info@daheshism.com
عظمة النبي الحبيب وقربه للروح والحقيقة الالهية ومكانته الحقيقية رغم تواضعه:

 

توطئةُ الكتاب

 

لا يعرف لذّة الحياة من لم يسحق الألم العميق المُشبع...

ولا يعرف أسرار الوجود من لم تتكأكأ عليه حادثات الزمن فتصهره بنيرانها المُحرقة المُذيبة، فينضج بعد ذاك في بوتقة الحياة من اختبارات الزمن القاسي، ولا يعرف معنى السعادة من لم ينزف دموعه الهاطلة الصادرة من قلبٍ كليمٍ ذاوٍ من شقاءِ الأيام الطويلة وحادثاتها التي تألبت عليه!...

 وسعيد من صافاه الدهر بعد تحالفه عليه، إذ عند ذاك فقط.

يشعر بلذّة الحياة... ويتذُّوق حلوها السائغ بعد مرارتها المُميتة...

وعندما لا يبقى للنفس طاقة على احتمال أوجاع الأيام، وويلاتها المُتزايدة، وبعدما تبلغ الروح التراق، تطلب بعد ذلك، الموت، وتستطيب لقاءه دون أي وجل... وبرغبةٍ صادقةٍ جامحةٍ لا يعترضها أي مُعترض1، ولا يقف أمامها حائل، فتصقل الأيام بعد ذلك العذاب المُحصن، ذلك المتألم... وتعلَّمه أسرار الحياة، وغايتها الخفية المجهولة...

ولو بكى أي من بني البشر كما بكيت... وبلا ما بلوت، وقاسى مثل ما قاسيت لغفر له الله أكبر الخطايا... نعم، أن الله ليغفر له أي أمرأته لو تألم تلك الآلام التي تألمتها نفسى المُنسحقه، التي لم تعرف من السعادة غير اسمها!...

في ظلام الليل الحالك، كنت أنتحب ولا أحد يعلم بي... أرقب من وراء ستار حادثات الزمن علَّها تُنيلني ما أطمح إليه، ولكن دون جدوى. إذ شاءت الأقدار لي ذلك، ولا مرد لحكم القدر القاسي الذي لا تلين لـه قناة... وكانت تلك الحكمة المُعزية التي نطق بها الشاعر الفرنسي الشهير، (الفرد دة موسيه) ترو عن نفسي بعض الشيء، إذ قال: لا يحسب المرء في عداد الأحياء الا إذا تألم... وبدون ألم فهو ميت!

ولكن يا شاعري الفرد، أن الحقيقة الواقعة، الماديَّة، الملموسة، مُؤلمة للنفس والروح أن طالت، وليتها لا تطول...

إن جسمي أضعف من أن يحتمل صدمات الحياة العنيفة التي هدمت كياني، وكادت تقضي عليَّ...

قال لي أحد أصدقائي المُخلصين: إنك حادُّ المزاج لدرجة متناهية، ولم أرَ من يفوقك في عصبيتك وحدة أخلاقك، وكان قوله هذا إلى حد ما جرحت أحساس أحد الأشخاص بقارص كلام وجّهة إليه...

وهذه حقيقة اعترف بها، فأنا كما قال صديقي! ولكني أدافع عن نفسي بقولي: إن كل نفس دقيقة الحساسية، تسرع بالتفوه بالفاظ تمسُّ بها المحادث قبل أن يمسُّها، وهذه ظاهرة يعرفها كل من له المام بعلم النفس وقد حكم عليَّ القدر الساخر بآلام نفسية شديدة الوطأة على نفسي فحطَّمها ورزحت تحت أثقالها التي لا طاقة لي بها، لقسوتها المُتناهية عليَّ...

بالآلام نفسي، أكتب الآن، هذه السطور.

وبتأثري البالغ، أخطُّ ما أخطّه...

وبحزني الشديد المُتزايد، أشرح ما أريد شرحه...

وبدموع عينيَّ الفياضتين أغمس ريشتي هذه،

وبخفقات قلبي الهائم، أعبّر عما يجيد في نفسي من آلام وآمال...

هذا ما يشعر به احساسي، وهذا ما أستطيع أن أقوم به، وليس من يكتب للهو، كمن يكتب للحقيقة، مصورًا لأمة وما تكنهُ نفس من الرغائب والميول...

إن قلبي يخفق بالحب للجمال، ومن أدرك سر الجمال، فإنه قد خطأ خطوات واسعة في فهم أسرار الأزل والخلود...

ومن كان بعيدًا عن حب الجمال، فإنه لا يفقه معنى الحياة. ولا النهاية المجهولة فالحب يفتح مصراع ما أُغلق فهمه على بني البشر نعم، هو الحب لا غير!

أما الرؤيا الغريبة هذه التي كتبتها، فلم تكن الا صورة لحالات وتغيرات طرأت عليَّ، تبعًا لحوادث معينة، من مُفرحة ومُحزنة، ومُؤلمة ومُغضبة، ومُكتئبة ومُبكية، وهادئة وسعيدة، وغيرها من شتى الميول البشرية التي تحدث مع العموم، وفي كل آن!

لقد كتبتها وأنا تحت سلطان قوّة قادرة قاهرة، غير منظورة، إو كانت توحى إلى ما أسطره، فأصوّر ما يمكن في أعماق أعماق نفسي من آلام مرزحة مُضنية، وأفراح مُبهجة سارة، وشكوى قاسية مريرة، وأتراح مكئبة مُبكية، وغيرها...

فجاءت بعد ذلك مسكوبة في قلب طبيعي، لأزخرف به. ولا تكلف فيه! وأيم الحق، لم أمسك قلمي لا دفعة لسيدي كي تخطَّ ما تخطُّ دون فكر وتروٍ ولكني شعرت بنداءٍ خفيّ، يدعوني لخوض هذا العباب، فأصخت لذلك الهمس الخفيّ، وشعرت بدافع قهري غريب غير منظور، يحرك يدي للكتابة، فاندفعت الأفكار الى مُخيلتي، مؤلفة كلماتٍ مرتبة، سطرتها يد الألهام، فجاءت مُتابعة، مُتناسقة، مُتكاملة، ذات معانٍ سامية، ترمز إليها، وتخيلات واسعة، تسبح الأرواح فيها فتسرُّ...

إن لمس تلك الأنامل السحرية التي شعرت بها عندما كتبت هذه السطوُر، لا تزال تؤثر في نفسي، وتثير استغرابي، فتخفق روحي في داخلي مُضطربة مُهتاجة!...

أوّاه، يا عرائس الخيال الغير منظورة! ليتني أعيش معكنَّ، فأتذوق السعادة حتى الثمالة، ولكن أنّى لي ذلك، وأنا لا أزال أرزح تحت أثقال جسمي المادي...

إن تلك الفتاة التي أوحت إليَّ أن أكتب هذه الرؤيا، لهي أجمل في نظري من حوار الجنان، وربات الحسن والدلال، وابتسامتها أجمل من ابتسامة الملائكة...

وعيناها تفوقان جمالاً، عيني المهى،

وصوتها الموسيقيّ أطرب إلى أذني من خرير الأنهر الكوثرية...

أُغمض عينيَّ فأراها ماثلة أمامي، وهي تنظر إليَّ بعينين ناعستين، مُكحولتين، ذابلتين، مُنشدة أيّاي نشيد (الحبُ والهوى) لابن نشيد الشباب المُضطرم المُستعر، وأبقى هكذا، مُتخيلاً طيفها القريب أمامي بعين الخيال، والبعيد لدى الحقيقة الواقعة، إلى أن أراها وقد احتاطتها حوارى الغاب وعرائس المروج، واذ بها تفوقهن حسنًا وجمالاً...

فيرقصن أمامي جذلات، مراحات، فرحات، ضاحكات، هازجات، ويغنّين لي أغاني ما سمعت بها أذن سوى آذان الآلهة العظام...

وفي تلك اللحظة فقط، أسبح مع فتيات الآلهة إلى ما وراء الهيولى، فترى روحي كل شيء، وتعرف أسرار الأزل والنهاية، ومعنى الحب والبغض، والموت والحياة، وما هو الخلود، فترتعشنَّ نفسي أجلالاً وهيبة، من رهبة الأبد الخفيّ، وأطلب منهن اعادتي، فيحملنني مُجتمعات حتى يوصلنني إلى الأرض التي كنت عليها...

ولا يلبسنَّ طويلاً حتى يودعننى بعدما تطبع كل منهنَّ قبلة على شفتي، ويحلٌّن الى ما وراء الغيوم المتلبدة، فاحترق بنيران حبَّهنَّ المُذيب، وافتح عينيَّ فإذا بي وحيد فريد، ولا مؤنس لي غير الوحشة القاتلة، فأطلب  من الله أن ينهي حياتي المؤلمة هذه، ويجمعني بمن تملك هواها فؤادي، وطغى حبها عليَّ، فاغرقني ولا منقذ لي سواها!...

نعم، ليست هذه الرؤيا التخيليَّة التي كتبتها، الاّ من موحيات خيالي...

إنها تغاريد البلابل، وهديل الحمائم، ونواح اليمائم،

إنها أغاني الصباح البهيّ، وأناشيد المساء اللازوردي،

إنها حياة الطبيعة في يوم ربيع زاهٍ، فتوج بالزنابق والرياحين،

إنها الندى المُتساقط على النراجس المنتشرة في المروج،

إنها النسيم المداعب شعور الصبايا الخفرات،

إنها أغنية العاشق المعشوقة الحسناء،

إنها دروس الليالي والزمن،

إنها وليدة الدهور والأجيال،

إنها نشيد لا تملُّه الأسماع،

إنها لحن الطبيعة وسرُّها الخفيّ،

إنها قيثارةٌ لا يعزف عليها سوى العشاق،

إنها سرّ لا يعرفه إلاّ القليلون!

إنها ذكرى لي يعد اجتيازي سن الشباب،

إنها عزائي بعد أن يكلّل هامتي المشيب،

إنها نفثات شاب حزين،

إنها تُظهر خفايا نفسي وكوامِنها،

إنها تصوّر الآلام التي قاسيتها بسببها، ولا أزال،

إنها تصوّر ابتساماتي ودموعي، وأحزاني وسروري،

إنها كحوارى الجنان التي لم تقع عليها سوى أعين الآلهة!

إنها جنةُ آمالي التي أرتفع بين أزهارها التي لا يصيبها الذبول...

إنها تصوِّر فيَّ شتى العواطف والميول!

إنها من وحي فتاتي (ديانا) المعبودة مُنافسة (أفروديت) ربَّة الجمال

إنها كتاب "ضجعة الموت" أو "بين أحضان الأبدية!!....

                                                                   الدكتوب داهش.

 

 

 

لا يكون حزن الخياليّ شديدًا بالغًا أشده إلا إذا وقع كتابة الذي أفرغ فيه عصارة دماغه واستوحى عرائس خياله في سكون الليالي والناس ينام في يد رجل ماديٍ  ضيق الفكر... لا خيال له، ولا يفهم معنى تلك القطع التي يمرُّ بها مرورًا، ولا يطرب لما تحويه من معانٍ سامية، وتحليقٍ علويّ.

                                                                                      المؤلف

 

 

القسم الأول

-1-

كان مضطجعًا في صندوقٍ حالك، مُرعب، مُخيف، ولم يكن عين تذرف عليه دمعة وداع أخيرة.

والصدفة قادت عابرًا، إلى تلك الناحية النائية المهجورة.

فانحنى، وتفرس بما في الصندوق. فرأى فتى ناحلاً.

وقد جسم شبح الموت فوقه.

فغادرت منه العينان، واصفرت الوجنتان، ورمق من الحياة لم يفارقه، إذ ما زال في عراك مع قوة الموت القاهر.

 

-2-

فتح الشاب النحيل المُحتضر عينيه لي،

وبصوت خافت قال:

جزاك الله عنى، أيها المجهول الحاضر، خير الجزاء.

اقسم لي أنك مُبلَّغِ ما أريد، لمن أريد.

فأجبته ناظرًا إليه بحسرة وأسى:

لك مني ما تريد.

 

-3-

جلس الشاب وقد جالت دمعتان تألقًا في محجريه،

ثم قال: إنك ترى بأنني وحيد فريد.

وحيدًا أتيت هذا العالم.

ووحيدًا سأغادره، كما أتيته.

فقد شعرت اليوم بسلطان الموت القاسي،

يدنو مني برهبته وجبروته،

فخضعت لما يريده مني،

وبدافع من نفسي، رقدت في صندوقي!

فلقد صنعته بيدي منذ زمن طويل.

وها قد أتت ساعته... كما ترى الآن.

-4-

لم يحن علىَّ أحد من بني البشر،

ولم يفارقني العناء،

والشقاء بقى ملازمًا لي،

ليت أحدًا كائنًا من كان، حنَّا عليَّ،

كما حنَّا صندوقي على جثماني، فاحتواني.

 

 

 

-5-

بربِّك أيها الغريب المُرسل لي من العناية في دقائقي الأخيرة،

اذعْ رسالتي هذه على الملأ،

حدث خلاّني وأخواني عند التقائك بهم، كيف قضيت،

حدثهم عن آلامي وأحلامي التي افضيت لك بها منفردين،

حدثهم عن قصتي المُحزنة المُؤلمة،

وكيفية التقائك بي في منزلي المهجور،

حدثهم كيف لقيت الموت بأسماله،

بينما الألم كان ينهشني، والحزن يُضنيني،

حدثهم كيف كانت الصفرة تعلو وجنتي الذابليتين،

حدثهم أن الشمس كانت مُصفرة أيضًا، لجنوحها نحو الغروب،

حدثهم عن العراك الذي شاهدته ينشب بيني وبين الموت،

وأخبرهم، كيف غلبت في النهاية على أمرئ من تكرار هجماته،

فلم البثَ أن شعرت بظلماته المُتكاثفة تكشف صبح حياتي فتوارني،

 

-6-

ولكن شيئًا واحدًا لم يستطع الموت بعسفه, وجبروته،

أن يزيله من طريق مُخيلتي،

الأ وهو مصر، مصر الحبيبة،

اذ بها كل آمالي المُتوارية...

هناك تقطن، معبودتي الجميلة،

 

                                      القسم الثاني

-7-

قل لمن كانت السبب في وجودي على أرض الشقاء أن لا تحزن،

قال لها أن شقيقاتي سيكنَّ لها عنّى خير عزاء،

قل لها أني كنت حيًا ميتًا، عندما كانت في الحياة،

قل لها أنه مسرور بمغادرته دار الفناء، إلى دار البقاء،

قل لها أنه يطمح منذ الطفولة إلى أمر لا يُدرك كنه ولا يُعلم مكانه،

قل لها إنه كان يراه بعين يقظته وحتى ما بعد منامه، بأحلامه،

قل لها إن كان غريبًا عن هذا العالم الموبوء، دار الشقاء،

قل لها إن أمرًا واحدًا، أبقاه حيًا طوال تلك الأيام، والأعوام،

 

 

-8-

الا وهو إمكان تحقيق رؤية مصر يومًا.

مصر اللطيفة، إذ بها تعيش حوريته الفتيَّة،

 

 

 

-9-

أخبر من حكم عليها القدر بأن تكون أختًا لي أن لا تذرف دموعها حزنًا عليّ،

أخبرها أن لا تعول عند ما ترى رفاقي الذين طالما رأتهم معي عائدين،

وهم بدوني سائرون،

أخبرها بأني لا أريد حزنها، وحسرتها، تذويانها، أيها الغريب،

أخبرها بأن أخاها قَستْ عليه الأقدار، وكان فريسة الأحزان،

أخبرها بأنه لا يريد لها ذلك، وان أرادت لنفسها غير ذلك،

أخبرها أيضًا بأن لا تؤمن بالزمن، فإنه غادر، ماكر،

وأخبرها بأن لا تأتمن أيًا من بني البشر، اذ أن أصدقهم هو الخائن،

 

 

 

-10-

وأخبرها  بأنني كنت جدَّ هائم، بمصر، مصر العزيزة،

اذ بها تقيم فتاتي، ذات الدلال والحسن الكامل،

- بربِّك أخبرها بكل ذلك ولا تنسَ،