info@daheshism.com
الشيطان ونشيد الأبالسة:

 

إلى رب الهاوية وسلطان الجحيم

 

أُهديك، يا رب الهاوية وسلطان الجحيم،

نفسي و قلبي، وإخلاصي وحبي.

أُهديكَ ما أُحسُ به من لوعةٍ وغرام،

وأُهديك، يا سيدي، عاطفةَ المشوق المستهام!

أُهديك قلبًا لا ينبضُ الاَّ بإكبارك،

ولا يفيضُ إلا لك،

ولا يخفقُ إلا بحبك،

ولا يسمو إلا بك!

أُهديكَ ودًّا وولاء، وصداقةً وإخاء، وإخلاصًا ووفاء!

أُهديكَ عطفًا نقيًّا خالصًا لا يشوبُه رياء، ولا يمازجُه دهاء!

أُهديكَ تقديرًا وإكبارًا، وتقديسًا وأعجابًا،

إعجابًا لا يُحَدُّ بسعةِ صدرك، ونُبلِ اخلاقِك، وكبير آمالِك،

وعالي هِمَمِك، وعظيمِ شممِك!

أُهديكَ خيرَ ما يُهدى، بل غاية ما أستطيع،

لأنك تستحقُّ كلَّ خير.

                                  ***

أيَها الشيطانُ الجليل!

يا سيّدَ الأبالسة والعوالمِ السُّفلى!

لكَ أسمى ما يخفقُ به هذا القلبُ المحطَّمُ الحزين،

العاني المسكين،

من عواطفِ الحبِّ والإخلاصِ والتقديرِ والإعجاب!

ويا سيّدي،

لقد فكّرتُ كثيرًا في (غرائب) الكون، و(متناقضاتِ) الوجود،

فكان (عالمُك) أبهى من (عالَمنا) السخيف،

الحافلِ بالشرورِ والآثام، والاضاليل والأوهام،

والمكارِهِ والأسقام، والمتاعبِ والآلام!

وها هم رجالُ الدين

يتخذون من اسمكَ ستارً يُخفون وراءَه غاياتهم السافلة،

ومقاصدهم الشريرة!

لكنّك، أيّها الشيطانُ الجليل،

تنظرُ إلى أعمالِهم، وأعمالِ البَشرِ الوضيعة،

بعينينِ نقّادتينِ نافذتين،

والبسمةُ الساخرةُ تعلو وجنتيكَ

اللتين جعدهما مرُّ الايام وكرُّ الأعوام!

ويا سيد المؤدبين،

ألا ترى عيناك هؤلاء البشر

يرتكبون أحط أنواع الرذيلة والإثم؟!

فإذا سُئلوأ عن السبب، أجابوا بأنك أنتَ السبب،

وأنتَ أصلُ البلاء، وأُسُّ الشقاء!

أولا تُبيتُ لهم في خفايا المستقبل، شرَّ الجزاءِ على هذا الكذب؟

أَبصِرْ بهم، يا سيد الأبالسة، ويا سيدي أنا،

وأبصِرْ بواحدهم... لا تحلُّ به نكبةٌ، ولا تصيبُه مصيبةٌ،

ولا تقصمُ ظهره قاصمةٌ، حتى يجأرَ بقذفك بالسباب والشتائم،

بينا وجهُك وضاحٌ، وثغرك باسم!

وحين تزلُّ قدمُ تقيٍّ برٍّ، يُسارُع بالداء:

"لعنةُ الله على الشيطان"!

خسىء هذا التقيُّ! وخابَ هذا البَرُّ أن يلعنَ الا نفسَه،

يا سيّدي الشيطانَ الجليل!

آهِ! يا سيّدي! وآهِ! يا حبيبي!

كم أنا بك جدُّ فخور!

وكم أنا بكَ جدُّ مُعجب!

وكم أُعلنُ، على رؤوسِ الأشهاد:

أنَّ سبيلي في هذه الحياة السخفية هو أن أتقربَ اليك،

وأتلقّى دروسَ الطهرِ والنقاء، والصراحةِ والصفاء،

على يديك.

ويا سيّدَ العارفين،

أنا لا أُريدُ أَن أُجِلَّكَ عن ارتكابِ الشرور،

فأنت شريرٌ ابنُ شرّير.

لكن، نحنُ معاشرَ (الإنس)

أَشدُّ شرًّا منك،

بل إنَّ شروركَ لتتلاشى أمام شرورنا!

يا أيّها الصريحُ المتواضعُ الذي لا يُنكرُ بأنه:

وغدٌ زنيم، مجرمٌ أثيم، أفَّاكٌ لئيم!

أمّا نحن، فواحدُنا لو اقترفَ شرَّ الشرور،

وعاد إلى نفسه يُحاسبُها عمّا اقترفَتْ،

لأخذ يُقنعها بأنّه (ملاكٌ) في ثوب(إنسان)،

و(إنسانٌ) في روحِ (ملاك)!

ما أبعد الفرق بيننا وبينك، يا سيّدي!

بل ما أوسعَ صدرَكَ! وما أكثر حِلْمك!

وما أنقى سريرتكَ! وما أعظم حكمتَك! وما أعظمَ ولاءَك!

ويا لَليوم الذي تكون فيه (نهايةُ) كلّ (حيّ)،

حين أتوسَّلُ إليَ أن تضعَني إلى يمينك،

لأسخرَ بملايين البشر الموضوعين إلى يسارك!

إذ ستنقشعُ، حينذاك، (الغمامةُ)، وينهتكُ الحجاب، فيعرفُ كلٌّ منهم إنّما كان هو الشيطان،

كان هو الشيطان!

وكنتَ أنت الملاك!

                                                القدس، 16 تشرين الثاني 1936