info@daheshism.com
ثامنًا: الرقيُّ الروحيُّ معاييرُهُ وأبعادُه

أبعادُ العدالةِ لدى مؤسِّس الداهشيَّة

 

النظام الخُلُقي

          ما دام الإنسان يتعذر عليه أن يعيش بمعزلٍ عن الناس ، فكيف عليه أن يتصرف في علاقاته معهم من أجل تحقيق أهدافه التي غالباً ما تكون الثروة والرفاهية ، أو القوة والسلطة ، أو السعادة بمفهومها الفضفاض ؟ هل يجوز للإنسان ، فرداً كان أم جماعة ، أن يستخدم أية وسيلةٍ يراها مناسبة شريفةٌ كانت أم دنيئة تحقيقاً لأغراضه أم ثمة حدودٌ واجبةٌ لتصرفاته وقيمٌ عليه التزامها دون غيرها ؟

          هذه الأسئلة وسواها مما يستهدف التمييز بين الحقوق والواجبات ، أو الحق والباطل ، أو الفضيلة والرذيلة ، أعطت الأجوبة عنها الشرائع الدينية والسنن الاجتماعية والنظريات الفلسفية في سياق العصور . ومجموع تلك الأجوبة ، في كل نظامٍ ديني أو إجتماعي أو فلسفي ، جرى الاصطلاح على تسميته ب"النظام الخُُلُقي" أو "الفلسفة الخُُلُقية " ethics  . وإنما همنا ، هنا ، جانبٌ واحدٌ من هذا النظام هو مفهوم العدالة وكيفية تجلي أبعادها في تعاليم مؤسس الداهشية .

 

نظام العدالة الإلهية الشامل

 

          يستحيل على الملحد أو المشكك في وجود قدرةٍ أليةٍ مبدعة أن يؤمن بوجود نظامٍ شاملٍ لعدالةٍ روحيةٍ غير منظورة ، فهو يميل إلى تعليل الأحداث الجارية بالصدف السيئة أو الحسنة ؛ بل إن المؤمن نفسه يتعذر عليه أن يتصور بوضوح سريان العدالة الروحية الشاملة في العالم ، وخصوصاً في ماجريات الحياة اليومية . ولذا فإن من أتيح له أن يعاين معجزةً حقيقية ويلمس من خلالها وجود القوة الروحية الجبارة التي تحدثها فيؤمن بها يكون قد حظي بمساعدةٍ عظمى ، ذلك لأن الإنسان ، مهما تكن علومه ومواهبه ، لعاجزٌ عجزاً تاماً عن إتيان المعجزات . وهذه الاستحالة أكدها جمهور العلماء ، لأن الإنسان ، أياً كان ، خاضعٌ لقوانين طبيعية تهيمن على الأرض كما على الكون المادي كله ، وهذه القوانين ثابتةٌ لا يمكن خرقها .

          غير أن الخوارق لا تحدث إلا عند بعثة الرسالات السماوية تأكيداً لصحتها وإثباتاً لوجود العالم الروحي الإلهي الخالد المنوط به تسيير العوالم جميعها ، وإجراء العدالة الروحية الشاملة فيها . وتوضيحاً لهذا الأمر سأذكر بإيجازٍ حدوث ظاهرة روحية مذهلة للدكتور جورج خبصا ، نِطاسي الأمراض الجلدية الشهير ، يوم كان مرافقاً مؤسس الداهشية في رحلته الأولى حول العالم عام 1969 .

          ففي الرابع من تشرين الأول (أكتوبر) من العام المذكور ، وصل مؤسس الداهشية ورفيقه الدكتور خبصا إلى مطار ميونخ بألمانيا ، واستحال عليهم أن يجدا غرفةٌ شاغرة ٌ يبيتان فيها سواءٌ في فندق ٍ أو نزل ٍ صغير ٍ أو حتى منزل ٍ خاص ، وذلك من جراء إقبال الناس على إحتفالاتٍ موسميةٍ ستقام في المدينة ، فاضطرا ، مع ثمانية عشر شخصاً آخرين ، إلى تمضية الليلة على المقاعد في محطة المطار . وفي تدوينه لوفائع اليوم التالي ، يقول الدكتور داهش :

          في الساعة السابعة والنصف من صباح اليوم تجلت روح للدكتور خبصا وقالت له : " امض الآن برفقة الدكتور واستقلا تكسياً واذهبا به إلى المدينة . وعندما تبلغانها اذكرا لسائقها أنكما لم تجدا أية غرفةٍ في أي فندق ." وتابعت الروح المتجلية قائلة ً :" الغرفة التي يجب أن تنزلا فيها مهيأة ٌ لكما ، والسائق سيعلمكما بها ."

          فصعدا في أول سيارةٍ في الموقف . وإذ أخبرا السائق باستالة عثورهما على غرفةٍ شاغرة ، قال لهما إن صديقه أبلغه " أن في منزله غرفة ً ذات سريرين فقط يريد إيجارها لشخصين ..." فطلبا إليه إيصالهما إلى المنزل . فاستأجرا الغرة لليلةٍ واحدة ، ووضعا حقائبهما فيها ، ثم انصرفا إلى المدينة يشاهدان معالمها الفنية والسياحية . وعند الثامنة مساءً عادا إلى المنزل ، فوجداه مقفلاً ولا أحد فيه . وبعد محاولاتٍ غير مجديةٍ لدخوله وقلق ممضًّ وأفكارٍ سوداء ساورتهما ، وانتظارٍ دام ساعة ً ونصف الساعة ، تجلت الروح في وجه مؤسس الداهشية وقالت للدكتور خبصا :" سأقود خطاكم إلى مطعمٍ قريبٍ من هنا ، وهناك توجد المرأة صاحبة المنزل ." وهذا ما تم فعلاً . وعند تدوين الدكتور داهش لهذه الحادثة الخارقة يعلق قائلاً :

          ومن لا يصدق [ أي الظاهرة الروحية ] أعتبره عائداً بصفقة الغبون ، لأنه يبقى جاهلاً هذه القوة الروحية الجبارة التي تسيِّر عالمنا الأرضي في كل لحظةٍ من لحظاته بنسبة سيالات البشر واستحقاقاتهم ، وذلك وفق نظامٍ وضعه الخلق لكوكب الأرض .

          وقد أكد مؤسس الداهشية أن هذا النظام الإلهي المبني على العدالة الروحية كما على حرية الإنسان النفسية هو نظامٌ شاملٌ ثابتٌ لا يتغير ولا استثناءات له . يقول على لسان زوس ، رب الأرباب ، في " أسطورة الشمعة الباكية " : وبما أنني قد وضعت نظاماً للأرض ، وهذا النظام يطبق على أي مخلوق يرودها بالولادة أو سواها ، فإنني ملزمٌ بالتقيد بهذا النظام الإلهي المفروض على أبناء الأرض . ونظامي هذا يمنع حتى الآلهة والإلاهات أن يسيطروا على أي مخلوق بشري مهما ارتكب من موبقات .  

          ونظام العدالة الإلهية يقضي بأن يستوفي الإنسان جزاءه عما يأتيه من أعمالٍ ورغباتٍ خيراً كان أم شراّ. في كتاب الدكتور داهش الملهم " مذكرات يسوع الناصري " يقول يسوع لآدوم بن بطرس الرسول :

          فما تزرعه ، يا عزيزي آدوم ، إياه تحصد . هذه هي العدالة الروحية التي لا تتأثر بعوامل أرضية سخيفة، مثلما يجري على هذه الأرض ...

          وكيفية تنفيذ العدالة الإلهية تكون بموجب قانونٍ إلهيٍّ شاملٍ هو السببية الروحية التي تقضي بأن يجازى كل مخلوق بحسب أعماله ورغباته . وقد أوضحت هذا الأمر وفصلته في بحثٍسابقٍ بعنوان " السببية الروحية والعدالة الإلهية " ( صوي داهش "، كانون الأول / ديسمبر 1995 ) كما أوضحت مفصلاً في بحثٍ آخر عنوانه    " العدالة الروحية والتقمص" ( " صوت داهش " آذار / مارس 1996 ) أن العدالة الإلهية قد تتخذ مجراها في عدة أدوارٍ حياتيةٍ يعيشها الإنسان متقمصاً إنساناً أو حيواناً أو جماداً ، لا في دورٍ بشريٍّ واحد فحسب .

 

أوضاع البشر نتيجة ٌ لنظام العدالة الإلهة

 

          ما من إنسانٍ عاقلٍ يستعرض التاريخ البشري بنظرةٍ فاحصةٍ إلا يتأكد له أن نهر الحياة الجاري في الأرض منذ ألوف السنين مصبغ ٌ بالدم ، وأن اللون الأسود القاتم هو اللون الطاغي على سائر الألوان في عيون البشر . فالآلام والأمراض والمصائب لا تستثني أحداً ، والكوارث الطبيعية لا تستثني بلداً ، وشريعة القوة هي السائدة ، فالفرد القوي يسحق الفرد الضعيف ، والظلم مستشرٍ حيثما كان ، منذ بدء التاريخ؛ وهذه الحقيقة يؤكدها الدكتور داهش في مواضع كثيرةٍ من كُتُبه القصصية الوجدانية . ويمكن إيجاز موقفه من الظلم بالسداسية التالية :

          لقد داس القوي على أعناقنا وهشم رؤوسنا

          لقد استلب أموالنا ، ثم سطا ظلماً على أعراضنا

          لقد شاهد آلامنا ، فسخر منا لاهياً ثم طرب لأمراضنا

          لقد انتزع منا بيوتنا ، وطردنا منها طردةً منهكة

          لقد هزأ بنا وبأجدادنا طويلاً متخذاً إيانا ألاعيب مضحكة

          ثم نراه وقد تخلى عنا ، بعد أن قوض أمانينا وحطم كؤوسنا .

وبالرغم من قيام الأنظمة الديمقراطية الحديثة ، ونشوء منظمة الأمم المتحدة ، ما زالت العدالة بين الشعوب أمنية سرابية ، والدولة القوية لا تعدم حيلةً تتوسلها تحت شعار المؤزارة ورفع الحيف لتجذب إليها الشعوب المظلومة ، لكنها لا تلبث أن تصبح جلادها الجديد . يعقب الدكتور داهش بلسان الدينار الذهبي ( بطل قصة " مذكرات دينار " ) ، على خطاب الملك جورج السادس عشية الجلسة الافتتاحية لمنظمة الأمم المتحدة في 10/1/1946 ، بقوله :

          وقد كان هذا الخطاب بمثابة افتتاح هذا المؤتمر الذي يهدف لبناء ( عالم جديد ) تشيد أسسه على حجارة  ( العدالة ) ... هذه الكلمة الخرافية السحرية التي رددتها الأجيال منذ فجر التاريخ ، وما زالت ترددها دونما انقطاع .

          ولكن عندما تريد الدولة القوية أن تبطش بدولةٍ أقل قوةً منها ، فإنها تسخر بشعب تلك الدولة ، بعدما تخدعها وترقيها بهذه العبارة الخيالية كما يرقي الحاوي أفعوانه !...

          وإذ ذاك يتم لها ما تريد بمؤازرة ذلك الشعب نفسه ، لأنه يعتقد أن سيتمتع بالعدالة التي تضن بها دولته عليه . وعندما يسقط في الشرك ، يسام الذل والهوان .

          ولذلك كله يرى مؤسس الداهشية أن القوانين التي تسنها الشعوب إما تكون سخيفةً، مصوغةً بطريقةٍ تخدم الأقوياء وذوي المصالح الكبرى ، أو تبقى حبراً على ورق ، إن طبقت فعلى القاصر والفقير والضعيف ، أما المجرمون الكبار فيتملصون من قبضة العدالة أو يصبحون من مشَّرعيها . هذه الحقيقة التي نشر الدكتور داهش صورها الاتمة في " مذكرات دينار " أجملها في سداسية بعنوان " العدالة الموؤدة " :

          يا أعواد المشانق ... كم لك من ضحايا بريئةٍ شريفة !

          وكم من أثمةٍ لم يتأرجحوا بحبالك القوية ،

          ولؤماء لم تطلهم يد الأحكام العدلية !

          إن دموع الآباء والأبناء تشق الفضاء !

          وصرخاتهم العميقة تخرق السحاب فالسماء !...

          لا كنت يا أحكام !... وتباً لك ، أيتها القوانين السخيفة !

          لكن هذه القاعدة العامة لها استثناءاتٌ كثيرة ، لا سيما في البلدان التي انتصرت فيها الحرية وازدادت حرمة حقوق الإنسان ؛ والمثل الأبرز على هذا الصعيد يراه الدكتور داهش في الولايات المتحدة الأمريكية التي ، على غطرستها حيال الشعوب الأخرى ، تمكنت من إقامة العدالة على أرضيها إلا في مجالات قليلة .

          ويؤكد الدكتور داهش أنه على استحقاق البشر لما ينزل فيهم من آلام ومصائب ، فإن الصالحين نسبياً بينهم قد يُمتحنون أحياناً ليسبر عمق إيمانهم فيزداد فضلهم ؛ هكذا تكون المصائب حافزاً لهم إلى مزيدٍ من الارتقاء الروحي ؛ علماً بأن تلك المصائب الامتحانية تبقى خاضعة لنظام السببية الروحية ، وإن لم تكن نتيجةً للاستحقاق الشخصي .

          ويبقى في التاريخ الديني مثل أيوب الصالح هو الأبرز على هذا الصعيد . غير أن مؤسس الداهشية يمدنا بمثلٍ جديدٍ يعرضه في كتابه الملهم " مذكرات يسوع الناصري " هو سجن الشرطة الرومانية لبطرس الرسول يوم كان المسيح ما يزال في حداثته ز فبعد أن يحضر شقيق سمعان بطرس إليه ويخبره بأن موت قائد الشرطة الرومانية في كفرناحوم الذي حدث على أثر تقريعه وتهديده ليسوع ، ألقيت تبعت على سمعان بطرس ، فحكم عليه بالسجن عاماً كاملاً ، يقول يسوع الفتى لشقيق سمعان :

- يا للظلم الشنيع !

  لا تحزن ، ولا تبتئس ،

فإن هؤلاء الأشرار سيلاقون أشد الجزاء .

ليكن إيمانك بالله وطيداً .

فإن هذا الأمر قد تم كتجربة

ليُعجم بواسطت صلابة إيمان سمعان .

فإذا لج وتذمر يكون الخسران حليفه ،

وإن صبر واستسلم للإرادة الباري تعالى ،

فالفوز سيسير في ركابه .

ويا لساعدته !

ومثل بطرس الرسول كثيراً ما حدث وتكرر قبلهوبعده ، عند بعثة كل رسالةٍ سماوية. فاضطهاد الأنبياء

وتلاميذهم في جميع العصور يستوي في الخط نفسه . إنه معاناة العذاب والاضطهاد والاستشهاد من جراء التشبث بالإيمان الروحي الجديد ؛ علماً بأن الرسالات السماوية والهدايات الروحية كلها ذات وحدةٍ جوهرية .

          ولئلا يخسر أي إنسان فضله في الصبر والاستسلام للمشيئة الإلهية ، عند حلول المصائب ولآلام ، بسبب عجز البشر عن كشف أسرار السببية الروحية المهيمنة على مجرى الحياة ، فإن مؤسس الداهشية يوجب الإيمان بعدالة السماء في كل ما يصيبنا . يقول:

          أنا أؤمن بأنه توجد عدالة ٌ سماوية ٌ، وأن جميع ما يصيبنا في الحياة الدنيا من منغصات وأكدار إن هو إلا جزاءً وفاقاً لما اجترحناه في أدوارنا السابقة من آثام ٍ وشرور ؛ ولهذا يجب علينا أن نستقبل كل ما يحل بنا من آلام الحياة ومآسيها غير متبرمين ولا متذمرين ، بل قانعين بعدالة السماء ونظمها السامية .

          وينبه الدكتور داهش الناس إلى أن العدالة الروحية كانت – وما تزال – مقترنة بالرحمة الإلهية التي تتجلى في إرسال الأنبياء والهداة من أجل إنارة بصائر الناس علهم يرون الطريق الذي يؤدي بهم إلى الارتقاء الروحي وبالتالي إلى إبعاد الآلام والمصائب عنهم ؛ لكن الناس كانوا- وما زالوا- يجحدون المرسلين ويضطهدونهم منزلين بهم أشد العذاب .

          نعم ، إن الإنسان يستحق هذا المصير التاعس

          إذ كم من المرات زار أرضنا عددٌ من الأنبياء ، رُسُل الله ،

          وشرحوا لنا حقيقة الوجود ، والغاية التي خلقنا لأجلها ،

          وأطلعونا على أسرارٍ روحيةٍ سماوية ،

          وأكدوا لنا أننا ، إذا سرنا على هداها،

          وتنازلنا عن بعض لذات جسدنا الحسية الترابية ،

          فإننا ننال عوالم فردوسية متعها خالدة ولذاتها سرمدية .

          وإذانا نهزأ بهم وبتعاليمهم ،

          ونسخر من أسرارهم الروحية وإرشاداتهم السماوية ،

          ونضطهدهم ونرشقهم بكل فريةٍ ،

          ونصمهم بكل نقيصةٍ وتهمةٍ زرية ..."

          واضطهاد الأنبياء والهداة يؤدي إلى مضاعفة عقاب الظالمين وإلى رسوفهم في شقائهم وويلاتهم طول أجيالٍ كثيرة متعاقبة ، لأن العقاب الإلهي لا ينال الجاحدين البغاة فحسب ، بل يمتد أيضاً إلى أبنائهم وأحفادهم وذراريهم بسبب كونهم امتداداتٍ نفسية وراثية لطاقاتهم الإدراكية والنزوعية والإرادية.

          هذه الحقيقة التي أوضحها مؤسس الداهشية في مواضع مختلفة من كتاباته ، أشير إليها في الوصية الثانية من وصايا الله العشر التي أنزلت على موسى النبي ، في معرض تحريم عبادة الصور والتماثيل أيا يكن من تمثله . قالت الوصية : " لا تسجد لهن ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك إلهٌ غيورٌ أفتقد ذنوب الآباء في البنين إلى الجيل الثالث والرابع من مبغضي ، وأنع رحمةً إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي ."

          تلك كانت صورة النظام الإلهي للعدالة الروحية الشاملة ولمفاعيلها في أوضاع البشر . وعلى هذه القاعدة بني مفهوم نظام العدالة ، في التعاليم الداهشية ، بأبعاده المختلفة : العدالة في التعامل ، عدالة السلطة ، عدالة القضاء ، العدالة السياسية ، العدالة بين الشعوب .

           

العدالة في التعامل بين الناس

          من البديهيات في التعاليم الداهشية أن كيفية تعامل الإنسان مع الآخرين يحددها مستوى سيَّالاته . والسلوك التعاملي يتأثر ، بالدرجة الأولى ، بالمبادئ الخلقية الدينية ، أو الخلقية الفلسفية التي يعتنقها الإنسان .

          ولا شك في أن المؤمن بخلود النفس وبالثواب والعقاب إيماناً صادقاً يكون له من ضميره رادعٌ عن أعمال الإساء للآخرين ؛ أما الملحدون أو المشككون أو المراؤون فليس لديهم ما يردعهم عن إشباع نزواتهم ومطامعهم باستخدام كل وسيلةٍ ممكنة مهما تكن دنيئة . لا يشذ عن هذه القاعدة إلا قلائل من المفكرين يكونون متمتعين بمستوى إدراكي عالٍ يمكنهم من تصور نتائج أعمالهم على الصعيد الاجتماعي ، فيؤثرون الصيت الحسن على السمعة الرديئة . وهؤلاء يبقون قلةً ضئيلة ً في كل مجتمع ، ونفورهم من الإيمان الديني يكون مصدره ، في الغالب ، ما زرعه رجال الدين من مظالم وفضائح وقبائح في طريق الإيمان عبر العصور .

          وبما أن الناموس الروحي هو ناموس الحق والعدالة ، فمن تكن أعماله عادلة يكون مجارياً للناموس الروحي ، وبذلك يرقي نفسه ويزيدها سلاماً واطمئناناً ، ومن تكن أعماله مؤذية فإنه يناقض الناموس الروحي ، وبذلك يسفِّل نفسه ويزرع فيها بذور الاضطراب ، فضلاً عن أن أعمال الباطل ستعاقب صاحبها وفقاً لنظام السببية الروحية الشامل .

          وفي العصور الحديثة ليس من شخصٍ مثّل العدالة في السلوك الاجتماعي مثلما مثلها المهاتما غاندي ( 1869-1948 ) في سلوكه المبني على اللاعنف والصدق والتواضع والاستقامة . والدكتور داهش يستشهد بحياته وتصرفاته في كتابه "مذكرات دينار" كما في مواضع أخرى من كتبه ، بينها مقالٌ كتبه في "وداع عام 1948" الذي شهدت أوائله مصرع غاندي ؛ مما يقول فيه :

 

          لقد تقوضت أعمدة الفضيلة،

          وأُلحدت العدالة في جدثها السحيق الأغوار،

          وتوارى الحق غائصاً في أعمق الأسحاق خجلاً واستحياءً،

          وكيف لا تقوض أعمدة الفضيلة ،

          ولم لا تلحد العدالة في أغوارها ،

          ولماذا لا يتوارى الحق وينطوي على نفسه أسفاً وخجلاً

 بعدما أطلق الجاني الأثيم (جوداس) ، شقي (يهوذا) الإسخريوطي الخائن،

          رصاصةً على( نبيّ) الإنسانية ورسولها ومصلحها الأمين (غاندي )!

لكن ما تعني العدالة في التعامل ؟

          إذا نظرنا في عمقٍ إلى أعمال الناس وتصرفاتهم وإلى نتائج تلك الأعمال والتصرفات فيما بينهم ، لرأينا أن العدالة في التعامل تقوم على أساسٍ عام هو الصدق في التعاطي بين الناس بحيث لا يخدعون في إتخاذ مواقفهم بعضهم من بعض ، سواءٌ على الصعيد الاجتماعي أم عى الصعيد السياسي أم على الصعيد الديني أم على الصعيد الاقتصادي . وأفهم بالصدق ، هنا ، الصراحة فضلاً عن الاستقامة والأمانة والإخلاص ، أي ما تنطوي عليه الكلمة الإنكليزية Honesty  من مدلولات . فالتاجر الذي يغش ، والسياسي الذي يخادع ، ورجل الدين المرائي، والمرأة المماذقة تملقاً ، والرجل المنافق تزلفاً – هؤلاء جميعاً وأشباههم يطعنون عدالة التعامل في الصميم .

          وقد شدد مؤسس الداهشية على الصدق في التعامل ، وحمل على الرياء والخداع والمماذقة حيثما كانت ، سواءٌ في قصصه أم في مقالاته الوجدانية . وتبرز أهمية الصدق في التعامل لديه في " أسطورة الصدق " التي ساقها في كتابه " مذكرات دينار " على لسان طاغور ، شاعر الهند الأكبر . وفحواها أن غلاماً غريباً أقبل إلى الناسك المعلم جومايا يحمل له الورود والأثمار طالباً إليه أن يقوده إلى طريق الحقيقة . فأجابه المعلم المتصدر حلقة أبناء النساك :" لتحل عليك البركات ، يا بني . إلى من تنتسب؟ إن الكمال الروحي لا يحاول الوصول إليه إلا البراهمة ." فقال الغلام :" لست أدري ، يا سيدي ، ابن من أنا . وسأذهب لسؤال  والدتي عن ذلك ." وانصرف الفتى إلى أمه واستوضحها الأمر ، ثم عاد إلى المعلم الناسك ، وأجابه عن سؤاله قائلاً : " لست أدري ، أيها المعلم ، فقد قالت لي أمي إنها كانت في إبان فتوتها مع أشخاصٍ كثيرين ، وحينما وضعتني ، كانت بدون زوجٍ معروف ."

          ويردف الدكتور داهش على لسان طاغور قائلاً:

          " فارتفعت بين الجالسين همهمةٌ كدوي النحل استنكاراً . ورمق آخرون الغلام شزراً . ولعن سواهم هذا الطريد البريء . عند ذلك تقدم الناسك جومايا وفتح ذراعيه ، وضم الغلام إلى صدره وقبله بلهفةٍ ، ثم قال :

  • أنت تفضل على البراهمة بكثير ، يا بني ، . فإنك ورثت أنبل وأسمى فضيلةٍ ألا وهي الصدق ."

وإذا سلمنا بأن لكل إنسان حقوقاً شخصية ً طبيعية – منها الحريات والملكية والحرمة الشخصية – تقضي

العدالة الإلهية بألا تسلب منه أو يعتدى عليها ، فيمكننا أن نستنتج أن العدالة تقضي بأن يؤدى إلى كل ذي حق حقه ، كما تقضي بأن الأذية لأي حق يعاقب عليها بمثلها . والوجه القصاصي من العدالة عبرت عنه شريعة " العهد القديم " بالقول المأثور " العين بالعين والسن بالسن " ؛ أما الوجه الإيجابي فقد عبرت عنه كلمة السيد المسيح القائلة " عاملوا الناس بمثل ما تودون أن يعاملوكم به ؛ هذه هي الشيعة وكلام الأنبياء ."

          وسبق أن أدرج كونفوشيوس هذه القاعدة في تعاليمه ، وكررها في تضاعيفها ، جاعلاً إياها جوهر العدالة في السلوك الاجتماعي .

          وقاعدة العدالة بوجهها القصاصي الآنف الذكر بني عليها نظام العدالة الروحية الشامل ؛ فالإنسان يحصد ما يزرع ، ويعاقب بمثل العمل المسيء الذي قام به . وكثيرةٌ هي القصص التي جعلها الدكتور داهش تطبيفاً لهذه الشريعة الروحية .

          لكن الإنسان الطامح إلى تخطي درجة الأرض الروحية ، يجب أن يتجاوز مبادلة السيئة بمثلها . وهذا ما ميز موقف السيد المسيح ودفع زخماً روحياً سامياً في تعاليمه . فهو يقول :

           سمعتم أنه قيل :" العين بالعين والسن بالسن ." أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرير . من لطمك على خدك الأيمن ، فاعرض له الآخر (...) وسمعتم أنه قيل :" أحبب قريبك وأبغض عدوك ." أما أنا فأقول لكم : أحبوا أعداءكم وادعوا لمضطهديكم ، فتكونوا بني أبيكم الذي في السماوات ، لأنه يطلع شمسه على الأشرار والأخيار ، وينزل غيثه على الأبرار والفجار . فإن أحببتم من يحبكم ، فأي أجرٍ لكم ؟(...) فكونوا أنتم كاملين مثلما أن أباكم السماوي كامل .

          وما دعا إليه المسيح لا يطيقه إلا الساعون إلى الكمال ، ولذلك جعل مطلبه الدرجة الأخيرة في معراج الارتفاء الروحي لبلوغ الكمال . ونادرون بين البشر هم الذين طبقوا هذه التعاليم السامية .

          ومن الخطاء الظن بأن القرآن الكريم لم يناشد الناس ليأخذوا بالصفح والرحمة والإحجام عن الإنتقام . فقد ورد فيه عدة آيات ٍ تحض على ذل ؛منها :" وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربكم وجنةٍ عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ، والله يحب المحسنين ."

          ومن عرف مؤسس الداهشية عن كثب ، تأكد له أنه طوال حياته لم يعامل المسيئين إليه بمثل ما عاملوه به، بل تجاوز عن سيئاتهم وشملهم بشفقته ورحمته ومحبته . وهذا الثالوث من العواطف السامية يحتل الصدارة في " صلاة داهش " التي يرددها يومياً أتباعه النتشرون في مختلف أنحاء العالم . أما المواقف التأديبية المجلجلة التي وقفها الدكتور داهش من الطغاة وأعوانهم ، فإنما أملتها عليه مبادئه التي توجب الثورة على الحكام الظالمين وأيدتها المشيئة الإلهية التي زودته بقوى روحيةٍ خارقة ، وذلك ليكون الطغاة عبرةً للظالمين في كل عصرٍ ومصر ، وتذكيراً لأولي الألباب بأن نظام العدالة الإلهية المهيمن على الأرض لا بد أن يأخذ مجراه الروحي ضد المتسلطين الجائرين وأعوانهم .

          وفي ضوء ذلك يمكن أن نفهم المفارقة بين طلب المسيح إلى الله أن يغفر لأعدائه " لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون " ، وسخط الله عليهم وتشريدهم بعد تدمير أورشليم.

 

وجوهٌ من العدالة في التعامل

 

إكتفى الدكتور دهش كمُصلح ٍ روحيٍّ بأن يضع القاعدة ويسلط الأضواءعلى نماذج من التعاطي بين الناس ليُظهر وجه العدالة فيه . وحسبي أن أورِد، في هذا المقام ، أربعة نماذج :

1- بين الرجل والمراة

          مع بداية عام 1936 بدأ الدكتور داهش يخط " كلماته " في المرأة والصداقة والحياة بمختلف شؤونها وشجونها . كان عمره ستة ً وعشرين عاماً . لنهكان قد خاض من المحن أهوالها ومن خيانات النساء والأصدقاء أفظعها ، فأتت خواطره وآراؤه في المرأ – كما في الصداقة والحياة – قاتمة ً سوداء ، معبرة ً عن تجاربه الشخصية الكاوية ، لكنها ، مع ذلك ، كانت مبنية ً على قاعدة العدالة في التعامل بين الرجل والمرأة ،ألا وهي الصدق في التعاطي . فالمرأة التي تخدع الرجل لتوقعه في أشراكها ثم تخونه هي امرأة ً ظلمة ، والعدالة تقضي بمعاقبتها وتشهيرها . وإن هو صب جام نقمته على المرأة الخائنة المنجرفة بشهوتها ، فقد نال رشاش نقمته الرجل أيضاً الذي يشارك المرأة في المسؤولية المشتركة أوضحها الدكتور داهش في سداسيةٍ بعنوان " لا المرأة ولا الرجل " أدرجها في كتابه " بروق ورعود " الذي وضعه عام 1942 ، وقد جاء فيها :

 

          أنا لا أؤمن بالمرأة . كما إن الرجل لا ثقة لي به في هذه الغبراء

          المرأة شهوانية هوجاء . والرجل ذو أنانيةٍ وسلطةٍ رعناء

          المرأة تبتسم لكل معجبٍ بها . والرجل لا يتورع أن ينصب حباله لكل ابنة حواء

          المرأة تقسم أنها عفيفة . والرجل يؤكد أنه بعيدٌ عن الفحشاء

          مع أن ربة الحقيقة لو تجلت لصاحت بصوتٍ من العلاء :

          إن المرأة الطاهرة والرجل العفيف النفس لا وجود لهما في دار الشقاء.

 

          غير أن الموازنة الموضوعية شبه الشاملة بين الرجل والمرأة سنراها في كتابه المعجز " مذكرات دينار " الذي كتبه في أوائل عام 1946 . ففيه يدلي برأيه الموضوعي على لسان الدينار الذهبي ، بطل قصته . يقول :

          أنا لا أستطيع أن أحكم على نساء الأرض قاطبة ً بسبب اتجاه امرأةٍ واحدة . كما إنه لا يمكنني أنأصدر حكمي ، أيضاً ، لأجل ميولها وضعفها .

          فالمرأة كالرجل ، تشعر كشعوره ، وتتمنى كتمنياته . ومثلما توجد خائنات ٌ ، يوجد أيضاً رجالٌ يتفوقون عليهنّ بالمكر والخيانة والمراوغة . كما أنهتوجد نساءٌ مغالياتٌ في وفائهن ، وكذلك بعض الرجال .

          فإذا وضعنا المرأة على المشرحة ، وقارنا بينها وبين الرجل ، كي نصدر حكمنا على أفضلهما ، لبؤنا بالفشل ، كذلك . وأستطيع أن أقول إنهما متساويان : فإن المرأة تتمم الرجل ؛ وهذه حكمة السماء وإرادة الباري تعالى .

          أما تلك الصورة المضحكة التي ملأوا بها صفحات الجرائد اليومية والأسبوعية ، وشحنوا بأخبارها بطون الكتب ؛ تلك الخرافة القائلة بأن المرأة ضعيفة ٌ كل الضعف أمام رغباتها ، وأن الرجل يتفوق عليها في هذا المضمار ، فإنني أهزأ بمختلِقها ، وأسخر بمخترعها . فوقائع الحال برهنت ، والظروف والمناسبات أكدت أن الرجل أضعف من المرأة ، وأن المرأة تتفوق عليه بهذه الناحية . ولكن، لكل حالةٍ شواذ . فإن هذه النظرية لا يمكن تطبيقها على العموم . فإذا أكدنا هذا ، فإننا نكون جد مخطئين ف حكمنا النقوص

          وخلاصة الأمر أن المرأة والرجل متساويان في الحقوق والواجبات . وما نشاهده من شذوذٍ في بعض النساء أو الرجال ، لا يمكننا أن نأخذه كمقياس ، لنقارع به خصومنا في ساعات المفاضلة بين الجنسين .

          ومن تعميم الدكتور داهش التساوي في الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة يستخلص أنه لم يميز الرجل بأي حق ما كما لم يحرم المرأة من التمتع بأي حق يتمتع به الرجل . وبناءً على ذلك يمكن أن نفهم أنهما يتساويان في حقوق الزواج والطلاق والإرث ، كما في الحقوق المهنية والسياسية والثقافية والإجتماعية .

          وبقوله " إن المرأة تتمم الرجل ؛ وهذه حكمة السماء وإرادة الباري تعالى " جعل من الزوجين ، وبالتالي من الأسرة ، الوحدة الطبيعية التي يتكون منها بناء المجتمع .

 

2- العدالة في التعامل الديني

 

          قاعدة العدالة في التعامل هي الصدق ، مثلما سبق ذكره . وأوجب ما يكون الصدق هو في التعامل الديني ، وخصوصاً لدى من يتقلدون الإرشاد الروحي والرعاية الدينية كالكهنة والراهبات . فالإنسان العادي قد يكون مؤمناً صادقاً أو مشككاً أو ملحداً ، وليس من أحدٍ له الحق في فرض إيمان ديني معين على أحد ، لأن حق الإعتقاد والعبادة هو من الحريات الشخصية التي لا يجوز المساس بها . لكن الذي يختار بإرادته أن يكون مرشداً روحياً أو راعياً دينياً ، رجلاً كان أو امرأة ، يجب عليه أن يكون صادقاً في عمله وممارسته واجبات دينه ؛ أما إذا كان مرائياً ، فإنه يصبح بمنزلة المخادع المضلل للمؤمنين عمداً وقصداً ، وإذ ذاك يتوجب ضحه وتشهيره برأي مؤسس الداهشية .

          وموقف الدكتور داهش ما هو إلا رجعٌ وتأكدٌ لموقف السيد المسيح من الكهنة المرائين الذين كثيراً ما ندد بهم ، لنقضهم فضيلة الصدق ، قاعدة العدالة في التعامل بينهم وبين المؤمنين . وحسبنا التقريع الشهير التالي :

          الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون ، تقفلون ملكوت السماوات في وجوه الناس ، فلا أنتم تدخلون ، ولا الذين يريدون الدخول تدعونهم يدخلون (...)

          " الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون ، انتم أشبه بالقبور المكلسة ، يبدو ظاهرها جميلاً ، أما باطنها فممتلئ ٌ من عظام الموتى وكل نجاسة . وأنتم كذلك ، تبدون في ظاهركم للناس أبراراً ، أما باطنكم فممتلئ ٌ رياءً وفسقاً ."

           وفي " مذكرات دينار " عدة أمثلةٍ حيةٍ على أرباب الرياء الديني وضحاياه المساكين . فمن مطران يلقي موعظة ً أمام المؤمنين يندد فيها بالمكر المداجاة ، فيستدر تبرعات السذج ، ثم تأتيه أرملة ٌ فقيرة ٌ ذات ستة أطفال تطلب معونته ، فيصرفها بحجة أن خزانة المطرانية خالية ؛ إلى كاهن ٍ يغتنم فرصة غياب المطران ، فيفتح باب خزنته بمفاتيح مزيفة ويستولي على كل ما فيها ، ثم يسام مطراناً بعد موت الأول ، فيعتدي على عفاف اللاجئات إليه بتحريف أقوال السيد المسيح وتأويل معانيها . وما قولك بالمطران (مبروك) الذي يفاجئه موعد القداس الذي عليه أن يقوم به إذ كان مستغرقاً في لعبة قمار مع أحد الكهنة ، فيبادر إلى إلقاء ورق اللعب في جيب كمه السري  العريض مع بعض الحلى التي سرقتها وجلبتها له خادمة ٌ من أقربائه ، ويلقي في جموع المؤمنين عظة ً تشجب القمار ومساوئه ؛ ولشدة حماسته وسرعة حركات يده ، " أفلت الجيب المثبت في كمه من عروته ، فانقذفت أوراق اللعب في الهواء ، وتناثرت الحلي ، فاصطدمت بوجوه بعض المستمعين لموعظته الفذة ..."  لكن المطران الماكر لم يعدم حيلة ، بل سرعان ما حول الفضيحة إلى انتصارٍ خطابي له فقال :

          أرأيتم كيف تبعثرت هذه الأوراق وتفرقت أيدي سبأ ؟

          هكذا سيبعثركم الله في أروقة الجحيم المتقدة النيران ، إذا لم تقلعوا عن رذية القمار والسرقة الدنيئة .

          وهكذا سيكون خجلكم عظيماً أمام عرش الديان ، في اليوم الأخير ، فيما لو استمر المدمنون منكم على التعلق بهاتين الجرثومتين اللتين تقودان إلى الهلاك الأبدي .

          وكي أستطيع أن أشرح لكم أضرار هاتين النقيصتين المرذولتين بصورةٍ تقربها إلى أفهامكم ، وتظهر لكم فداحة نتائجها ، أحببت أن أقرن القول بصورةٍ عملية ، فوضعت ورق اللعب مع هذه الحلي التي أحضرها السارق لي كي أعيدها لصاحبها ، بعدما اعترف ، فوعظته وأنبته على عمله الذميم ، فندم وطلب التكفير ..."

          وطبعاً كان تأثير (مبروك) في المؤمنين بالغاً إلى حد أن صاحب الحلي المسروقة الذي كان بينهم تقدم وأعلن تبرعه بالحلي للمطران المفوه التقي !

 

3- العدال بين المستثمرين والزبائن

 

          في رأي الدكتور داهش أن قاعدة الصدق نفسها يجب أن تبنى عليها علاقات المستثمرين بالزبائن ، سواءٌ كان المستثمرون مالكين أو محامين أو أصحاب متاجر أو شركات ... وقد مدته رحلاته حول العالم بين سنة 1969 و 1983 بتجارب ومشاهداتٍ وافية ليصدر آراءه في التعامل بين الناس . ففي نيويورك لم تعامله الجمارك باستقامةٍ وعدل . وفي عدة مطاعم في عدة مدنٍ أمريكية شاهد اللصوصية والابتزاز الحقير للزبائن . وفي نيويورك استأجر شقة ً ، فتقاضاه صاحبها سلفاً 1600 دولار إيجار شهرين ، لكن ظروفاً طارئة ً جعلت الدكتور داهش يعدل عن الإيجار بعد ساعةٍ واحدة ، ويطلب المالك بإعادة حقه إليه ، غير أن المالك رفض واستولى على المبلغ . فأوكل الدكتور داهش محامياً ليعيد إليه حقه السليب . لكن المحامي لم يقم إلا باتصال هاتفي مع المالك كانت نتيجته الفشل ؛ ومع ذلك طالب الدكتور داهش ب 820 دولاراً لقاء أتعابه .

          وقد علق مؤسس الداهشية علىهذا الحادث الذي هو نموذجٌ عما يقع يومياً في أمريكا بين المستثمرين والزبائن بقوله :

          إن هذا إلا سرقة قذرة دونما ريب . إنه لصوصية ٌ دنبئة ٌ للغاية . فمن يقتنص المال بهذه الطريقة المدنسة ما هو إلا مختلس ٌ جبانٌ يجب تشهيره . فالسارق بحطةٍ يجب أن يزج بالسجون ، فهي مكانه الدائم على ارتكاباته الملوثة .

          وفي فلاكستاف كانت للدكتور داهش انطباعات سوداء عن الشركات السياحية التي تغري الزبائن بما تقوم به من دعاية ، فإذا هم يبحثون عن الماء في صحراء . فبعد اجتيازه مسافاتٍ هائلةٍ بالحافلة ليرى " الهنود الحمر " ويصور مشاهد عن حياتهم حسبما وعد به ، فوجئ بالمنع . فقال معلقاً :

          وبأسفٍ كبيرٍ أقول إننا قطعنا آلاف الكيلومترات لكي نشاهدهم ونلتقط صوراً سينمائية ًعنهم ، بعد أن قرأنا الإعلانات التي تصدرها شركات السياحة ، وهي تؤكد إمكان السائح أن يشاهد الهنود الحمر ، ويسجل بعدسته مناظر حياتهم ؛ فإذا بنا نفاجأ ، عند وصولنا إليهم ، بأن يقال لنا " ممنوع أن تأخذوا أية صورة للهنود !" إذاً هذه الشركات ليست إلا فخاخاً تنصب لاصطياد السائح الذي يصرف الألوف ويبذلها بسخاء في سبيل أخذه لقطاتٍ سينمائية لقبيلةٍ هنديةٍ تاريخها معروف ، فيفاجأ مثلما فوجيئنا بالمنع .

          كلا ، إن هذا إحتيال وضيع ! ويجب على السلطات الضرب بعصاها الحديدية على يد هذه الشركات التي همها الوحيد جمع المال وتكديس الدولارات ، ولكن بطريقةٍ غير شريفة على الإطلاق . وهذا غير جائز .

          ومن يطالع سلسلة " الرحلات الداهشية حول الكرة الأرضية " بأجزائها الاثنين وعشرون يقف على أحداثٍ كثيرةٍ مر بها امؤلف في مختلف بلدان العالم ، تجري في الشركات والفنادق والمستشفيات والمصارف والمتاجر والغالريهات وغيرها ، كلها تظهر أن العدالة في المعاملة بين الناس ، ولا سيما بين المستثمرين والزبائن ، أصبحت كلمة ً لا معنى لها ، وأن الصدق اختفى من تعاطيهم ليحل محله النفاق ؛ ذلك بأن تحصيل المال بأية وسيلة أصبح هم البشر الأول ، فهو إلههم القوي الأوحد الذي وحدهم على اختلاف مشاربهم وأجناسهم . إزاء هذا الوضع الظالم يناشد مؤسس الداهشية الدولة بالتدخل منعاً لابتزاز الناس .

          تلك كانت العدالة في التعامل بين الناس في المفهوم الداهشي .

 

الأنظمة السياسية

          منذ صيف عام 1969 ، بدأ مؤسس الداهشية رحلاته حول العالم بغية تعرف الشعوب عن كثب في معالم حضاراتها ، كما في عاداتها وأخلاقها ومحاسنها وسيئاتها ؛ فزار معظم الدول في آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا الشمالية ، ودون رحلاته في سلسلة " الرحلات الداهشية حول الكرة الأرضية " في 22 مجلداً . ومن خلال تعاطيه مع الأفراد والجماعات حيثما ذهب ، تحصلت له خبرة ٌ أيدت نظرته الثاقبة الصائبة المبني على معرفته الروحية الخارقة . وفي مطلع عام 1982 ، إذ كان في فندق بدفورد بباريس ، كتب كلمة ً انطوت على خلاصة نظرته في الأنظمة السياسية المهيمنة على العالم . وقد جاء فيها :

          في عصرنا الحالي لا تسمع إلا بالنظم الديمقراطية ، والدكتاتورية ، والرأسمالية ، والاشتراكية ، وسواها وسواها من المضحكات المبكيات على اختلاف أشكالها وألوانها واتجاهاتها . وقد سلبت من الإنسان روح إنسانيته ، بعدما أوقعته في شباكها اللعينة الكاذبة ، وأسرته ، فإذاه آلة ٌ مسيرة ٌ غير مخيرة . لقد أصبح خالياً من التعاطف والتواد والتراحم والشعور الإنساني المتبادل بين الإنسان وأخيه الإنسان .

          فإذا لم ينبذ الجميع هذه العقائد الإلحادية القذرة ، فسيبقون راسفين في قيودهم الشيطانية التي تشد على أعناقهم لتوردهم موارد التهلكة .

          إن العودة إلى الدين هي طريق الخلاص للجميع ، ففيه يجد الإنسان راحته وأمنه ، وفيه يجد قلبه وقد اطمأن ، وروحه وقد استقرت .

          إن الدين هو الطريق الوحيد الذي يقود إلى واحة الأمان والطمأنينة . فعليك بالعودة إليه والسير في طريقه المستقيمة ، لكي يكون معنى لحياتكم واستقرارٌ لوجودكم الذي عصفت به المادية عصفاً مبيداً .

          فالحياة بدون القيم الروحية السامية جحيمٌ مخيفٌ رهيبٌ بنتائجه المزلزلة .

          ماذا يمكننا أن نستنتج من موقف الدكتور داهش السابق من الأنظمة السياسية المعاصرة ، إذا استلهمنا نظرته الروحية الشاملة التي استمد منها موقفه ؟

          أولاً- إن الأنظمة السياسية لا معنى لاختلاف تسمياتها إذا اتفقت في نتائجها الوخيمة على الإنسان .

          ثانياً- لا يكون الإنسان إنساناً إلا بقدر ما يتمتع بروحٍ إنسانيةٍ تتجلى في " التعاطف والتواد والتراحم والشعور الإنساني المتبادل .

          ثالثاً- البشر إخوة ٌ في أسرةٍ واحدة ، ويجب ألا يفصل بينهم لونٌ أو عرقٌ أو معتقدٌ أو قومية .

          رابعاً- إن للأنظمة أشكالاً براقة ً تجتذب الإنسان في مراحل زمنية معينة ، لكن هذه الأشكال البراقة ليست إلا شباكاً تأسره وقيوداً تكبل حريته الروحية ، فيصبح عبداً للنزعات المادية أو القومية أو العرقية . وبدل أن يساعد النظام الإنسان على تناميه وتفتحه الإنساني ، يخنقه ويزرع الشقاء في نفسه .

          بناءً على ذلك يمكن أن يقاس صلاح نظامٍ ما بقدر ما تتهيأ فيه ثلاثة عناصر هي الحرية والعدالة والروح الإنسانية . ولئن تهيأت الحرية والعدالة نسبياً في بعض الأنظمة المعاصرة ، فإن الروح الإنسانية مفقودة ٌ منها جميعاً .

          فما ضمان إدخال الروح الإنسانية إلى النظام السياسي ؟

          في رأي مؤسس الداهشية الضمان الوحيد لذلك هو العودة إلى الدين ؛ لا إلى قشور الدين وأعراضه المتمثلة بطقوسه وشعائره ، أو حدوده الإجتماعية التي أملتها الظروف المحيطة بنشأة الدين ، بل إلى جوهره المتمثل بالقيم الروحية السامية . فالقشور والأعراض هي التي تفرق ديناً عن الآخر ، والمغالات في التشبث بها تؤدي إلى عصبيةٍ عمياء ، طالما أضرت بالدين والإنسان ، وطالما أشعلت الفتن والحروب ؛ في حين أن الجوهر الروحي واحدٌ في الأديان كلها .

          إذاً لا يدعو الدكتور داهش إلى جعل دينٍ معينٍ يسيطر على الدولة ؛ فالدين واحد ، من حيث هو تنظيمٌ بشريٌ ، ليس بإمكانه السيطرة على دولةٍ ما إلا بأعراضه . وهذه الهيمنة ، إذا حدثت ، تجعل الحرية والعدالة في خطر ، والمؤمنين بسائر الأديان والعقائد في مستوىً أدنى . وبدل الأخوة الحقيقية الموحدة والمطمئنة ، يقوم سيدٌ ومسود ، ومستثمرٌ ومستثمر ، ويشيع الشعور بالحرمان والظلم لدى الأقليات أو المستضعفين ؛ وهذا ينفي الحرية تدريجياً ويقضي على العدالة والأمان .

          خلاصة القول إن ما يدعو إليه الدكتور داهش هو جعل القيم الروحي أساساً حياً في كل نظامٍ سياسي. والقيم الروحية نجدها في جوهر الأديان جميعاً ؛ فإذا خلا منها الدين ، فهو يبطل أن يكون ديناً حقيقياً لفقدانه الهداية الروحية .

          وفي نظامٍ سياسي ٍ أساسه القيم الروحية ، لا يكون الحاكم ولا المحكوم أسيرين للنزعة المادية التي تستهدف كنز الثروة على حساب حرمان الآخرين ، ولا رهن النزعة المادية التي باسم الحرية تبيح كل محرم ٍ وكل شهوةٍ بهيميةٍ مجاملة ً لكل حركةٍ تحريرية إباحية متطرفة لا يقيدها وازعٌ ولا رادع .

          وبما أن الأنظمة السياسية المعاصرة قد تساوت في سلبها " من الإنسان روح إنسانيته " فمن البديهي أن تصبح المفاضلة ، لدى مؤسس الداهشية ، مقصورة ً على مدى توافر مقومات الحرية والعدالة في النظام . وعلى هذا الصعيد ، سبق أن رأينا أ الديمقراطية الأمريكية كانت تستهوي مؤسس الداهشية منذ أكثر من خمسين سنة ، أي مذ وضع كتابه " مذكرات دينار " في أوائل عام 1946 .

          وجديرً بالذكر أن مفهوم الدكتور داهش للنظام السياسي العادل هو قريبٌ من مفهوم المهاتما غاندي في الغاية التي يجب أن يهدف إليها ، وهي حماية حقوق الإنسان الأساسية والعمل على تنميته الروحية . كذلك يلتقي مع أفلاطون وأرسطو في أن بناء الدولة يجب أن يقوم على الفضيلة ، وعلى تشجيع المواطن على طلبها وممارستها في تعاملهم . وبذلك يختلف مفهوم الحكم الماكيافلي القائم ، لا على الفضيلة والقيم الروحية ، بل على المراوغة والبطش والقوة ، واستخدام أقذر الوسائل وصولاً إلى الغاية .

 

سلطات الحكم الثلاث

 

          إن ما عاناه مؤسس الداهشية من ظلم طاغية لبنان شحذ رأيه المبدئي الحاسم في رفضه لكل سلطةٍ مستبدة ، لأن الاستبداد يؤدي غالباً إلى ظلم الرعية . فالرئيس المستبد الصلف والتجبر إلى الطغيان ؛ والطغيان يعني تخطي القوانين والدستور إن كان ثمة وجودٌ لها . وهذه التجربة تمثلت واقعياً في ما يسمى ب" ديمقراطية " لبنان عهد بشارة الخوري (1943-1952) الذي ما زال اللبنانيون يعانون عواقبه الوخيمة ، لأن بذور الفساد التي زرعت منذ نصف قرن ما زالت تنمو وتعطي ثمارها المرة . فرئيس السلطة التنفيذية الذي يتجاوز صلاحياته ، ويضرب بالدستور عرض الحائط ، لا يكون رئيساً ديمقراطياً حقيقياً ، بل رئيسٌ مستبد في نظام ٍ ديمقراطيٍّ لم تطبق مبادئه . 

          كذلك السلطة التشريعية إذا لم تؤد دورها مثلما يجب ، تصبح مجرد واجهةٍ كاذبةٍ لحكمٍ ديمقراطي كاذب . فمجلس الأمة يجب أن يكون مستقلاً برأيه ، معبراً عن مصلحة الشعب ، وصائناً للحريات التي يضمنها الدستور ، وليس خانعاً لنزوات الرئيس التنفيذي .

          كما إن السلطة القضائية إذا لم تؤد دورها مثلما يجب ، تغدو وسيلة قمع ٍ للحريات ووسيلة تعذيبٍ وإذلال ٍ للمواطنين . وهذا ما وقع فعلاً  في لبنان عهد بشارة الخوري الذي جعل القضاء أداة ً طيعة ً لتنفيذ مآربه الشخصية ومصالحه العائلية .

          يقول مؤسس الداهشية في رسالته الأولى إلى الدكتور حسين هيكل ، رئيس مجلس الشيوخ المصري ورئيس الحزب الدستوري في الأربعينيات :

          إن الدستور اللبناني ، يا أخي ، أشبهه ببيت عنكبوت واهي الخطوط لا يقوى على مجابهة النسيم الخفيف خوفاً من تمزيقه ، بل ملاشاته ودك آثاره دكا . ومن العار أن نقول إننا شعبٌ ديمقراطيٌ دستوريٌ ما دمنا لا نطبق القول بالفعل ، وما دام في لبنان ظلمٌ خطيرٌ هائلٌ كهذا .

          كما إن من المؤسف والمخيف جداً هوعدم اهتمام النواب برفع حيفٍ صريحٍ كهذا ! وا أسفاه !

          وبعد كل ذلك يتبجحون بالقانون ، والدستور ، والعدالة .....حدث خرافةٍ يا أم عمرو ......

          إنها كلماتٌ جوفاء لا معنى لها (...) ما دام القانون لا يطبق إلا بطريقةٍ كيفيةٍ تجر وراءها المآسي والكوارث وأخطر الأحداث .

          أما السلطة القضائية في البلدان الراقية فقد أعلن الدكتور داهش بعض مهامها في رسالته الثانية التي رد فيها على رسالة الدكتور حسين هيكل المؤرخة في 9 أغسطس(آب) 1951 :

          في كل البلدان الراقية يكون القضاء سياج الحريات المهددة من الحكام والمتنفذين ، ويقف في وجوههم شاهراً سيفه ذا الحدين لبتر رغباتهم ورد كيدهم إلى نحرهم ، وإنقاذ من يريدون افتراس حرياته ، ودوس حقوقه ، والاعتداء على حقه بباطلهم .

          إذ الديمقراطية لا تستتم إلا إذا كانت السلطات الثلاثة منفصلة ً ، مثلما هي الحال في البلدان الراقية ، وقادرة ً على تنفيذ مهامها في حدود الصلاحيات الدستورية المعطاة لها . أما أن يتضمن الدستور بنوداً تبقى حبراً على ورق ، أو لا ينفذ منها إلا ما يوافق مصلحة الرئيس التنفيذي ، ففي هذه الحال لا معنى للدستور ولا للديمقراطية . مثال ذلك أن المادة الستين من الدستور اللبناني تلقي التبعة على رئيس الجمهورية في حال خرقه الدستور ، وتوجب محاكمته أمام " المجلس الأعلى " . لكن " المجلس الأعلى " المنصوص عليه في المادة الثمانين من الدستور لم ير النور ، ولم يجرؤ أحدٌ من النواب على المطالبة بتنفيذ بنود الدستور كاملة .

 

 

نموذج الحاكم الفاضل

 

          يقول الدكتور داهش ، بلسان " الدينار " بطل قصته الفذة " مذكرات دينار ":

          دهشت كثيراً عندما شاهدت البساطة التي تمت بها مقابلتنا لجلالة الملك فيصل [الأول (1883-1933)] ، الديمقراطي الصحيح وابن الشعب ، هذا الملك النبيل ، الكبير النفس ، العظيم الخصال ، هذا الذي التفت حوله القلوب تفتديه بالمهج والأرواح ، هذا الملك الذي يسير بين أفراد شعبه دون حاجةٍ لحراسته لأنه ليس له عدوٌ يخشى منه على حياته الغالية على قلوب العرب .

          من هذه الفقرة نستنتج عدة أمور :

          الحاكم الديمقراطي ، برأي الدكتور داهش ، ليس من المحتوم أن يكون في نظام ٍ جمهوري . فرئيس جمهوريةٍ قد يكون حاكماً مستبداً ، دكتاتوراً ، وملكٌ قد يكون ديمقراطياً صحيحاً . فالديمقراطي هو من يشعر أنه فردٌ من الشعب ، يتحسس حاجات أبناء الشعب ، ويشاركهم في آلامهم ، ويشعر بحرمانهم ، بحيث لا يكون له عدوٌ في الشعب ، فيسير بين الناس دون حراسة . وهذا يذكرنا بالخليفة العادل عمر بن الخطاب . فحيثما يشيع العدل وينتفي الظلم ، يطمئن الناس ، وتتجه قلوبهم إلى الحاكم .

          لكن مثل هذا الحاكم ، ملكاً كان أم رئيساً تنفيذياً منتخباً ، سواءٌ اختاره الشعب مباشرة ً أم اختاره المجلس التمثيلي ، لن يكون " ديمقراطياً صحيحاً" وحاكماً فاضلاً ما لم يتمتع بنبل النفس وحميد الخصال ؛ وهذا يوجب الترفع عن كل ما يغري من وسائل فيها كسبٌ لمغانم شخصية أو عائلية أو حزبية أو فيها حتى مجالٌ للتسلط على الناس . ولا يتم ذلك إلا بتواضع ٍ فطري في الإنسان . فإذا استحال على الحاكم أن يكون مثل غاندي ، الإنسان الكامل ، فيجب أن يتحلى ، على الأقل ، بالتواضع والشعور الإنساني الصادق . فمن العسير جداً أن يكون حاكمٌ "ديمقراطياً صحيحاً " من غير أن يكون فاضلاً بمعنىً من المعاني . فأن يعيش الحاكم عيشاً أرستقراطياً باذخاً مغرقاً في الرفاهية والترف ، بينما يكون كثيرون من شعبه غارقين في الفقر والبؤس ، ينافي روح الديمقراطية الصحيحة .

          هذا يؤدي بنا مجدداً إلى ضرورة أن يكون نظام الحكم مبنياً على القيم الروحية التي ينطوي عليها جوهر الأديان جميعاً .

          لكن للحاكم الديمقراطي صورة ً أخرى لدى الدكتور داهش . إنها صورة سعد زغلول (1857-1927) رئيس الوزارة المصرية في العشرينيات من فترة الانتداب البريطاني الصعبة على مصر .

          فمن خلال ما كتبه عنه الدكتور داهش في "مذكرات دينار " نستنتج أن قوة سعد زغلول مستمدة من حب الشعب له ، ومن معالجته الأمور بحكمةٍ سياسيةٍ وروح ٍ وطنيةٍ حقيقية ، كما من شجاعته في مواقفه ضد المتسلطين الإنكليز ، وثباته في جهاده رغم العراقيل والمصاعب الكثيرة .

          والشجاعة في مواجهة الأزمات مع الحكمة السياسية من أهم مزايا الرئيس الناجح . وبهاتين الميزتين يمتدح الدكتور داهش الرئيس جون كندي ولا سيما في معالجته قضية الصواريخ السوفياتية في كوبا .

 

واجبات السلطات العادلة تجاه الشعب

 

          لقد رأينا أن النظام الصالح ، في رأي مؤسس الداهشية ، يمكن أن يقاس صلاحه بقدر ما يتهيأ فيه ثالوث الحرية والعدالة والروح الإنسانية ، وأن أسس هذا الثالوث قائمة ٌ في القيم الروحية السامية التي ينطوي عليها جوهر الأديان السماوية كلها ، دونما تفريقٍ بينها .

          وبناءً على هذا الأساس الروحي تترتب على السلطات العادلة عدة مسؤوليات تجاه الشعب :

          أولاً- بما أن الحياة والحرية منحتان إلهيتان ، وجب على الدولة العادلة ، استنتاجاً ، أن تصون سلامة الأفراد وتحافظ على حرياتهم ، وتدفع كل خطرٍ أو ضررٍ قد يهدد حياة المواطن أو ممارسة حرياته . [ أنظر " أبعاد الحرية لدى مؤسس الداهشية " ، "صوت داهش " ، عدد آذر (ماس)1997 ] .

          ثانياً- صيانة الحياة والحريات ، استنتاجاً ، توجب على الدولة العادلة أن تسن القوانين التي تضمن تلبية الحاجات الأساسية التي بدون إشباعها يهدد وجود الإنسان مادياً أو معنوياً فالحاجات المادية الأساسية هي المأوى والمأكل والملبس والصحة ، والحاجات المعنوية التي بدونها لا يكون الإنسان إنساناً هي الثقافة .

          ولكي يستطيع المواطنون أن يقوم كلٌ منهم بواجبه ودوره في تلبية حاجاته الأساسية المادية والمعنوية ، يترتب على الدولة العادلة أن تضع أمامهم فرصاً متكافئة ليعملوا ، ويحصلوا من أعمالهم ما يسد كلفة تلك الحاجات الأساسية . وإذا تعذر على فئةٍ من المواطنين ، لأسبابٍ قاهرة ، أن يسدوا حاجاتهم الأساسية بأنفسهم ، فعلى الدولة العادلة أن تستلهم " الشعور الإنساني المتبادل " و" القيم الروحية السامية " في العطف عليهم ومساعدتهم .

          وهذا الأمر يستلزم سن قوانين إنسانية ، وقوانين تضع حدوداً لجشع التجار والمستثمرين ، بحيث لا تكون الحرية الإقتصادية وسيلة ً لقتل الضعيف وتكثير الفقراء ، وتسيع الهوة بين الأثرياء جداً والمعدمين . يقول الدكتور داهش ، إذ يلاحظ فرقاً كبيراً في ثمن سلعةٍ بين نيويورك وفرجينيا : " إنها سرقة ٌ كبرى ! في مثل هذه الحالة يجب على الحكومة أن تحدد الأرباح لهؤلاء التجار الجشعين ." وكثيرة ٌ هي تعليقاته على جشع التجار الأشعبي في رحلاته ، حتى إنه يجعل هذا الجشع الحرام سبباً من أسباب الحروب التي تنكب الأغنياء أكثر مما تنكب الفقراء ، فيقول :" هي عدالة الله هذه الحروب الضروس التي تفني الزرع والضرع . فلو لم يستحق الناس هذه النكبات المزلزلة ، لما أدبهم الله بنسبة استحقاقاتهم ."

          وبكلمةٍ أخرى إن النظام الاقتصادي المتبع يجب ألا يبعد الإنسان عن إنسانيته ويفقده جوهره . فإذا كان هم الإنسان الأول التركيز على جمع المال وإنمائه ، يصبح قلبه حيث كنزه ، وتبتعد عاطفته حتى عن أسرته . وهذا الإدمان في تكديس الأموال ، إذا أصبح غاية ً ، يخدر ضمير الإنسان ، ويدفعه إلى الجشع وبالتالي الظلم .

          وفي مثل هذا النظام الرأسمالي الذي لا يضبطه ضابط ، يصبح العمال والموظفون أنفسهم مهددين أيضاً بالابتعاد عن الغاية الروحية ، إذ يجعلون أصحاب رؤوس المال مثلهم العليا ، يحتذون خطاهم ، ويفرغون أنفسهم من الشعور الإنساني . وهذا يقودهم ، في أكثر الأحيان إلى التخلي عن عملٍ يحبونه ويجدون فيه عزاءً وتحقيقاً لذاتهم وتعبيراً عن شخصيتهم ، من أجل عملٍ آخر لا يحبونه ، ولكنه يكون مصدر مالٍ أكثر لهم . ولغاية المالية قد تطيح بهم خارج الطريق القويم ، فيلجأون إلى المحرمات والأعمال غير المشروعة ، لأنها تدر عليهم مالاً أكثر في طريق اقصر . والمفاسد والشرور التي يتمخص بهما المال إذا أصبح غاية الإنسان العظمى ، أي معبوده ، عرضها مؤسس الداهشية في كثير ٍ من كتاباته .

          كذلك إذا حاصر الجهل فئة ً من المواطنين ، فإن مجال حرياتهم يضيق ، كما يضيق مجال عملهم ؛ وتكافؤ الفرص ينتفي ، إذ ذاك ، أمامهم . بل إن الحرية الحقيقية في الاختيار والتمييز بين الصالح والطالح ، والخطأ والصواب ، والحق والباطل ، تصبح بحكم الملغاة .

          ولذا شدد مؤسس الداهشية ، في كتاباته كما في أحاديثه بمجالسه الخاصة ، على أهمية العلم وجلال العقل وضرورة الثقافة وتوفير المدارس ؛ وقد أيد أقواله بأعماله فأنشأ أكبر مكتبة خاصة في البلاد العربية( حوالى ربع مليون كتاب ) ، وأنشأ متحفاً فنياً يكاد يضارع المتاحف الدولية الكبرى ( وهو قائم في مدينة نيويورك ) . والثقافة الضرورية تشتمل على مد المواطنين بالعلوم والآداب والفنون . فالعلوم تساعد على تنمية المدارك العقلية وتصويب المنطق ، والآداب تساعد على تنمية نزعات الخير وتهذيب النفس ، والفنون تساعد على تنمية حس الجمال لدى الإنسان ليصبح قادراً على إبداع الجمال أو تذوقه ، وعلى استشفاف مظاهر الجمال الروحي في كل إبداع ٍ جميل ، طبيعياً كان أم إنسانياً ؛ ذلك بأن في كل جمالٍ حقيقي ملمحاً من ملامح الألوهية يجذب الإنسان إلى فوق ، إلى مصدر الحق والخير والجمال .

          ثالثاً- يتوجب على الدولة العادلة أن تختار ذوي الأخلاق الحميدة والنفوس النبيلة لتسنم المناصب الرفيعة . فالجدارة الثقافية والخبرة لا تكفيان وحدهما لتولي المنصب الرفيع ؛ ذلك بأن أصحاب النفوس اللئيمة والأخلاق الوضيعة ، إذا جعلتهم الظروف يحتلون المناصب العالية ، لا يمكنهم أن يكونوا عادلين ، لأنهم بتأثيرٍ من طبيعتهم الرديئة سيتصرفون . ومن واجب الحكام ألا يفسحوا الفرص أمام أمثال أولئك اللؤماء ، لينزلوا الظلم بالناس . ويرى الدكتور داهش أن في رأس أولئك الموظفين القناصل والسفراء وممثلي الدول على مختلف الأصعدة . فالممثل مرآةٌ لحكومته وأمته . ولذا يجب أن يكون من الطبقة الرفيعة في أخلاقه وآدابه كما في علومه ومقدرته . فإذا لم تكن تربيته عالية ، وتصرفاته نبيلة ، وأقواله صادقة ، سيّرته ميوله الوضيعة وغاياته الشخصية الدنيئة .

          كذلك من واجبات الحكومة أن تطارد الفوضويين واللصوص والمجرمين وتطهر البلاد من شراذم الفجار والفاسقين ، وتضع حدوداً خلقية للحرية حتى لا يكون مناخها المبارك موبوءاً بالجراثيم النفسية الفتاكة .

          أما السلطة القضائية فيجب ألا تميز بين إنسانٍ وآخر من حيث الغنى والفقر ، أو الوجاهة والوضاعة ، أو قوة النفوذ السياسي وضعفه ؛ فجميع المواطنين يجب أن يكونوا سواسية أمام القانون . والصورة الواضحة في كتابات الدكتور داهش هي صورة العدالة في لبنان في العهد الخوري مقارنة بالعدالة في أمريكا . فالقاضي في لبنان هو رهن نزوات الرئيس التنفيذي وأعوانه ، يجعل الأبيض أسود والأسود أبيض ، يهشم القوانين ويرقص على أشلائها ، يحكم حكماً صارماً على من يسرق الرغيف من أجل سد جوعه وجوع أطفاله ، بينما يشارك صارق الألوف والملايين في مغانمه الحرام ؛ يتزلف للمرأة النافذة ويتملقها ، بينما يراود الفقيرة الضعيفة عن نفسها ويبتزها ؛ فلبنان كان منكوباً " بقضاة ٍ مسخرين لارتكاب الآثام وطمسهم للحق وإعلائهم للباطل " أما القضاء في أمريكا فيقول عنه : " إن أعظم عظيم يتساوى [فيها] مع أحقر حقير ، فلا سائد ولا مسود في كافة أرجاء البلاد ..."

          وفي رد على مقالٍ كتبه الأديب اللبناني ، القاضي راجي الراعي عام 1948 ، يحث فيه اللبنانيين على الرجوع إلى لبنان ، يقول الدكتور داهش :

          أيها (القاضي الراضي ) الذي لا أدري

          كيف لم تبكك (العدالة) الموءودة بإرادة (الغاصب) ،

          بعدما شاهدته من الأحكام الجائرة

          والأمور القضائية (اللاعادلة) ، وأنت ربها وربيبها ،

          وأنت الناظر من وراء (روبك) ،

          ثوبك القضائي الأسود ،

          تلك المهازل التي تمثل كل يوم ٍ

          بل كل ساعة ٍ بل كل دقيقة ،

          والعدالة التي تنحر ليل نهار على وضح النهار

          لأجل تنفيذ رغبة المسيطر ،

          وأنت الذي عرف وتأكد مقدار الأحكام الجائرة

          التي لفظها زملاؤك القضاة تحت سمعك وبصرك ؛

          كيف يا (راجي) لا تريدني

          أن أثمل من العظمة الأمريكية ،

          هذه البلاد التي ولدت فيها أنت ،

          والتي هي مهدٌ للحرية الفكرية !

          نعم ، أيها (القاضي العليم) ،

          لقد سقتني أمريكا خمرتها بكؤوسها العسجدية ،

          فسجدت أمام عدالتها الحقيقية ،

          وبت أندد بظلم الباغية وارتكاباته الجنكيزخانية .

 

أساليب العقوبة

 

          يشير مؤسس الداهشية إلى أمرين مهمين يتعلقان بتطبيق العدالة هما : ماهية الدافع إلى المخالفة والسجون .

          ففي رأيه أن الدافع إلى الجنحة أو الجريمة يجب أن يكون له وزنٌ في تقرير نوع العقوبة . فاللص الذي يسرق بدافع الدناءة وحب الإيذاء يجب أن لا تساوى عقوبته بعقوبة الذي يضطر اضطراراً ، مثلاً ، إلى سرقةٍ صغيرة ليبعد شبح الموت عن ولده المريض ؛ ففي الحال الأخيرة يجب اعتبار الحاجة الملحة المقرونة بعاطفةٍ شريفةٍ هي الحافز على السرقة ؛ كما يجب ألا تساوى عقوبة اللص المحترف بعقوبة تلك التي تبتاع ما هي بحاجةٍ إليه وتنصرف بدون دفع الثمن من جراء شرود ذهنها واضطراب نفسها .

          وتطبيق القوانين في المحاكم كما بأيدي رجال الأمن يجب أن يقترن بالعطف والشفقة على الفقير والضعيف ، لا سيما إذا كان المخالف غير مدمنٍ للإجرام أو المخالفة .

          الأمر الثاني هو السجون وما يعاني المساجين فيها . وقد أتيح لمؤسس الداهشية أن يدخلها بريئاً ، ويعاني ، كما يعاين ، الأهوال فيها . ففي 28 آب (أوغسطس ) 1944 اعتقله زبانية الجحيم اللبناني ، وبدون محاكمة زجوا به في "سجن الرمل" اثني عشر يوماً ، وبعدها أبعدوه قسراً إلى دمشق فحلب فغعزاز على الحدود التركية السورية حيث أمضى أربعة أيام ، قادوه بعدها إلى الحدود التركية ليعرضوه إلى القتل برصاص الحامية هناك . غير أن الله أنقذه وأعاده سراً إلى لبنان بعد شهرٍ واحدٍ من إقصائه . وقد فصل رجل الروح والخوارق مراحل المأساة التي عاناها وفنون التعذيب الوحشي الذي قاساه ، من ضربٍ ولكمٍ وشتمٍ ولذعٍ بالسياط ... في كتابه " بريء في الأغلال أو يوميات سجين الغدر والخيانة " . ولم تنسه آلامه أن يصف ما كان المساجين المساكين يلاقونه هنا وهناك من فتك رجال الشرطة الأجلاف بهم ، وأن يصف حياة المساجين البائسة التاعسة .

          وكان أول ما صدمه في "سجن الرمل" غرفة الأحداث الجانحين ، وذلك يوم الجمعة ، في أول أيلول (سبتمبر) 1944 . رآهم شبه عراة ، ضائعين ، مهملين، تغمرهم القذارة ؛ فتألم أشد ألم ، وسجل ملاحظاته على قصاصات ٍ من الورق كان يدون انطباعاته عليها خفيةً .

          وفي اليوم الثالث من الشهر المذكور كتب قائلاً في صدد حال الأحداث :" إن السجون جعلت للإصلاح والتهذيب ." ثم كتب :

          من المعلوم أن السجون إنما وجدت للتأديب، وليس للتعذيب .

          فالداخل إلى السجن ، مهما كان شأنه ، يدخلونه رأساً إلى الغرفة الخامسة . فترى فيها الشاعر والأديب ، والتاجر والعامل ، والحمال وبائع السوس ، والنشال والفحام ، وسالب الناس وقاطع الطريق ، وشتى أصحاب المهن والحرف . وهذا خطأ فاحشٌ من المسؤولين وممن بأيديهم مقاليد الأمور .

          فالواجب والحكمة يقضيان على أرباب الأمر أن يفرزوا كل فردٍ مع فئته . فلا يجوز ، مثلاً ، حشر الأدباء والشعراء في غرفةٍ واحدةٍ مع اللصوص والقتلة . وقِس على ذلك .

          فالفوضى ضاربة ٌ أطنابها بصورةٍ مخيفة . والحابل تراه مختلطاً بالنابل . والعياذ بالله .

          هذه هي كلمتي أضعها في كتابي هذا كي تبلغ من يهمهم أمر الإصلاح . هذا إذا كانوا يريدون الإصلاح لا الفوضى والانتقام .

          إن هذا الأمر لرهيب إذا كان ذلك الشاعر أو الأديب من المجرمين حقيقة ً ؛ فكيف إذا كان بريئاً ، ولعلةٍ يريدها أصحاب المناصب زج بمن قاده سوء مصيره بين أيديهم ، فدفعوه هم بدورهم إلى هذه الغياهب الدائمة العذاب .

          ثم من الواجب أن تكون هناك أماكن خاصة يوضع فيها المتهمون دون أن يختلطوا بالمجرمين ، حتى إذا ما دانهم القضاء ، وقيلت فيهم كلمة الفصل النهائية ، إذ ذاك يتصرف بهم الظالمون كيفما يشاؤون وتشاء رغباتهم وميولهم الانتقامية .

          ومن ينعم النظر في الملاحظات السابقة يدرك أن مؤسس الداهشية إنما أعطاها منطلقاً من قاعدة العدالة ومن مبادئ علم النفس الإجرامي . فالسجون التي يجب أن تكون للتهذيب والتأديب ، جعلها الحكام الوصوليون للانتقام والتعذيب ، وحشروا فيها الأبرياء مع المجرمين ، والمتهمين المنتظرين صدور الأحكام مع المحكوم عليهم ، غير مكترثين بالآلام والجروح النفسية البالغة التي يحدثها السجن الاعتباطي في النفوس الحساسة أو البريئة .

          وفي 8/9/1944 ، أي اليوم السابق لإبعاد الدكتور داهش قسراً عن لبنان ، عثر حراس " سجن الرمل " على منشار في فراش أحد المساجين ، فسكبوا على جسمه صفيحة ماء ، وجلدوه جلداً هائلاً ، ثم وضعوه في زنزانةٍ منفردة . فهال الأمر رجل الروح ، فكتب معلقاً : " هل بلغت القسوة والفظاعة بهؤلاء درجة ً يأنف بأن يأتي بمثلها الوحوش !" ثم أردف قائلاً :" أيجري مثل هذا ونحن في عصر الحرية والنور ! أيجري مثل هذا ونحن في القرن العشرين !"

          وكأنما يريد أن يثبت أن حكام تلك الدول الغاشمة وموظفيها الممالئين إنما يعيشون بأجسادهم في القرن العشرين ، في حين أن عقولهم وطباعهم ما زالت تنتمي إلى عصور الهمجية . كذلك يستشف من تعليقاته أنه يجعل الدول الراقية – المتبجحة ، عهدئذٍ ، بأنها تحارب من أجل تحرير الناس من الخوف والظلم والعوز ومن أجل تطبيق شرعة حقوق الإنسان – يجعلها مشاركة ً في المسؤولية عما يجري في البلدان المتخلفة وسجونها من استباحةٍ لكرامة الإنسان وللأعراف الدولية .

          أخيراً يجدر بالذكر أن عقوبة الإعدام محظرة في العقيدة الداهشية بناءً على أمرٍ روحي أساسه أن واهب الحياة وحده له الحق استردادها . وإذا كان لا بد من عقوبةٍ قصوى ، فلتكن السجن المؤبد مقروناً بالتهذيب والإصلاح الروحي المبني على إيضاح ناموس السببية الروحي .

         

الثورة على الحكام الفاسدين ضرورة ٌ محتومة

 

إقتراف الحاكم للظلم رأس المفاسد التي تستدعي الثورة عليه . عام 1933 ، كتب الدكتور داهش " حلم غريب " وقد بناه على تورية ، إذ جعل ديموقليس ، الخطيب الشهير ، يخطب في الشعب معلناً نبوءته لما سيقع للحكومة . ومن الواضح أنه كان يقصد الدولة المصرية في العهد الملكي وما ارتكبته من مظالم . كان المؤلف ، عهدئذ ٍ، في الرابعة والعشرين ، والرسالة الداهشية لم تؤسس ولم تعلن بعد ؛ ومع ذلك فنظرته الروحية الخارقة كانت واضحة . مما يقول على لسان ديموقليس :

 

          يا منبيدكم مقاليد الأمور،

          إن الشعب اختاركم

          لتحكموا بينه بالعدل أحكاماً عادلة ،

          لا أن تكونوا جلاديه (...)

          أنظروا إلى التاريخ القريب ،

          لا ، بل إلى (الثورة الفرنسية )

          التي التهمت الأخضر واليابس (...)

          أخبروني أين هو الباستيل ،

          رمز الجبروت والقوة الغاشمة ؟ (...)

          أيتها الحكومة ! إسمعي (نبوءتي) الصادقة :

          " إن الظلم والإرهاق اللذين تزرعينهما اليوم ،

          ستحصدينهما غداً : ثورة ً وانقلاباً .

          وفي إمبراطورية روسيا المسكينة ، لك خير شاهد..."

 

          ولا تقتصر مفاسد الحكام الذين يستحقون طرد الشعب لهم على الظلم فحسب ، بل تشمل أيضاً ، برأي مؤسس الداهشية ، عدة أمور ، منها : الفسق ، السرقة من خزينة الشعب ، اسغلال النفوذ للاستفادة المالية ، تقريب الحاكم لأقربائه حتى ولو كانوا أغبياء ، وتحكيمهم برقاب الناس ، خرق الدستور بتجاوز الصلاحيات المنصوص عليها في بنوده ، تسخير القوانين وتأويلها لمصلحته الشخصية أو مصالح أعوانه ، تزوير الإنتخابات ، التدخل في أحكام القضاء ، سجن المناوئين أو اغتيالهم الخ... كلٌ من هذه المفاسد تستحق الطرد ، وقد جمعها بشارة الخوري كلها في شخصه .

          يرى الدكتور داهش أن " التاريخ يعلمنا أنه ما من ظالمٍ غاشمٍ إلا ولاقى شر الجزاء الرهيب..." وعلى الصعيد الروحي ، يستشهد بقول المسيح :

          " بالكيل الذي تكيلون يكال لكم ويزاد." وهو يُذكر المظلومين ب" أن الحق يؤخذ ولا يستجدى " ، وبأنه " ما من حق ضاع ووراءه مطالب ، " لأن " صاحب الحق لا يعدم نصيراً ؛ وإن عدمه الله نصيره ."

          وفي العقيدة الداهشية أن على الداهشيين أن يكافحوا الظلم بجميع الوسائل ، وأن الثورة على الحكام الطغاة أو الفاسدين واجبة ، وأنه إذا حدث مثل تلك الثورة ، تكون إصبع الروح القدسية هي التي حركتها ، ليستقيم ميزان العدالة الروحية الشاملة .

          ولكن يجب الانتباه لأمرٍ في غاية الأهمية هو أن الثورات بحد ذاتها لا تكون بالضرورة عاملاً للتقدم الحقيقي في المجتمعات البشرية ؛ والتاريخ حافلٌ بالأمثلة على الفظائع التي تتمخض الثورات بها . حسب القارئ أن يعتبر بذيول الثورة الفرنسية والثورة البلشفية ، وهما أعظم ثورتين في التاريخ . لكن الثورات وسيلة ٌ بشرية ضرورية يتخذها مجرى العدالة الإلهية . والأخذ بمنهج غاندي السلمي في الثورة على المظالم والمفاسد هو الأفضل . ووحدها تعاليم الأنبياء والهداة يمكنها أن تغير المجتمع تغييراً إيجابياً وتدفع به صعداً في معراج الرقي الروحي ، إذا اعتنقها الناس صادقين ، فأثرت في سيالاتهم ( أي الطاقة النفسية ) وغيرت نزعاتهم ؛{ إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم } (سورة الرعد :11)

          والحكم أو السيادة كالثروة بين يدي الإنسان ، قد يكون تجربة ً له كما قد يكون استحقاقاً . فإما أن ينجح فيكون عادلاً وفاضلاً ، فيكافأ ، وإما أن يفشل فيظلم ويأتي الشر ، فيعاقب عقاباً شديداً .

          وفي رأي مؤسس الداهشية أن من لا يستطيع إسماع صوته في وطنٍ وئدت العدالة فيه وافترسه الظلم ، فهجرته إلى بلادٍ تصان فيها الحريات أولى به . يقول في مقالٍ كتبه عام 1948 ، وقد أشرنا إليه سابقاً :

 

          إنني لن أشتاق إلى وطنٍ تنحر فيه الحرية ،

 وتذبح الحقيقة ،

وتداس بين ربوعه العدالة ،

وتهشم بين سمعه وبصره الكرامة ،

وتكبل بين جدران سجونه القاتمة الحرية الفكرية

بزج أدبائه وشعرائه وأبريائه مع محترفي الإجرام

لأنهم جاهروا بحرية أفكارهم

التي تشجب جرائم المالكين سعداء لزمن محدود .

 

 

 

 

 

 

أبعاد العدالة لدى مؤسّس الداهشية

 

العدالة بين الشعوب

 

 

                                                                  بقلم الدكتور غازي براكس

 

بدأتُ،في العددين السابقين من "صوت داهش"، بإبراز نظام العدالة اللإلهيّة الشامل الذي بنيت عليه أبعاد العدالة كلها في المفهوم الداهشي؛ وبعده تناولت العدالة في التعامل بين الناس مبيناً أبرز أوجهها أي عدالة التعاطي بين الرجل والمراة، وبين رعاة الدين المؤمنين، وبين المستثمرين والزباائن؛ بعدئذٍ عالجت العدالة في الحكم موضحاً رأي مؤسّس الداهشية في الأنظمة السياسية، وفي سالطات الحكم الثلاث، وأعطيت نموذجاً معاصراً للحاكم الفاضل، ثم أوضحت واجبات السلطات العادلة تجاه الشعب، ورأي الدكتور داهش في أساليب العقوبة كما في ضرورة الثورة على الحكّام الفاسيدين. أمّا في هذا العدد فسأتناول المفهوم الداهشي للعدالة بين الشعوب، وبه أختم أبعاد العدالة لدى مؤسّس الداهشية.

 

 

 

 

الحروب: أسبابها وعواقبها الوخيمة

 

تطبيق العدالة، في رأي الدكتور داهش، يجب أولاً يقتصر على العلاقات القائمة بين السلطة الحاكمة والمواطنين في دولةٍ ما، بل يجب أن يسود العلاقات بين الدول، فلا يبقى في العالم شعوبٌ مسيطرةٌ مستمرة وشعوبٌ مسودة مستمرة. وفي كتابات مؤسّس الداهشية كثيرةٌهي الإشارات إلى الكوارث والويلات التي تتمخّض بها الحروب . ومآسي الحرب العالمية الثانية يجدها القارئ منتثرةً في قطعه الوجدانيّة، بدءاً من مطلع عام 1941  ففي "استقبال عام 1942 " يقول:

 لقد جال الحديد في العام الماضي،

فهدّم البنيان ودكّ أسس العمران،

 وأطلق شياطينه المرعبة تفتك بأشلاء الإنسان!..

 وبين هذا وذاك كنت تسمع أنين البائسين،

وصراخ الثكالى والميتّمين…

والحرب الهدامة تضحك من هذا،

 وتقهقه من ذاك…

ولهيبها الجهّنميّ يزداد استعاراً!...

 

وفي "استقبال عام 1945" يتعجّب من رجال الحرب وهم "يمثلون ويرقصون" على أنقاض عالمٍ مهدّم فقد فيه الأمن، وقامت في كل بيتٍ مناحة، وعمّ الشقاء، وتصاعد عويل الثواكل إلى أبراج السماء، وهيمن البؤس والهلع…

 

واسباب الحروب، في رأي الدكتور داهش، تعود جمعها، في نهاية التحليل، إلى المطامع الأشعبية، مهما حاول القادة أن يموّهوها بإلباسها شعاراتٍ وغاياتٍ شريفة.والتاريخ يؤكد رأيه. فالحروب الصليبية نفسها كانت تعبّئ وتحرّك جنودها المغانم المنتظرة. حتى مجاري العنجهّية العنصريّة أو العقائديّة تصبّ في مطمع الاستيلاء على مزيد من الأراضي والمغانم. وأبرز مثلٍ لذلك إدعاء هتلر أنه أشعل الحرب العالمية الثانية دفاعاً "عن الحقّ الصريع... وعن العدالة المهيضة الجناح"، في حين أن الحقيقة العارية أعلنها بقوله أيضاً "إنه لا يقبل أن يسام الشعب الألمانيّ عذاب الحرمان في مجاله الحيويّ... وإنه لن يرضخ لما تريد بريطانيا فرضه من السيطرة على العالم وحصولها على حصّة الأسد."

 

لكن دافع المطامع قد يتعزز أحياناً بردة فعلٍ انتقاميّة، ذلك بأنّ لكلّ شعبٍ نفسيةً أو سيكولوجيةً خاصة تحددها عدّة عوامل، منها التاريخّية والحضاريّة والبيولوجيّة والبيئويّة. وهذا ما حدث للشعب الألمانيّ في نهضته السريعة بعد الحرب العالمية الأولى، وإيقاده الحرب العالمية الثانية. يقول الدكتور داهش موضّحاً هذا الأمر بلسان جلبرت،أحد أبطالقصّته:

 

إن الأمة الخاسرة تحمل في نفسها حقداً هائلاً، وتصبر على جرحها الميت كاللأسد الجريح. وتمضي الأعوام وهي تنتظر الفرصة الؤاتية كي تنقضّ على الدولة التي أذلتها في كبريائها، وحطّمت من عنفوانها، وهزأت بها أمام الدول الأخرى . وعندما تدقّ الساعة، تثب وثبة الأسد الصحيح المعافى، وتعمل أنيابها القاطعة وبراثنها الحادة في جسد الدولة التي أذلتها، فتقطع أوصالها، وتسكر من خمرة دمائها. وهكذا تعود فتثأر لما أصابها منذ أعوام، طالت أم قصرت.

 

وتدور عجلة الدهر القلب، فيرتفع ميزان القدر، فتعود هذه الدولة للانتقام والثأر؛ وهكذا دواليك...

 

ويكاد يكون مستحيلاُ إقناع شعبٍ مقهورٍ مدحور باعتناق مبدإ السلام والتخلّي عن العنف، ومصالحة حاضره  مع ماضيه، لأنّ نفسية الشعب تبقى مطعونةً، مكبوتة الألم والشكوى حتى تحين الفرصة التي تسمح بالتفريج عمّا كان مكبوتاً، فيكون ردّ العنف بالعنف، والحرب بالحرب، لأنّ الماضي الجريح الطعين يبقى ماثلاً في الحاضر.

 

الاستعمار وضرورة مقاومة مظالمه

 

أبرز مؤسّس الداهشية مظالم الاستعمار ومساوئه في معرض حديثه عن غطرسة الإنكليز في الهند ومصر.

 

فمن أمثلة المظالم التي انطوى عليها تطبيق  القانون الإنكليزيّ على الهنود: منعهم من ركوب الدرجة الأولى في القطارات، ومنعهم من ردّ الاعداء وحماية النفس، وضياع حقهم في كلّ قضيةٍ بين هنديّ وإنكلزيّ، وسجن الأبرياء وقتلهم لأنهم هنود، وسلب الشعب من كلّ حريّة حقيقية؛ وعلى الصعيد الاقتصاديّ، تحطّم الصناعات اليدوية الحيّوية كالغزال والنسيج، وتمخّض ذلك بالمجاعات؛ إذ كان ملايين الهنود يغزلون وينسجون في أكواخهم، ويعتاشون من الصناعات الصغيرة قبل احتلال الإنكليز لأرضهم. وقد زاد مصيبتهم هذه ألماً أنّ كثيرين من سكان  المدن الهنود تحوّلوا إلى سماسرة وعملاء لإنكليز الذين كانوا يمتصون دماء الجماهير الضعيفة.

 

أمّا مصر فقد شهدت أيضاً من غطرسة الإنكليز ما شهدته الهند. والدكتور داهش سلّط الضوء في مرحلة احتلالهم لمصر، على حادثة مصرع سردار الجيش المصريّ وحاكم السودان العامّ، السير لي ستاك، وعلى ما تمخّضت به من ذيول تدمغ الحكم الإنكليزيّ بوصمة الظالم المستنكر. فقد اغتنم الإنكليز فرصة مقتل السردار (وقد يكونون وراءها)، فخرقوا الدستور المصريّ الذي ينصّ على أنّ ملك مصر هو القائد الأعلى للجيش، فعزلواالضبّاط وفق هواهم، وأخرجوهم من السودان معتبرينه ملكاً لهم، ضاربين عرض الحائط باتّفاقية 1899،واحتلوا جمارك الإسكندرية، وأخذوا البريء بجزيرة المذنب، حتى بدا وجههم في أبشع ما يكون من صلفٍ وتجبّر واحتقار للشعوب.

 

إنّ الظالم- سواء أوقعه حاكم وطنيّ على مواطنيه أو حاكم أجنبيّ على شعب مستغلّ أو مستعبد- يبقى منكراً مقاومته واجبة؛ بل في رأي مؤسّس الداهشية، "إن الشعب الذي يقبل مثل هذه المعاملة المهينة ولا يثور، هو شعبٌ ميت لا يستحق الحياة."

 

وثورة الشعب المستعبد على ظالمه هي حقّ مقدّسٌ تباركه السماء وتؤيده. يصف الدكتور داهش انتفاضة الهنود في بومباي وإحراقهم البضائع الأجنبية رمزاً لرفضهم سلطة الإنكليز بقوله:

 

لكن مواكب إحراق البضائع الأجنبية استمرت، وجعل الهنود يجتمعون في الميادين العامة، ويشعلون النيران في الثياب والسلع الأجنبية، والأناشيد ترتفع إلى عنان السماء، والأضواء ينعكس نورها الأحمر على الوجوه والبيوت... وكأنما هو لون الغضب المقدّس، الغضب الوطنيّ، غضب الأمة التي سلبت حقّها، وديست كرامتها، وفرض عليها الفقر والجوع.

 

على أنّ مقاومة الغاصبين والمستعمرين، إن تكن ضرورية، في رأي مؤسّس الداهشية، فالعنف لا يراه أفضل وجوهها. وقد عرض أسلوبين للمقاومةفي الهند ومصر.

 

فالهند أتيح لها رجلٌ روحانيٌ عظيم استطاع بسموّ نفسه، وثباته في جهاده، ونور عقله الصافي أن يحررهامن ربقة المستعمرين، وذلك بسياسة العصيان المدنيّ وعدم التعاون التي بثها في نفوس الهند. لكنّ طريقة اللاعنف التي أراد المهاتما غاندي أ ن ينهجها الشعب، فيردّ العنف باللاعنف، فلا يؤذي رجال الأمن أوالموظفين، بل يتحمل الإيذاء والإرهاق والإهانة بدون تذمر، هذه الطريقة المثلى لم يقدر المجاهدين الهنود على اتباعها، لأنهم عجزوا عن إلجام جموح عواطفهم ونزواتهم والسيطرة على انفعالتهم؛ الأمر الذي جعل غاندي يفرض الصوم على نفسه، "كعقوبةٍ للعنف الذي ارتكبه الشعب، وتطهيراً لنفسه، وتقويةً لروحه التي يجب أن تلاقي الاماً أكثر ما دام الجهاد هكذا محفوفاً بالعنف، وما دام المجاهدين غير قادرين على ضبط عواطفهم وتنفيذ مبدإهم."

 

وقد أكبر الدكتور داهش موقف غاندي، وأجل شخصه ومجده رافعاً إياه إلى مرتبة الإنسان الكامل الذي حقّق سموه بإرادته الجبّارة وجهاده لجواذب الدنيا ومغريات الجسد، فاستحقّ أن يكون مقارباً للأنبياء.

 

أما مصر فقد أتيح لها قائدٌ كبيرٌ استطاع أن يعالج الأمور بحنكةٍ ومرونةٍ وحكمةٍ هو سعد زغلول. فهو، وإن لم يستطع أن يسمو بنفسه إلى المرتبة التي سما إليها قدّيس الهند، فإنه داناه في معالجته الحكيمة للأمور الشائكة. يخاطب مجلس الأمة، على أثر مصرع سردار الجيش وثوران عنجهيّة المندوب السامي البريطانيّ، فيقول:

 

"…أرجو الأمة جميعها أن تدقّق في الحالة الحاضرة تدقيقاً عميقاً، وأن تتأملها من كلّ وجهاهها، وأن تحترس كلّ الاحتراس من الاندفاع وراء الأهواء والانفعالات التي لم تكن نتيجة تدبر في الحال وتأملٍ فيها، لأنّ الموقف دقيقٌ جداً، وأقلّ حركةٍ طاشةٍ تكلفنا أكلافاً باهظة. فعلينا أن نتذرّع بالصبر، وأن نلزم جانب السكينة، وأن نثبت للناس أجمع أننا أمةٌ حكيمة، تعرف كيف تضبط نفسها وقت الشدة، وكيف تلين لظروف وتشتد لظروفٍ أخرى، فنعرف العالم أجمع أننا عالمون بحقيقة موقفنا، وأننا عالمون بحقيقة موقفنا، وأننا نحاول أن نصل إلى غايتنا بوسائل الحكمة والرزانة، بالوسائل المشروعة، لا بوسائل الخفة والطيش…فالزمن أمامنا طويل، وحياة الأمم طويلةٌ، وإننا إذا لم نحصل على مقصدنا اليوم، فسنحصل عليه غداً. ويجب أن نجعل دائماً نصب أعيننا أن من الواجب علينا ألاّ نُمكِّن الخصوم منّا، وألاّ نجعل لهم سلطاناً علينا ولو بظاهرٍ من الحقّ. ويجب علينا أن نجرّدهم من كلِّ سلاحٍ بالحقّ، وأن نسلّح أنفسنا دائماً بالحقّ وباللياقة…"

 

"الحرب... أكبر خدعة"

 

الشعب الذي لا يكون فيه رأي عام مستنير يمحّص أعمال الحكّام وقراراتهم، ويراقب تصرفاتهم، وينتقد أخطاءهم لا يمكن أن يستفيد من نعمة الحرية التي يكون راتعاً فيها. ولذلك يرى مؤسّس الداهشية أنّ على العقلاء في كل قومٍ أن يحبطوا مساعي القادة والسادة لإيقاد الحرب، وذلك بمناقشة اّرائهم الثورية، وفضح التمويه الذي يلبسونه شعاراتهم الوطنّية التي يلهون بها نفوس الشبّان ويغرّرون بهم دافعين إياهم إلى أتون الحروب. فالمغانم والمكاسب التي يحلم بها القادة من انتصارهم " لا تساوي قلامة ظفر أحقر جنديّ يسقط في معركة يشنها دون أن تحقّق اّماله بعد انتهاء الحرب ووضع أوزارها."واّمال كلّ جنديّ ومواطن تكون معلقةً على وعودٍ عرقوبية يجود بها القادة عليهم لتخديرهم،من تامين العدل والرفاهية والسعادة للشعب،وإعلاء الحقّ، وضمان الحريات والحقوق الإنسانية للعالم... فالحروب "أكبر خدعة"وهي "إثم رهيبٌ فادح لا يغفر الله لمن ارتكب جريمته."

 

فبعد أن تكون الحرب قد حوّلت العمران إلى أنقاض، ويتّمت الأطفال ورمّلت النساء، ينتظر الشعب المرهق بالفقر والماّسي أن يحقّق القادة وعودهم له، فإذا "الرخاء الذي أصبح لديه يقيناً لكثرة ما ردّده الساسة على مسامعه، قد استحال إلى جوع جارفٍ يحتلّ المدن والقرى، ويفتك بالبعاد أكثر ممّا فتكت الحرب الجنونية بجيوشها اللجبة. ويبقى القويّ قوياً يسيطر على الضعفاء كعهده السابق. والغنيّ يمكث متحكماً بالفقير مثلما اعتاد قبل الحرب الضروس."

 

ويرى الدكتور داهش أنّ الشّعارات والدعايات الكاذبة لم تتغير في جميع الحروب الحديثة. ولعلّ أكثرها تأثيراً في الأعصاب ما يتعلّق بالوطن والوطنيّة، وواجب الدفاع عن أرض الجدود المقدّسة؛ فهي تعمي الشعب عن رؤية أيّ حقّ مقدّس غير حقه هو. وهذه العصبية القوميّة العمياء إذا شحنت بعصبيةٍ عقائديةٍ سياسةٍ أو دينيةٍ، حوّلت الشعب إلى وحشٍ ضارٍ يفتك بالاخرين بلا تردّدٍ أو رحمة. يقول الدكتور داهش في سداسيةٍ بعنوان "أسطورة (في سبيل الوطن)":

 

أيها الأبطال الذاهبون طعمة الأطماع والأهواء من أبناء المنافع

 

لقد خدعوكم وإلى الحرب دفعوكم طعاماً لنيران المدافع ثمّ قالوا: إنّنا فدى الوطن وعنكم ندافع...

 

ورجل الروح الخارق يرى أنّ وطنه الحبيب ليس في هذا العالم الشرير المدنّس، بل هو في ملا الأرواح القدسية الطاهرة.

وهو يناشد كل ّ من تاقت نفسه إلى الكمال الإنسانيّ أن يجعل قلبه وكنزه لا في وطنٍ أرضيّ لا بدّ من أن يزول، بل في وطنٍ سرمديّ.

 

وإذا أخذنا بعين الاعتبار الفلسفة الداهشية القائلة بالتقمّص الذي يستتبع أنّ كل إنسان يمكن أن ينتمي إلى عدة أوطان في دوراتٍ حياتية متعاقبة، بل قد يصبح في دورةٍ سابقة، فيمكننا أن نفهم مهازل الحروب والعصبيات القوميّة أو العرقيّة أو العقائدية التي تثيرها. يقول الدكتور داهش بلسان روح جلبرت، أحد الجنود الذين قتلوا في الحرب العالمية الأولى:

لقد إجتمعنا هنا (أي الأرواح)، وكوّنا أسرةً روحيةً واحدة؛ فأعداء الأمس الذين كانت تغمر قلوبهم الكراهية، أصبحوا أصدقاء اليوم، تعمر أرواحهم المحبة الحقيقية.

 

فالألمانيّ والبريطانيّ والفرنسيّ والتركيّ والبلجيكيّ واليوغسلافيّ والبلغاريّ والروسيّ والزنجيّ والأمريكيّ والأستراليّ وغيرهم من مختلف الجنسيات التي فرضتها غايات الأرض فرضاً على الأمم – أصبحت، الآن، تنتمي إلى جنسيةٍ روحيةٍ واحدة، بعد أن نبذت أضاليل الأرض وسخافات الحياة.

 

فهنا لا سائد ولا مسود، لأن قانون السماء قد وحّد بين الجميع. والحقيقة الإلهية كشفت عن أعينهم غطاء الجهل، فأصبحوا يخجلون مما كانوا يقومون به في عالمهم المشتقّ من الجحيم.

 

إن النصَّ السابق لجديرٌ بأن يستوقف ذوي البصائر النيرة؛ فما إن إنتهت الحرب الباردة بانهيار الأتحاد السوفياتي وتفاءل الناس بالخير والسلام حتى إندلعت نيران العصبيات القومية منذرةً بشرٍّ مستطيرٍ، ففي ظرف بضع سنوات وقعت حوالي خمسين حرباً إتنية سقط فيها مئات آلاف الضحايا وشُرِّد عشرات الملايين، وازداد خطر إنتشارالأسلحة النّووية بين الشعوب بازدياد الفوضى فيها، وتعاظم أمر الغلاة في الأديان جميعها حتى كأنها خلت من روح الهداية وداخلتها روح الضلال.

 

إذا الحرب منكرٌ يجب على العقلاء أن ينبذوه ويسفّهوا بالحجة الدامغة مروّجه، لأنّ الحروب لا تتمخض إلا بالخراب والويلات على الظافرين والخاسرين، ولأنّها نفيٌ لناموس المحبة  الشاملة التي أرادها الله، من خلال رسله جميعاً،في الناس.

 

لكنّ هذه القاعدة لها استثناء واحدٌ فقط هو الدفاع عن النفس. فمثلما أنّ الفرد يحقّ له أن يدافع عن نفسه دفاعاً مشروعاً ضدّ مغتصب أو معتدٍ، هكذا يحقّ للشعب أن يذود عن أرضه إذا تأكد له أنّ شعباً عدواً يعتزم اغتصابها. يقول الدكتور داهش بلسان جلبرت:

 

إنّ الدفاع عن الوطن فرضٌ مقدّس إذا حاول العدو اغتصابه لاستعماره وإذلال شعبه الأبيّ. فالدفاع عن أرض الجدود والاباء أمانةٌ قلّدتها السماء أعناقنا، وأوكلت أمر الدفاع عنها لنا ولأولادنا.

 

فالتراجع عن الواجب عارٌ لا تمحوه عابرات الأعوام. هذا إذا تأكدنا أنّ العدو سيخترق حرمة حدودنا كي يستعمرنا ويسربلنا بعار عبوديته الذليلة التي لا تطاق.

 

 

 

السلام العالميّ والعالم الواحد

 

 

 

يقول مؤسّس الداهشية على لسان جلبرت:

إن على ساسة العالم ، في أربعة أقطار المعمور، أن يبنوا (عالماً واحداً)، إذا رغبوا في أن يسود السلام العام أرجاء هذه الكرة اللعينة .

          أما الطريق الموصلة إلى هذا الهدف الجليل ، فيمكن اختصارها بالأمور التالية :

          أولاً ، ضرورة تأمين إجماع الدول ، ولا سيما الكبرى منها ، على تحقيق هذا الهدف وهذا يقتضي أن يعمل الواعون المخلصون ، بمساعدة الأمم المتحدة ، على نشر ثقافةٍ تستهدف إقناع الرأي العام في كل دولة أن الأرض عالمٌ واحد ذو مصير واحد ، وأنها وحدة ٌ متكاملة ، لا جزء منها بوسعه أن يعتزل عن الأجزاء الأخرى مستغنياً عنها ومكتفياً بذاته ، مهما اذخر من القوة . ولذا فإن الخطر على القوميات أو الثقافات في تصارعها ، مهما يكن مقلقاً ومؤلماً ، فإنه يبقى دون الخطر الأعظم على الأرض كلها من جراء حربٍ نووية قد يفجرها العصابيون من الحكام الطامعين أو الحاقدين أو الموتورين ، أو من أخطار ٍ فلكية إفنائية قد تفاجئ كوكبنا الصغير ، واحتمالاتها العلمية كثيرة ، أو من أخطار ٍ عامة ناتجة عن انتشار الأوبئة بسبب التلوث العام في المياه أو الهواء ، أو بسبب المجاعات المروعة التي تصيب الملايين كل عام في إفريقيا وآسيا ، والتي قد يحولها جفافٌ شاملٌ غير منتظر إلى كارثة عالمية .

          ثانياً ، أن يقتنع ممثلو الأمم بأن الدول يجب أن تكون عالماً واحداً ، لا ثلاثة عوالم ، شرقية وغربية وغير منحازة ، كما كانت الحال قبل انهيار الاتحاد السوفياتي ، ولا عالمين ، عالم السادة الأقوياء وعالم التابعين الضعفاء مثلما الحالة اليوم؛ بل عليهم أن يقتنعوا بأن البشر كافة ً أسرة ٌ إنسانية واحدة ، فيعملوا بإخلاص ٍ من أجل خير هذه الأسرة ؛ والكبير فيهم يكون كالأب المسؤون عن خير أبنائه ، أبٍ محب ٍ شفيق ٍ غير متسلط ، لا يفرق بين إبن ٍ وآخر ، ولا يتحيز لواحدٍ دون آخر .

          ثالثاً ، " طرح الأطماع جانباً من الجميع في سبيل سعادة الأسرة الإنسانية " ، والتنازل عن كل مطمع ٍ قومي يؤدي إلى إثراء شعبٍ على حساب شعبٍ آخر . وعلى الواعين في كل أمة أن يعوا أن القومية مرحلة ٌ في المسيرة التاريخية الحضارية وليست المحجة الأخيرة . فالمجتمع البشري تطور من كيان العشيرة فالقبيلة إلىكيان المدينة – الدولة فالأمة –الدولة ؛ ولا شيئ يمنع من أن يتابع تطوره إلى أسرةٍ دولية تكون الأرض كلها بيتاً لها . والمرحلة الأخيرة بدأت ملامحها تظهر في الأفق العالمي مع انتشار الأفكار والقيم المختلفة لدى الشعوب طراً وتقاربها وتفاعلها ، وذلك بوسائل الإعلام الحديثة الشاملة ، ومنها " الإنترنت " والأقمار الصناعية . كذلك تكاثر نشوء المنظمات العالمية المهتمة بشؤون العالم كله تكاثراً لم يعهده التاريخ من قبل ؛ منها " منظمة حقوق الإنسان " ومنظمات السلام العالمي ، فضلاً عن " البنك العالمي " ومنظمة " اليونسكو" وكثير ٍ غيرها مما هو داخل الأمم المتحدة أو خارجها .

          رابعاً ، أن يضع ممثلو الدول " قانوناً عالمياً شاملاً ، يدخلون فيه الدول الصغرى التي تنقاد إلى آرائهم "؛ وهذا يقضي أن تتصرف الدول الكبرى بحكمةٍ ومحبة وإخلاص ٍ لخير الإنسان حيثما كان ، فتحترم حق تقرير مصير الدول لنفسها ، كما تحترم ثقافاتها وعقائدها الدينية وتقاليدها وأعرافها وقيمها ، الأمر الذي يؤدي إلى جعل الدول الصغرى تثق بالدول الكبرى فتنقاد لها مثلما ينقاد الابن لوالده المؤدب المحب الحكيم ، علماً بأنه لا يجوز ، في أي حال ، فرض إرادة الكبير على الصغير فرضاً .

          خامساً ، أن " يوحد ممثلو الدول أهدافهم السامية ومثلهم العليا " . وليس هذا الأمر عسيراً إذا تفهم الجميع خصائص الحضارات المختلفة وخصائص أديانها ؛ فمن القواسم المشتركة بينها يمكن استنتاج القيم والمثل العليا التي يرضى بها الجميع . فالفضيلة نوه بها الهداة والرسل والحكماء جميعاً ، وكذلك العدالة والحرية . لكن الديمقراطية ونظام الحكم ليس محتوماً على جميع الشعوب أن تنظر إليها من خلال منظور ٍ واحد ؛ فقد عرف التاريخ ملوكاً ديمقراطيين ورؤساء جمهورياتٍ مستبدين ( أنظر " العدالة في الحكم " في العدد السابق ). والوعي السياسي الثقافي مختلفٌ بين شعبٍ وآخر ؛ فيستحيل افتراض مستوى النضج الروحي الفكري الواحد حيثما كان . أما الغطسة ، وادعاء العصمة أو الكمال فأمرٌ ممقوتٌ ممجوجٌ لدى أكثرية الناس ، وإن تظاهروا بالخضوع له أحياناً .

          إن الدكتور داهش يرى أن هذا الهدف الجليل ليس مستحيلاً لكنه صعب التحقيق في هذا العصر ، لأن المطامع المادية ما تزال هي التي تحرك الشعوب وتملي عليها أهدافها ، وتخطط سياستها الداخلية والخارجية . أما الشعارات التي يطلقها زعماء الدول من حين ٍ إلى آخر ، منذ تأسيس الأمم المتحدة ، من مثل الرغبة في بناء عالم ٍ جديدٍ تسوده العدالة والطمأنينة ، وتعمه الحرية ، وينتفي فيه العوز والخوف والإكراه إلخ... تلك الشعارات التي أطلقها ونستن تشرشل وروزفلت في أوائل عام 1946 ، وما زال الرؤساء يكررونها بصيغ ٍ مختلفة أكثر من نصف قرن ، برهنت الأحداث التارخية أنها مجرد كلام ٍ يطلق في الهواء أو يبقى حبراً على ورق ، لأن النيات غير صافية والقلوب غير صادقة .

          يختصر رجل الروح والخوارق رأيه في اجتماعات الأمم المتحدة منذ تأسيسها بقوله على لسان " الدينار " بطل قصته الفذة "مذكرات دينار" :

          إنني أرى ما لا ترونه ، يا معشر الساسة ،

          وأعرف ما لا تعرفون ، يا أرباب الدهاء والسياسة .

          فالغيب قد تكشفت لي بدائع أسراره .

          والإلهام تدفقت علي روائع أنواره(...)

          لقد رأيت نير القوي يطوق أعناقكم ،

          وسيف الجبار يكم أفواهكم ،

          وقنابله الفتاكة تردم دياركم وتحصد أرواحكم .

          وما هذا المؤتمر إلا مؤامرة أبيتم إلا إدخال بلادكم ضمن دائرتها ، وتقديم أنفسكم المخدوعة قرباناً على مذبح شهواتها (...)

          فالنيات ، يا ساسة ، لن تصح ما دام هناك مناجم تحتوي أجوافها على معادن الألماس والفضة والذهب والبلاتين . ولن تصفو ما دام هنالك آبار النفط والزيت والبترول (...)

  • قايين ، قايين ! أين هو أخوك هابيل ، يا قايين؟
  • لا أعلم أين هو . فهل أنا حارسٌ عليه وأمين ؟ (...)

يا من بأيديكم القوات المادية ،

ويا من تسيطرون على الطاقة الذرية ،

ويا من تدعون بحبكم للبشرية ،

إذا كان السلام بغيتكم ، والحق ديدنكم ،

والعدالة أمنيتكم ،

فهاتوا البرهان على صدق نيتكم .

هاتوا ، يا أقوياء ، وأشهدوا الكون على تضحيتكم ...

أعيدوا لكل ذي حق حقه ، وحرروا المستعبد من رقه ، والمغبون من غبنه ،ومكنوا

رب البيت من بيته ؛ فرب البيت أدرى بالذي فيه ، بظواهره وخوافيه .

          ولكنكم قلبتم الآية ، وعكستم الحقائق ، وأضعتم الغاية . فأصبح رب البيت يئن تحت نير الغرم ، وأنتم ، أيها الأقوياء ، تتمتعون بالغنم (...)

          وما دمتم مجتمعين لتقرير صرح سلام ٍ عالمي تسوده العدالة الشاملة ، فلماذا – يا ليت شعري !- شحذتم خناجركم ، وحمل كلٌ منكم غصن زيتون في يمناه ، وشهر خنجره المرهف الحد بيساره متحيناً الفرصة كي يغمده في ظهر زميله الجالس بقربه وينتهي من أمره ؟

          إنني أوكد لكم أنه لا المؤتمرات ، ولا القرارات ، ولا المداورات ، ولا المناورات تستطيع أن تمنع وقوع حرب فناء ثالثة .

          فما دامت شياطين أطماعكم لا تزال قاطنة في أعماق أفئدتكم ، ومستقرة في تلافيف أدمغتكم ، وسارية ً في كريات دمائكم ، وهاجعة ً في ضلوعكم وأحشائكم ، وملتصقة في كيانكم منذ تكوينكم ... فليست بعيدة تلك الساعة الرهيبة التي تهيئون بها معداتكم ، وتتمون بها استعداداتكم ...

          وإذ ذاك تنطلق تلك الشياطين الجهنمية من عقالها ، وتخرج فدائ أثقالها ، كي تدمر الأرض وما فيها وتردمها بمن فيها .

          إن نهاية تصارع المطامع للسيطرة على الأرض ، يراها الدكتور داهش بخسران الأرض كلها في حربٍ فنائية شاملةٍ لا تبقي ولا تذر ، وقد تكون أقرب إلينا مما نتصور .

          لكن أليس من حل ؟

          بلى ، إنه في العودة إلى تعاليم السماء ممارسة ً ، والتمسك بالقيم الروحية التي من أجلها اضطهد الهداة والمرسلون والأنبياء . إنه الإيمان بوحدة الأديان الجوهرية ، وبالإخاء الإنساني الشامل . إنه الشعور بالعطف والشفقة على الفئات الضعيفة أو الفقيرة داخل الدولة الواحدة ، كما على الشعوب الضعيفة أو الفقيرة ، في أسرة الدول ، وبواجب مساعدتها لإقالتها من كبوتها . فلو كانت روح الدين السمحة في المسيحية والإسلام وفي سائر الأديان ما تزال معافاة ً فغالة ً ، لما حمل الأوروبيون شارة الحب والفداء ، شارة الصليب ، على صدورهم ليجتاحوا الشرق الأوسط ويقتلوا ويفتكوا ويدمروا باسم الصليب ، ولما عادوا في العصر الحديث إلى استعمار الشعوب وامتصاص قواها ؛ ولما حدثت المجازر بين الكاثوليك والبروتستانت كما بين السنة والشيعة ، والسيخ والهندوس ، والمسيحيين والمسلمين واليهود . لكنه فراغ الأديان من نسغها الروحي الحقيقي – النسغ الذي من أجل نشره وتعزيزه في العالم هبطت الرسالات السماوية وكان الهداة والحكماء – هو الذي جعل الجميع يعبدون المال ، وينسون وصية سيد المجد ، فيحركهم الجشع إلى السيطرة فالحروب ، وهو الذي جعل الباحثين الذين غاب الله من قواعدهم العلمية أو من ضمائرهم يرون الدين مجرد دينامية اجتماعية عمياء تمتطيها المحركات الاقتصادية السياسية وردود الفعل القومية والإتنية لمزيد ٍ من السيطرة الإقليمية أو العالمية .

          وفي هذا التصادم القومي أو الحضاري الفارغ من جوهر الحضارة ، لن يكون الفوز ، في المدى البعيد ، لأية دولة . فالجميع ، في ظل الغمامة النووية ، سيقومون بانتحار ٍ جماعي . ومن هو الأكبر اليوم سيحل به ما حل بالأكبر قبله منذ ألفي عام . فروما التي كانت تترنح الأرض تحت أقدام جحافلها أصبحت مقطعة الأةصال ، مرملة ً ميتمة ً ترثي أبناءها . ولا يغيبن عن البال ، إذا كنا مؤمنين بوجود عدالةٍ إلهية ، أن الثواب والعقاب يقعان على الشعوب والمجتمعات مثلما يقعان على الأفراد . فالدولة الفاسدة الباغية ستلاقي جزاءها ، والدولة الجشعة المتغطرسة ستنقلب على رأسها ، ويأكل الآخرون لحمها .

          أما إذا كان الحق هو رائد الشعوب ، والفضيلة هي نهجها ، فلا خوف على الدول فرادى ولا خوف على الأرض .

          فالأرض التي كونها الله ، والخيرات التي ملأ بها أرجاءها ، تستطيع أن تغرق كل حي على ظهرها ، وتكفيه القلوب ، وإذا طردنا منا شياطين الأطماع التي تقطن في داخلنا مثلما تقطن الأفاعي في الشقوق والنخاريب .

          وريثما تتقارب سيالات البشر ، عبر العصور الآتية ، في مستوياتها وتوجهاتها ، في مداركها ونزعاتها ، فتقوم حضارة ٌ واحدة تسوسها حكومة ٌ حكيمة ٌ عالمية ٌ واحدة ، فعلينا أن نبقى مرددين : { يا أيها الناس ، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ؛ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، إن الله عليمٌ خبير } ، و { لكلٍّ جعلنا منكم شرعة ً ومنهاجاً ، ولو شاء الله لجعلكم أمة ً واحدة ، ولكن ليبلوكم في ما أتاكم ، فاستبقوا الخيرات ، إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون }.