info@daheshism.com
الأحلام ، أحلام النبي الحبيب:

 

                           الشاعر

أغمضَ الشاعرُ عينيهِ، وخاضَ في بحرٍ من النومِ السحيق!

وراح يُحَلَّقُ في أجواءِ الفضاءِ الفسيح موغلاً في طبقاته العُلويّة!

وانطوتْ دهورٌ طويلةٌ... وهو دائبٌ على طيرانِهِ السريع،

موغلاً في طبقاتِ الأثير الشفافةِ

دون أن يعتوِرَهُ كلَلٌ أو ملل!

يمتطي، آنًا، الضبابَ السابحَ في بحر اللانهاية،

وحينًا يتسلّقُ هضبةً من الغيومِ التائهةِ في أوقيانُسِ الأبد!

وتندفعُ تلك الغيومُ كالسهم

قاطعةً الأبعادَ بسرعةٍ مرعبةٍ مخيفة!

وعندما ينتهي أجلُها، وتتبدَّدُ، متلاشيةً كالعمرِ القصير،

يُسرعُ النسيمُ ويحملُ الشاعرَ على أجنحته الغير المنظورة،

ويوغِلُ بهِ في أقاضي السماواتِ ذات الأسرار المجهولة!

وتنقضي أجيالٌ أخرى... والرحلةُ لما تنته بعدُ!

وتتصرَّمُ أسلاكُ حياة النسيم الشفافِ ويُصبحُ في ذمةِ الأبد!

وفي اللحظةِ اغلتي يهوي بها الشاعرُ من أعلى عليين،

يظهرُ، فجأةً، ملاكٌ بَهِيٌّ المُحيا، وضاحُ الجبين،

ويأخُذُ بيد (الشاعر) المذعور، ويُحلقُ به بعيدًا!

وتمضي ساعاتٌ يصلُ بعدها الملاكُ، وبرفقته، الشاعرُ،

إلى أولِ كوكبٍ من الكواكبِ المنتشرة في رقعةِ الفضاء اللانهائيّ

ويحطّ الملاكُ الرحال في هذا الكوكب المتوهج،

ثم يُودَّعُ (الشاعر)،

بعد أن يُكلل رأسهُ بإكليلٍ من الغارِ المذهبِ الأوراق!

ويحلقُ في فضاءٍ  مُعطرٍ بعبيرٍ سماوي، ثم يختفي عن العيان!

 

                           مليكةُ النجمِ السعيد

 

 

تظهرُ أمام الشاعر (حوريةٌ)

يُعدّ جمالُها معجزةً بل أسطورةً، إذا تحدثتِ الأفلاكُ عنه...

وتأخذُ بيده إلى حديقةٍ إلهيةٍ

تملأها رياحينُ الفردوسِ النادرة،

وتفترشُ الأرض!

ويجلسُ هو بجانبها مدهوشًا مشدوهًا ممّا يراه!

وهو يكادُ يُكذّبُ نفسَه!

بينما قلبُه يضربُ ضرباتٍ عنيفةً

لا تُقاسُ بها ضرباتُ الحداد القويةُ على سندانِه الحديديّ!

وراحَ يهيمُ في النظرِ إلى عينيها الفتانتين الفتاكتين!

وإذا بها توقظُهُ من تيهِهِ بسؤالها إيّاه:

_ ألم تكن تستنجدُ بي

عندما تُريدُ النظمَ، أيها الشاعرُ الجميل!

أوَلستَ أنتَ القائل بي:

"حنانيكِ ربةَ الشعر! وألهميني، يا أختَ روحي، قصيدة،

 فإنَّ! نفسي عافت الدنيا بما فيها، وهي تبغي نجمًا مُشعًا لتصيده!

هي لم تلقَ في دُنياها الفاجرةِ إلا الرزايا والبلايا وكلَّ مُصيبه!

لهذا!، فهي ترنو إلى النجوم النيرةِ بفراديسها الغناء الخصيبة!

كفاكِ، يا نفسي، هُمومًا وغُمومًا وغُيومًا وساعاتٍ عصيبة!

إبحثي، ولا تكلّي، يا نفسُ، عن كواكبَ رائعةٍ بسّامةٍ مهيبة!

العمرُ ذهَبَ بددًا، فبؤسٌ وشقاءٌ، ثم عناءٌ تراهُ يُذيُبه!

القلبُ قد امتلأ بالكدرِ الجاني، لهذا بكى، ثم علا نحيبه!

إذا ما سألني سائلٌ: ما بكَ يا شاعري؟ تُرى، بماذا أُجيبه؟

                           ***

الدهرُ، بعد أن قلبتهُ على كفي، وجدتُ أمورهُ عجيبةً غريبهْ!

والناسُ أراهم، في مذهبي، كالحُمُرِ سُجَناءَ الزريبه!

هم في دنياهمُ الزانية فُجّارٌ، وفي (عالمهم) المجهول يدفعون ضريبهْ!

يتشبثون بحبالِ النساء بكليتهم، ويقولون عن كل ابنةِ حواءَ حبيبة!

يتشدّقون، بأفواهٍ كالكهوفِ، بأنهم يملكونَ خطيبهْ!

ويقولونَ عنها إنها أفوَهُ من (ديموستين)! للهِ درُّها من خطيبه!

يندفعُ البعضُ بصخبٍ يرونَ تمليكَ أحدهم،  فيُحاولون تنصبيه!

ولا يحلُّ بأحدهم إلا ما كتبه الله عليه، فالكلُّ يأخذُ نصيبه!

يظنُّ قومٌ أن منيتهم بعيدة، وآخرونَ يقولون: إنها قريبه!

حيرتني أحوالُ هذه الدنيا الفاسقةِ، وتِهتُ في أفانينها العجيبة!

 

                           ***

وعندما انتهتْ (ربةُ الشعرِ) من القصيدة،

طأطأ (الشاعرُ) رأسهُ بخجلٍ ووجل!

فتقدمت هذه الكاعب إليه، وراحت تُباسِطُه في القول،

وتداعبهُ مداعباٍ بريئةً ليتشجَّع!

وبعد دقائق، حُلَّتْ عُقدةُ لسانه، فنطقَ قائلاً:

  • أي ربةَ الشعرِ وربةَ الجمال!

أنا سعيدٌ، يا حبيبةَ روحي، سعادةً شاملة!

أنا مُدَلَّهٌ ولهان، وهائمٌ في لازَوَرْدِ عينيكِ!

أنا قتيلُ هذا الشعرِ الداجي، أيتها الكاعبُ الصَّناع!

أنا ثَمِلٌ من مشاهدةِ كوكبكِ المتوهَجِ المُنير!

أنا تائهٌ في خِضَمِّ حُبكِ اللانهائي!

أنتِ مَسْرى هنائي وبُغيتي الوحيدة!

أنتِ رجيتي، بل طلبتي، بل قِبلتي!

أنتِ مَنْ كنتُ أتغنى بها في سكون الليلِ، والناسُ نِيام!

أنتِ زهرتي الأرِجة، وزنبقتي النقية!

أنتِ فردوسي المفقود، في عالمي القاسي الموجود!

أنتِ (الآلهةُ) يتفيأُون تحت ظلالِ أشجارِ حبِّكِ اللذيذَ!

أنتِ الينبوعُ الصافي المياهِ، العذبُ المورد!

أنتِ!... الطيرُ السماويُّ الفتان يُغردُ أعذبَ الالحان!

أنتِ!...
وفجأة، استيقظ الشاعر على لطماتٍ ثقيلةٍ

تُكالُ له على قَفاهُ دونَ حساب،

وصوتٍ خشنٍ أجشَّ يقولُ له:

  • ويلَكَ، يا أقبحَ الرجال! ويا أخبثهم وأقلَّهم حياءً!

أتُغازِلُ إحدى الفتياتِ أمامي، وأنا زوجتُكَ الشرعيّة،

وتُقسِمُ لي أنكَ لا تُفكَرُ الا بي؟!

وللمرةِ الثانية، راحت تكيلُ لهُ اللطمات،

وتقذفُه بأفحشِ السِّباب،

 وهو كالمشدُوهِ الضائع!

ولمّا عاد إليه وعيُه، وثابَ إليه رُشدُه،

وعرفَ حقيقةَ الأمر،

ثارَ عليها ثورةً عنيفة،

وأمسك بذؤابتيها ولفهما على يده،

وراح  يكيلُ لها ما كالتهُ له!

فذُعرَ الأطفالُ النيامُ

وقاموا بدورهم ليصلحوا ذات البين،

ولكنْ عبثًا!

وابتدأ (الشاعرُ) المسكينُ يندبُ سوءَ حظه،

ويلعنُ الدنيا، ويطعنُ بكافة النساء،

ويكفرُ بالسماء، ويُمجدُ الجحيم،

لأنه عرفَ أن السماءَ نفسها تهكمَتْ عليه،

عندما دعته يُشاهدُ (الرؤيا) التي لم تكن إلا أطيافَ أوهام،

وأضغاثَ أحلام!

للهِ كم أنتِ قاسيةٌ أيتها الحياةُ الأليمة!

                                                       بيروت، في 5 كانون الأول 1942