info@daheshism.com
إفتتاحيَّة صوت داهش السنة الرابعة، العدد الرابع آذار 1999

 

صوت داهش

السنة الرابعة، العدد الرابع آذار 1999

 

بالعقل المبدع والنزعات السامية

بنی الحضارات الراقية

 

منذ ألفي سنة تجسَّدت كلمة الله، فكانت الثورة النبيلة البيضاء المبنية على النزعات السامية والعقل المُبدع المتحرّر من خرافات العهود السابقة وأوهامها كما من قيود الطقوس الدينيَّة الميِّتة وحرفيَّة النصوص المقدَّسة.

وبعد حوالى ثلاثة قرون تنقلب المسيحية من رسالة روحيَّة مُضطهدة إلى مؤسسة دنيويَّة مُضطهدة، ويأخذ الظلامُ يغشي عقول المسيحيين تدريجياً. . . وإذا بعصور الظلام تسود العالم المسيحي ألف سنة؛ لأن تجريد العقل من دوره في عملية الارتقاء الروحيّ من أجل صيانة الشعائر الدينية وحرفيَّة النصوص المقدَّسة يماثل محاولة التحليق صوب الشمس بأجنحة شمعية. إنها أسطورة إيكار تمثَّلت في حضارة أخفقت في ارتقائهـا. (أنظر أهمية العقل في الرقي الروحي بمفهوم مؤسّس الداهشيَّة، ص 5).

هذا كان في الغرب. أما في الشرق فقد أرسلت العناية الإلهيَّة النبي العربي الكريم، في القرن السابع، ليعيد الكرامة إلى عقل الإنسان والشرف إلى عواطفه واتجاهاته؛ لكن لم يطل الزمان حتى عاد العقل المُستنير فاصطدم بالشعائر الدينية الجامدة وحرفيَّة النصوص المقدَّسة.

 

غير أن الشرق العربي، قبل أن يدخل عصوره المُظلمة، زوَّد أوروبا اللاتينية بأفضل ما أبدعه العقل اليوناني في العلم والفلسفة، وزاد عليه ما أبدعته عبقرية الخوارزمي (ت 849 ) وابن سینا ( ۹۸۰- ۱۰۳۷ ) و ابن رشد ( ۱۱۲۹ ۱۹۹۸ ) وسواهم من الأفذاذ الذين ظلَّت جذوة العقل فيهم متوهجة .

في تلك الأثناء بلغ فيها العقل العربيّ الإسلاميّ ذروةَ عطائه، كان العقل الأوروبي قد بدأ يتململ في قيوده، ليتحرَّر ويتجاوز حظر السلطة الدينية متطلِّعا إلى مفكري اليونان وأدبائها من جهة، وإلى ما أبدعته الحضارة العربية الإسلامية من جهة أخرى. فإذا بدانتي ( ۱۲۹۵- ۱۳۲۱ ) يُبدع الكوميديا الإلهيَّة، وبترارك )۱۳۷۶-۱۳۰۶( يبتكر قصائده الغنائية، وبو كاتشیو )۱۳۱۳-۱۳۷۵( ينشئ قصص الديكاميرون، وجيوتو يعيد للإنسان هويته الحقيقيَّة في رسومه ومنحوتاته. ولا تمضي بضعة عقود حتى تكون العودة إلى أفلاطون، فيجسِّد میکال آنج ( 1475- 1564 ) في رسـومه ومنحوتاتـه مفاهيمه أجمل تجسيد، وتظهر الحركة الإصلاحية البروتستانتيَّة، ويبدأ عصر النهضة في أوروبا، ويكون عناق بين المسيح وسـقراط عبر أفلاطون، وبين المسيحية والكلاسيكية اليونانية الرومانية. وإذا الحكام يبحثون عن المُثل العليا في السياسة لا عند توما الأكويني في الخلاصة اللاهوتيَّة“، بل عند أفلاطون في الجمهورية". (أنظر أثر التراث الكلاسيكي في الحضارة الأوروبية ص ۱۹ ، وطابع المصادر الإسلامية في

الكوميديا الإلهية ، ص 4 ، من القسم الإنكليزي(

خلاصة القول يستحيل على أية حضارة أن ترتقي إلا بجناحي العقل المُبدع والنزعات السامية؛ هذا إذا تهيَّأ عزم الإرادة لأهلها. فأين الشعوب العربية اليوم من هذا الارتقاء والعالم على مشارف الألف الثالثة؟ *

 

غازي براکُس