كثيرٍ من السيَّالات الأُخرى الطارئة أو الوراثيَّة المتفاوتة في أَنواعها ودرجاتها.

فإذا حصلَ الاختلافُ بين دافعٍ قويّ ودافعٍ ضعيف ينتميان إلى المجال النفسيِّ عينِه، كموقفِ الإنسان من الآخَرين مثلاً، فالصراعُ لا يكون حادًّا بين ميول الإنسان، إذْ إنَّ الدافعَ الأَقوى هو الذي يُسيطرُ حينذاك. وهكذا يبقى السيَّالُ الأشدُّ مُهيمنًا على تصرُّفات الإنسان، وإن يكُن السيَّالُ المُناقضُ الآخَر يُحاولُ أن يُسمعَ صوتَه بين الفينة والأُخرى.

لكنَّ التناقضَ يتَّخذُ مظهرَ صراعٍ حادّ بين ميول الإنسان إذا وقعَ الاختلافُ بين دافعَين قويَّين يُمارسان نشاطَهما في المجال نفسِه. مِثالُه أن يكونَ في الإنسان سيَّالٌ يدفعُه إلى المحبَّة والغفران، وآخَرُ يدفعُه إلى الأَنانيَّة والحقد؛ أَو أن يكونَ فيه سيَّالٌ يدفعُه إلى الوداعةِ والتواضُع، وآخَرُ إلى الغطرسة والكبرياء. فإذا نشطَ السيَّالُ الأوَّل بَدا روحانيًّا خَلوقًا، وإذا نشطَ السيَّالُ الثاني بَدا مادِّيـًّا غليظًا. فكأنَّما الإنسان هو غيرُ إنسان. فبطرس صخرةُ الإيمان هو غيرُ بطرس المُشكِّك والمُنكِر معرفتَه للمسيح، وبولس رسولُ الأُمَم هو غيرُ شاوول المُضطهِد لتلاميذ المسيح، وفكتور هيغو V. Hugo والمتنبّي الحريصان على المال في واقعهما المعيشيّ هما غير الشاعرَين الكبيرَين المُمجِّدَين للسخاء والأسخياء.

فإذا اتَّسعَت الشقَّةُ كثيرًا بين سيَّالَين مُتناقضَين في دوافعهما القويَّة ودرجَتَيهما حدثَ ما يُسمَّى بـانفصام الشخصيَّةschizophrenia، المرضِ الذي ما يزالُ أطبَّاءُ النفس حائرين في تفسيره، مُحاولين ردَّه إلى عدمِ الاتِّساق في وظائف الدماغ أَو إلى أسبابٍ أُخرى7؛ وإنَّما هو سيطرةُ سيَّالٍ أَدنى على الشخصيَّة في ظروفٍ معيَّنة، بحيثُ يحصلُ هذا الاختلاطُ في ذهن المُصاب. وقد ظهرَت هذه الحالة في كثيرين من العباقرة والألمعيِّين، من أَبرزهم جان ناش J. Nash، حائز جائزة نوبل في الاقتصاد )1994).

والجنون شرُّ أمراض الشخصيَّة. وهو حالةٌ تحتلُّ فيها دماغَ المُصاب وأعصابَه سيَّالاتٌ سُفليَّةٌ غريبةٌ عنه، فتحجبُ عنه الإدراكَ الصحيح والمنطقَ السديد عقابًا له. وللدكتور داهش مِثالان عنه في أُقصوصتَين واقعيَّتَين.8

وبدأَ يتَّضحُ للعلماء ما ذهبَت إليه الداهشيَّة، قبل أكثر من نصف قرن، من أنَّ النفس تتكوَّنُ من وَحداتٍ من القوى النفسيَّة المتناقضة. يقول ستيفن بِنكر Steven Pinker في بحثٍ عن تأثير الجينات: إذا كانت النفس نظامًا مُركَّبًا يضمُّ قُدراتٍ كثيرة، فإنَّ الرغبةَ العدائيَّة هي عُنصرٌ واحد من بين عدَّة عناصرَ فيه. فبعضُ القُدرات يمدُّنا بالجشَع أَو الشَّبَق أَو الخُبث المُؤذي، لكنَّ قُدراتٍ أُخرى يُمكنُ أَن تمدَّنا بالعطف والتبصُّر واحترام الذات والرغبة في احترام الآخَرين وإمكانِ التعلُّم من التجربة والتاريخ. والتقدُّمُ الاجتماعيّ قد يحصلُ من تصادُم هذه القُدرات بعضِها ضدَّ بعض.9

ورأَت دانا زوهار Dana Zohar أَنَّ النفسَ يتعذَّرُ فَهمُ أَنشطتها المتناقضة إلاَّ إذا فهمنا كيانَها وجوهرَها في ضوءِ نظريَّة ”الكوانتا“، بمعنى أنَّ شخصيَّةَ الإنسان تنطوي على ذواتٍ صُغرى subselves هي في صراعٍ شبهِ دائم بعضها مع بعض. فإذا اشتدَّ النزاع، انتابَ المرضُ النفسيُّ أو العقليُّ الشخصيَّة، ففقدَت الاتِّزان، وحصلَ الانفصامُ وغيرُه من الأمراض العُصابيَّة neurosis أَو الذُّهانيَّة psychosis.10

تفاعُل الإنسان مع مَجالِه الحيَويّ

تُعطي الداهشيَّة مجالَ الإنسان الحيَويّ مفهومًا جديدًا. فهو يتكوَّنُ من البيئة البشريَّة-الطبيعيَّة (الإنسان والحيوان وسائر عناصر الطبيعة ومظاهرها) التي يتفاعلُ معها إنسانٌ ما إيجابًا أَو سَلبًا بالنسبةِ لِما فيها من سيَّالات تتجاوبُ أَو تتنافرُ مع سيَّالاتِه، إمَّا بسبب نوعها، أو بسبب درجتها الروحيَّة، أو بسبب تقمُّصاتٍ سابقة تمَّت فيها علاقاتُ مودَّة أو كراهية بين أَحد سيَّالاته وبينها؛ ذلك مع العلم بأنَّ مفهوم المجال الحيَويّ يشملُ أيضًا الأحوالَ والأحداثَ التي تتمُّ في هذه البيئة البشريَّة-الطبيعيَّة ويكونُ لها تأثيرٌ حسَنٌ أَو سيِّئ في وضعِ الإنسان النفسيّ.

1- تفاعُلُ الإنسان مع مجالِه الحَيويِّ البشريّ

جديرٌ بالذكر أَنَّ المجالَ الحيَويَّ المعنيَّ هنا ليس بالضرورة مُجملَ الوسَطِ المكانيّ-الزمانيّ الذي يُحيطُ بإنسانٍ ما. فكلُّ ما لا يتفاعلُ الإنسانُ معه، وإن يكُن في حَيِّه أو مدينته أو وطنِه أو عصرِه، لا يدخلُ في مجالِه الحيَويّ؛ وعلى العكس من ذلك، فكلُّ ما يتفاعلُ الإنسانُ معه، وإن يكُن بعيدًا عنه في الزمان والمكان، يدخلُ في مجاله الحيَويّ. فإذا سمعتَ سمفونيَّة لموسيقارٍ حَيٍّ أَم آخَرَ تُوفِّيَ منذ قرن، أو قرأتَ كتابًا لأديبٍ مُعاصِر أَم آخَرَ تُوفِّيَ منذ قرنَين، أو تأمّلَتَ لوحةً فنِّيَّة لفنَّانٍ قديمٍ أَم حديث... وتأثَّرتَ إيجابًا أَو سلبًا بما سمعتَ أو تأمَّلتَ أو قرأتَ، وشعرتَ بانجذابٍ إلى الأسمى، إلى قِيَمٍ عُليا، أَو إلى الأسفل، إلى قِيَمٍ دُنيا، فإنَّكَ تكونُ قد تأثَّرتَ بسيَّالاتِ ذلك الموسيقار أو الأديب أو الفنَّان، كما تأثَّرَ هو بك، سواءٌ أَكان حيًّا أم ميتًا.

رُبَّ سائلٍ: كيف يتأَثَّرُ الميت؟

سألتُ مرَّةً مُؤَسِّسَ الداهشيَّة عن هذا الأمر؛ فأجابني بما فحواه: كُنْ على يقين من أنَّ كلَّ أديبٍ أو مُفكِّرٍ أَو فنَّانٍ يُبدِعُ عملاً أدبيًّا أو فنِّيـًّا يكونُ قد وضعَ فيه بعضًا من سيَّالاته، ويبقى العملُ مُرتبطًا به روحيًّا؛ فإذا أحدثَ عملُه تأثيرًا مُفيدًا للإنسان الذي يقرأُه أو يتذوَّقُه، يرتقي صاحبُ العمل بنسبةِ ما يرتقي القارئُ أو المتذوِّق، والعكسُ بالعكس. بل أكثر من ذلك، فالأعمالُ العاديّة التي يقومُ بها إنسانٌ ما تبقى نتائجُها تُؤَثِّرُ في مصيره حتَّى بعد موتِه بقدرِ ما يتأثَّرُ بها الناسُ سلبًا أو إيجابًا.

وهكذا نتيجةً لوجود الإنسان الحتميّ في بيئةٍ اجتماعيَّة-طبيعيَّة معيَّنة، فإنَّ سيَّالاتِه، بما تنطوي عليه من قوًى فطريَّة، إدراكيَّة ونزوعيَّة وإراديَّة، لا تلزمُ الحالةَ نفسَها التي وُلِدَ الإنسانُ عليها. فهي تتأَثَّرُ باستمرار بالمجال الحيَويّ الذي ترتبطُ به من الولادة حتَّى الوفاة، بحيثُ إنَّ الفطرةَ والاكتسابَ يتلازمان طولَ الحياة. وقد يكون الاكتسابُ صادرًا عن التربية والتوجيه أو التعليم أو الاختبار أَو المُحاكاة أَو العشرة أو المطاعم والمشارب (مثلما سنرى لاحقًا)، أَو أَيِّ تأثيرٍ آخَر.

وأَوَّلُ ما يكونُ التأَثُّرُ، بعد الولادة، بالأُمّ كما بمُعاملة الوالدَين للولَد، خصوصًا بالمقارنة مع معاملتهما لسائر الأشقَّاء والشقيقات إذا وُجِدوا. وفي هذه الحال من الطبيعيّ أن يميلَ أحدُ الوالدَين إلى الولد الذي ينتمي سيَّالُه إليه أكثر مِمَّا يميلُ إلى سائر الإخوة أو الأَخواتفي حال وجودهمالذين لا تنتمي سيّالاتُهم الرئيسة إلى الطرفِ نفسه؛ فتنشأُ عن هذا التمييز صفاتٌ نفسيَّة في الولد لا تظهرُ في الآخرين من أشقَّائه أو شقيقاته.11

وبعد ذلك يكون للعشرة والاختلاط تأثيرٌ بالغ في توجيه السيَّالات ورَفعِ درجاتِها أو خفضِها. فسيَّالاتُ الرفقاء والأصدقاء تتشابكُ بقدرِ ما يحصلُ بينها من تعاطُف. وكذلك يحدثُ التشابُك بين الزوج والزوجة، كما بين مَن يُقيمون علاقاتٍ عاطفيَّة خارجَ نطاق الزواج. وفي ضوءِ ذلك يتَّضحُ خطرُ ارتيادِ الملاهي الماجنة، والمراقص الخليعة، وما شاكَل، بل حتَّى المسابح العامَّة الإباحيَّة؛ وخطرُ ارتباطِ رجلٍ حميد بامرأةٍ رديئة، أو بالعكس، وصداقةُ إنسانٍ راقٍ لإنسانٍ سافل. وقد أكَّد مُؤَسِّسُ الداهشيَّة أنَّ مثلَ هذا التشابُك بين السيَّالات قد يبقى آلافًا من السنين، ويُعرِّضُ أصحابَه إلى مصائبَ كثيرة.12

والتلازُم بين الفطرةِ والاكتساب يجعلُ السيَّالات في تطوُّرٍ دائم إمَّا إلى الأفضل وإمَّا إلى الأسوإ. فبفضلِ المُؤَثِّراتِ التي يتعرَّضُ لها الإنسانُ في مجالِه الحيَويّ قد يتَّجهُ دافعُ الشَّبَقِ إلى الاعتدال في الشهوة، والأنانيَّةُ إلى الغَيريَّة، والحسدُ إلى المحبَّة، والبُخلُ إلى الكرَم، والجشَعُ إلى القناعة، والكبرياءُ إلى التواضع، وهلمَّ جرَّا... فترتقي مُجملُ السيَّالات؛ أَو قد تنعكسُ الآيةُ، فتنحطُّ درجاتُ السيَّالات. لكنَّ التطوُّرَ في اتِّجاهِ التحسُّن عسيرٌ وبطيءُ التحقُّق، لأنَّ إمكانات الرقيّ، من جهة، لا تتمُّ إلاَّ ضمن حدودٍ تسمحُ بها استعداداتُ الإنسان وقدراتُه النفسيَّة، ولِكونِ الفطرة، من جهةٍ أُخرى، ميَّالةً إلى الثبات. من أجل ذلك يستلزمُ التحسينُ النفسيُّ خُبراتٍ مُكتسَبة راقية خصبة، تُعزِّزُها قوَّةٌ إراديَّة نشيطة تُجاهدُ النفس الأَمَّارة بالسوء بلا هوادة. وبسبب صعوبة الارتقاء وبُطئه أتاحت الرحمةُ الإلهيَّة للإنسان فُرَصَ التقمُّص المُكرَّرة حتَّى يستأنفَ السيَّالُ نشاطَه من أجل ارتقائه.

2- التجاذبُ والتنافُر بين البشر

إنَّ مفهومَ التجاذُب والتنافُر، في التعاليم الداهشيَّة، يُوضِحُ غوامضَ كثيرة كان يتعذَّرُ إيضاحُها من قبل، ويُعطي معنى التفاعُل بين الإنسان ومجاله الحيَويّ بُعدًا جديدًا بالغَ الأَهمِّـيَّة.

فمثلما أنَّ التجاذُبَ والتنافُرَ قائمان في الكون كلِّه على الصعيد الطبيعيّ، فالتجاذبُ والتنافُر قائمان أيضًا في الكون كلِّه على الصعيد الروحيّ الذي عليه تتلاقى السيَّالات. وبما أنَّ الموتَ أو الاندثار لا يتناولُ إلاَّ بِنيةَ الموجودات المادِّيـَّة، بشريَّةً كانت أَو غير بشريَّة، فالجوهرُ الحَيُّ الكائن في كلِّ سيَّال يبقى حيًّا ومعه مُستوى الإدراك والنزعاتُ والرغباتُ وما لاقت السيَّالاتُ من تجاذُب وتنافُر مع مجالها الحيَويّ في أدوارٍ سابقة. في ضوءِ هذا الإيضاح يمكنُ أن تُعلَّلَ أحداثٌ تاريخيَّة كثيرة يتعذَّرُ تعليلُها، سواءٌ على صعيد الأفراد أم الشعوب.

قلتُ للدكتور داهش ذاتَ مرَّة: إبراهيمُ الخليل، أَبو الأنبياء، تقدَّمَ إلى ملكيصادق، ملك ساليم، فباركَه الملك؛ وقدَّمَ إبراهيم العُشر إليه من كلِّ ما يملك. والكتابُ المقدَّس، في عهدَيه القديم والجديد، يُعظِّمُ ملكيصادق ويُسمِّيه ”كاهن الله العَليّ“، مع أَنَّه ملكٌ كنعانيّ، وهذا قبل أن تقومَ رتبةُ الكهنوت عند اليهود، وليس ما يوضِحُ ذلك.

فقال لي ما فحواه: السببُ هو أنَّ ملكيصادق الملك كان فيه سيَّالٌ من إبراهيم النبيّ نفسه. وهذا السيَّال ينتمي إلى المسيح. ولِذا جعلَه داوودُ النبيّ في مزاميره رمزًا للمسيح الآتي، وقد تنبَّه لذلك أيضًا بولس الرسول. وهذا يدلُّ على أنَّ السيَّالات السامية أَو الرديئة ليس لها وطنٌ محدَّد أو شعبٌ معيَّن أو حتَّى دينٌ بعينه.13

قلتُ: معنى ذلك أنَّ أحداثَ البشر كلَّها، كبيرة وصغيرة، ذاتُ عِلَل روحيّة.

فقال ما موجزُه: من غير شكّ. ذلك لأنَّ نظامَ السبَبيَّة الروحيَّة يُهيمنُ على الكونِ كلِّه. خُذْ مثلاً على ذلك بشارة الخوري. لماذا اضطهدَني هو نفسُه، ولم يضطهدني مَن كان قبله أو بعده من رُؤَساء في لبنان؟ السببُ هو أنَّ فيه سيَّالاً من هيرودُس وآخرَ من بيلاطس اللذَين على يدَيهما تَمَّ اضطهادُ المسيح. خُذ ْمثلاً آخَر عبد الرحيم الخليليّ. فمع أنَّه كان من أَتباعي في فلسطين، وائتمنتُه فأَودعتُ لدَيه كلَّ ما كان معي من دنانير، فقد خانَني وسرقَني ثمَّ شوَّهَ سمعتي. لماذا؟ لأنَّ فيه سيَّالاً من يهوذا الإسخريوطيّ الذي خان المسيح وسلَّمَه إلى أعدائه. وكنتُ أَعلمُ ذلك؛ لكنْ كان عليَّ أَن أُفسحَ له مجالَ التوبة علَّه يتغلَّب على سيَّاله الخائن الرديء. فلم يستفِد من الرحمة الإلهيَّة.

وبما أنَّ البشر تتنوَّعُ شخصيَّاتُهم بتنوُّع السيَّالات التي تُحييهم وما تنطوي عليها من مدارك ونزعات واستعدادات، فإنَّ العقائد الدينيَّة والسياسيَّة والنظريَّات والمنظَّمات والأندية إلخ إنَّما تستهويهم بنسبة مُطابقة سيَّالاتهم لِما يُريدون اعتناقَه أو الانخراطَ فيه. ولذلك لا يُنتظَرُ من البشر أن ينجذبوا جميعًا إلى عقيدة دينيَّة أو سياسيَّة أو اجتماعيَّة واحدة ولا إلى غيرها من الاهتمامات إلاَّ إذا تقاربَت سيَّالاتُهم جدًّا في درجاتها واهتماماتها.

وأَسطعُ مثَلٍ واقعيّ للتجاذُب بين السيَّالات يراه الدكتور داهش في الصداقة المُخلصة التي تدفعُ الصديق إلى خدمة صديقه بكلّ اندفاع وإخلاص حتَّى الاستعداد للتضحية بنفسه من أجله. ولنا من موقف الدكتور جورج خبصا من مُؤَسِّس الداهشيَّة، ثمَّ موقف الدكتور داهش من النِّطاسيِّ الشهير بعد وفاته ما يُؤَكِّدُ ذلك. يقولُ رجلُ الروح في إحدى مراثيه لخبصا:

لِتنسَني يميني إنْ نسيتُكَ، يا أَخي الحبيب،

ولتُمزِّقْ قلبي نسورُ الفضاء،

ولتقتلعْ عَينَيَّ بمخالبِها القاطعة،

هذا إذا سَلوتُكَ، يا مَن أَصبحتَ جزءًا لا يتجزَّأُ عنّي.

فأَنتَ سيَّالٌ من روحي التعيسة لِفقدِكَ الأَبديّ،

وذكرُكَ لن يُفارقَني حتَّى يُواريَني الثرى.14

كذلك ناجى الدكتور داهش ماجدا حدَّاد، شهيدة الداهشيَّة الأُولى التي انتحرَت في 27 /1/1945احتجاجًا على اضطهاد مَن آمنَت به، ليكونَ موتُها صرخةً في ضمائر الظالمين. وقد أفردَ لها كتابًا كاملاً من المراثي. وقد جعلَ تحت عنوان إحداها الإهداءَ التالي: مُهداة إلى روح الجزء الشفَّاف المُنفصل عن روحي الحزينة ماجدا حدَّاد.15 وقد وردَت في عدَّة قِطَعٍ وجدانيَّة مِمَّا كتبَه مُؤَسِّسُ الداهشيَّة إشاراتٌ شبيهة بما تقدَّم؛ وهي تُؤَكِّدُ أَنَّ التجاذبَ الروحيَّ الشديد يدلُّ على أصلٍ روحيٍّ واحد تفرَّعَ منه، على الأَقلّ، سيَّالان في الاثنَين. ولعلَّ أوضحَ تلك القِطَع قصيدتُه من قديم الزمان.16

هذه الحقيقة تجلَّت في الحبِّ الرومَنسيّ، أو الأفلاطونيّ، أو العُذريّ، الذي يبدو فيه سببُ التجاذُب الشديد بين الطرفَين أَشبهَ بسرٍّ غامض لا علاقةَ له بالشهوة أَو الإخلاص أو العناية المتبادَلة. هذا الحبُّ الذي يوصَفُ باللامعقول، والذي لا يعتمدُ صفاتٍ معيَّنة جسميَّةً كانت أم معنويَّة، ولا مالاً أَو جاهًا أَو مهنة، يراه عالِمُ النفس هيلمان من خصائص قدَرِ الإنسان قبل أَن يولَد. وقد أَظهرت الدراساتُ السيكولوجيَّة أَنَّ الحبَّ الرومنسيَّ الفُجائيّ لا علاقةَ له بالوراثة ولا بالبيئة.17 وهذا الرأيُ يُؤكِّدُ النظرةَ الداهشيَّة.

3- تأثيرُ الصلاة في شفاء المرضى ومُساعدة الموتى

عام 1943، عقدَ الدكتور داهش جلسةً روحيَّة للمُحامي والوزير اللبنانيّ السابق، إدوار نون، الذي كان قد كتبَ في منزله 72 سؤالاً عن أُمورٍ مختلفة مجهولة أَو غامضة طالبًا أجوبةً عنها. فطلبَ الروحُ العليُّ إليه أَن يضعَ الأسئلة في ظرفٍ أمامه. وبلمح البصر ارتسمَت الأجوبةُ الروحيَّة بصورة إعجازيَّة تحت الأسئلة. بين الأسئلة واحدٌ عن مدى إفادة المرضى والموتى من الصلوات. كان الجوابُ الروحيُّ أَنَّهم يستفيدون من صلوات أهلهم وأقربائهم ومَن يتَّصلون بهم بسيَّالاتهم؛ وأنَّ على المسؤولين عن المُستشفيات أَن يُقيموا فيها مركزًا خاصًّا للصلاة من أجل المرضى. وهذا يعني أَنَّ الصلاةَ، بالرغم من ضرورتها، فهي لا تُفيد إذا كانت صلواتٍ عامَّة يتلوها المؤمنون بُغيةَ مُساعدة مريضٍ أو ميتٍ ما، سواءٌ كان المُصلُّون من رجال الدين أَم من عامَّة الناس. فالصلاةُ لا تُفيد إلاَّ بقدرِ ما تكون صادرةً بإيمانٍ وصدقٍ عن أُناسٍ تربطُهم بالمريض أو الميت سيَّالاتٌ معيَّنة، بناءً على نظام السَّببيَّة الروحيَّة.

هذه الحقيقة الروحيَّة استشفَّتها دانا زوهار مُنطلقةً من واقع الكوانتا العلميّ لتنفيَ الموتَ بمعنى الفناء الدائم، وتُؤكِّد أنَّه حيثُ يكون تعاطفٌ وتشابكٌ بين الذوات الإنسانيَّةحتَّى بين ذوات الموتى وذوات الأحياءفهناك يكون التأثيرُ المتبادَل. تقولُ عن الموتى: إنَّني (إلى حدٍّ ما) جزءٌ منهم. فمن خلالي، من خلال أَنَّ جوانبَ من كياناتهم مُتشابكة مع كياني، هم مُتقمِّصون، مُندمجون في حياتي، ليعيشوا مثلما أَعيش.18

وموضوعُ تأثيرِ الصلاة في شفاء المرضى دفعَ المعنيِّين من الباحثين إلى القيام بدراساتٍ واستطلاعاتٍ كثيرة في هذا المجال؛ لكنَّها أَسفرَت عن نتائجَ فيها بعضُ التناقُض. غيرَ أنَّ الناحية الإيجابيَّة من الصلاة، سواءٌ قام بها المرضى أنفسُهم أم أقرباؤهم، دفعَت أَكثرَ معاهدِ الطبِّ الأمريكيَّة (أكثر من 70 معهدًا من أصل 125) إلى تضمين برنامج التدريس مادَّةً توضِحُ تأثيرَ الروحانيَّة في مُعالجة المريض.19

تفاعُلُ السيَّالات البشريَّة مع ما هو غيرُ بشريّ

هذا التفاعلُ يتَّخذُ إحدى حالتَين: إمَّا يكون تعاطفًا وتجاذبًا وتلاؤمًا، وإمَّا يكونُ تنافرًا وتناقُضًا. فالتعاطفُ الذي يحصلُ بين إنسانٍ ما وبعضِ الحيوانات الأَليفة أو البرِّيـَّة أحيانًا ذو معنًى سيكولوجيٍّ خاصّ في الداهشيَّة. فإمَّا يكون بين الحيوان وصاحبِه سيَّالٌ مُشترَك، وإمَّا يكون بينهما تشابكٌ في السيَّالات نشأَ، في دورةٍ حياتيَّة سابقة، عن تعاطُفٍ بينهما.

هذا التعليلُ يصحُّ أيضًا في حال انجذاب إنسانٍ ما إلى مظهرٍ مُعيَّن من مظاهر الطبيعة، كشجرةٍ أَو صخرةٍ أو جبلٍ ما إلخ. ذلك بأنَّ السيَّالات منتشرة في الطبيعة كلِّها، وهي في انتقالٍ مُستمرٍّ بين مظاهرها وبينها وبين البشر، تَبعًا لاستحقاقها. ولا علاقةَ لذلك باللعبة الرمزيَّةِ الرومنسيَّة أو بما تُمثّلُه الطبيعةُ عامَّةً من روحانيَّة. فالدليلُ هو تركيزُ الإنسان، فنَّانًا أو أديبًا كان أم عاديًّا، على مظهرٍ طبيعيٍّ معيَّن وإيلاؤه اهتمامَه وعواطفَه.

أَمَّا التنافُر بين إنسانٍ ما وحيوانٍ أو مظهرٍ طبيعيٍّ مُعيَّن فتعليلُه هو التناقضُ الحاصل بين سيَّالات الاثنَين، سواءٌ أَكان ذلك في الدرجةِ الروحيَّة، أَم في تباغُضٍ وتَعادٍ حدَثا بينهما في تقمُّصٍ سابق. ولا علاقةَ لذلك بما يُمكنُ أن يحصلَ، أحيانًا، من أحداثٍ في طفولةِ الإنسان يبقى تأثيرُها راسخًا في نفسه، كالخوف من البحر بعد غرقٍ سابق، أو الخوف من الكلاب بعد مُعاناةِ عضَّة إلخ.

وثمَّةَ ظاهرةٌ مرَضيَّة ما يزالُ الأطبَّاءُ عاجزين عن فَضِّ سرِّها، وهي الحسَّاسيَّة allergy. فمن حسَّاسيَّة لَمسيَّة، يستثيرُ الجلدَ فيها أنواعٌ خاصَّة من الأقمشة أو العناصر، إلى حسَّاسيَّة شمِّيَّة تستثيرُ الأنفَ فيها أصنافٌ معيَّنة من الروائح أو ذَرِّ الأشياء، إلى حسَّاسيَّة حَشَويَّة يستثيرُ المعدةَ فيها أَلوانٌ معيَّنة من الأطعمة أو الأشربة أو العقاقير إلخ. هذه الظاهرة يتعذَّرُ تفسيرُها وتعليلُها إلاَّ في ضوءِ تناقُض السيَّالات الكائنة في الأشخاص المعنيِّين والأشياء التي تُسبِّبُ لهم الحسَّاسيَّة.

وجديرٌ بالذكر أنَّ سيَّالات الأطعمة والأشربة تُؤَثِّرُ في سيَّالات الإنسان سلبًا أو إيجابًا، وهي تتأَثَّرُ بها، لأنَّ سيَّالاتها تتَّصفُ بالإدراك والشعور، وإن يكن وَفقَ نظامٍ مُختلف عمَّا يعهدُه البشر.20 وليس أدلُّ على ذلك من الكحول واللحوم الدهنيَّة مُقابل عصير الفواكه والبقول والخُضَر. فسيَّالاتُ الأخيرة أفضلُ من الأُولى. وقد أظهرَت مئاتُ الدراسات الطبِّيَّة هذه الحقيقة التي أَعلنَها مُؤَسِّسُ الداهشيَّة لتلاميذه منذ عام 1942. فطعامُه المفضَّل طوالَ حياته كان الفواكه والخُضَر، ولا سيَّما البصَل. وإن يأكل اللحمَ، فيأكله نادرًا ونَزرًا. وكان يدعو أَتباعَه إلى الاقتداء به من غير إلزامِهم. والطبُّ يُقيمُ المُفاضلة بين الأطعمة بناءً على تركيبها الكيميائيّ؛ لكنَّ هذا التركيبَ عينَه هو نتيجةٌ للسيَّالات الديناميَّة التي برمجَت جيناته. وبهذه السيَّالات التي هي نسيجُ الطبيعةِ كلِّها يتفاعلُ الطعامُ كما عناصر الطبيعة مع الإنسان.

تقولُ دانا زوهار: إنَّ المادَّةَ غيرَ الحيَّة التي نتكوَّنُ منها نحن الكائناتِ العاقلة هي في تغيُّرٍ مُستمرّ. وفي حال البشر، يتمُّ تغيُّرُها تمامًا كلَّ سبعِ سنوات. فليس من ذرَّةٍ واحدة مُشاركة في بناءِ كياني الطبيعيّ الآن كانت فيه قبل سبعة أَعوام. إنّ أَجسامَنا الحيَّة هي في تغيُّرٍ ديناميّ دائم ومُتبادَل مع أَجسامٍ حيَّة أُخرى حولنا كما مع العالَم غيرِ الحَيِّ الذي يُحيطُنا. فكيف يُمكنُ أَن تكونَ الذرَّاتُ نفسُها جزءًا من بِنيةٍ عاقلة في وقتٍ ما من تاريخِها، وجزءًا من شيءٍ غيرِ حَيّ في وقتٍ آخَر!21

الهرَمُ

إذًا وَفقَ التعاليمِ الداهشيَّة تبقى سيَّالاتُ الإنسان المُقولِبة لجيناته في تفاعُلٍ مع مجالِه الحيَويّ وإرادته طولَ حياته. لكنَّ أعمالَه وأفكارَه ونزعاتِه، إذا كانت شرّيرة أو سافلة، تُسبِّبُ هبوطَ سيَّالٍ أو أكثر من سيَّالاته، وبالتالي مُغادرتَها جسمَه لتتقمَّصَ بالشكلِ الذي تستحقُّه. كذلك فالعمليَّاتُ الجراحيَّة التي تُجرى له والأمراضُ العُضال التي يُعانيها وأسبابٌ نجهلُها تدَعُ السيَّالات تتركُه تدريجًا. وبقدرِ ما يتركُه من سيَّالات يتسرَّبُ الهرمُ إليه؛ فيضعفُ بصرُه وسمعُه وعقلُه وذاكرتُه، وجسمُه... لكنَّ الموتَ لا يُصيبُه إلاَّ حينما يُغادرُه سيَّالُه الرئيسيّ الذي منحَه الحياة. «

ألمراجع:

 

1. Knopf, NY, 1994 . إعتمدتُ في هذا البحث بعضَ ما وردَ في مراجعتي لكتاب سيلِغمان (صوت داهش، أَيلول، 1996.

2. New York Times, C 9, April 16, 1996.

3. على سبيل المثال أنظر:Jeff Lyon & P. Gorner. Altered Fates The Genetic -

Reengineering of Human Life. Norton, 1995.

- Steven Pinker, “The Blank Slate” in: Discover, Oct. 2002, pp. 34–40.

4. “Weight, fate, set point, counterpoint” in U. of California at Berkeley Wellness Letter,
Vol. 11, Issue 9, June 1995

5. W. Wayt Gibbs, “The Unseen Genome: Beyond DNA” in Scientific American, Dec. 2003.

6. New York Times, February 25, 1996; Newsweek, February 26, 1996.

7. أنظر: Darold A. Treffert, M.D. Extraordinary People: Understanding “Idiots Savants” (New York: Harper & Row, Pub., 1989), pp. xxv–xxvii, 208–212.

8. أنظر مثالاً على ذلك قطعتَي معركة حقيقيَّة واقعيَّة ويا للهَول في قصص غريبة وأساطير عجيبة، الجزء الأوَّل (بيروت: دار النسر المحلِّق، 1979) ص 24–28.

9. Steven Pinker, Ibid., p. 40.

10. Dana Zohar. The Quantum Self: Human Nature and Consciousness Defined by the New Physics (New York: Quill/William Morrow, 1990), pp. 107–124.

11. R. Ornstein. The Roots of the Self: Unraveling the Mystery of Who We Are (San Francisco: Harper, 1993), Chapter “Why Are Children in the Same Family so Dissimilar?”, pp. 115–129.

12. أنظر د. داهش: قصص غريبة وأَساطير عجيبة، ج 2 (بيروت: دار النسر المحلِّق، 1979)، ص 121.

13. أنظر سِفر التكوين 14: 17–24؛ وسِفر المزامير 110: 4؛ ورسالة بولس الرسول إلى العبرانيِّين: 7. وأكثر الشارحين للكتاب المقدَّس يجعلون موقعَ ساليم مدينة أورشليم نفسها (القُدس)؛ وساليم تعني السلام. أمّا ملكيصادق فتعني: مَلِكي صادق.

14. د. داهش: نهرُ الدموع: مراثي الدكتور داهش في شقيق روحِه الدكتور جورج خبصا (بيروت: دار النسر المحلِّق، 1979)، ص 52.

15. د. داهش: الحمامة الذبيحة أو الشهيدة الداهشيَّة الأُولى ماجدا حدَّاد (نيويورك: الدار الداهشيّة، 1990)، ص 175.

16. د. داهش: أَسرار الآلهة، ج 2، (بيروت: دار النسر المحلّق، 1980)، ص 72–82. كذلك من الأمثلة قولُ حرمخيس لأمونارتس: فالسعادة هي أنتِ، وأنتِ ينبوعُ الفرح الدافق الذي احتلَّ كياني منذ شاهدتُكِ. فأنتِ، لا شكَّ، جزءٌ من روحي المنفصلة عنِّي من قديم الزمان. ثمَّ تعليق الدكتور داهش على ذلك بقوله: إذًا فقد كانا معًا منذ آلاف الأعوام؛ وهذه حقيقة يُثبتُها الشعورُ العنيفُ المُشترَك. (قصص غريبة وأساطير عجيبة، ج 1، ص 220). أنظر كذلك قولَه: فأنا هي، وهي أنا؛ وعندما تتقمَّص ستكون نجواي الوحيدة (قصص غريبة...، ج 3، ص 159)؛ وكذلك عنوان قطعته: أَِليس، هذا السيَّالُ المنفصلُ عنِّي (القلب المحطَّم، بيروت: دار النسر المحلِّق، 1984)، ص 345.

17. James Hillman. The Soul’s Code: In Search of Character and Calling, (New York: Random House, 1996), pp. 140–147.

18. Dana Zohar. The Quantum Self: Human Nature and Consciousness Defined by the New Physics, p. 148.

19. أنظر: Claudia Kalb, “Faith and Healing” in Newsweek, Nov. 10, 2003, pp. 44–56

20. أنظر د. داهش: قصص غريبة وأساطير عجيبة، ج 2، أقصوصة حديث بين بصلتَين خضراوَين، ص 91–93.

21. Dana Zohar. The Quantum Self: Human Nature and Consciousness Defined by the New Physics, p. 57.

تقول البارونة سوزان غرينفيلدأُستاذة الفيزيولوجيا والتشريح المقارَن في جامعة أُوكسفوردفي مقابلة معها أَجرتها Discover: إنَّ كلَّ جينة تُشارك في كثيرٍ من الوظائف، وإنَّ وظائفَ كثيرة تُشارك فيها جيناتٌ كثيرة. وهذه الجينات بدورها ستنشط أو تكفّ عن العمل تَبعًا لِما يحصل في نمطِ حياتك مع محيطكَ الشخصيّ ومُثيراته.Sept. 2003, p. 20

  Back to التعاليم الداهشيَّة بقلم الدكتور غازي براكس