info@daheshism.com
إفتتاحيَّة صوت داهش السنة الثامنة، العدد الأول، صيف 2003

 

صوت داهش

السنة الثامنة، العدد الأول، صيف 2003

دور العباقرة في نهضةِ الحضارة

 

قيمة الحضارة ، في أي مجتمع، تكمن في مقوّماتها الثقافيَّة , وليست العناصر الدينيَّة الخُلقيَّة الراقية هي التي يُعتدُّ  بها فحسب، بل أيضا القوى الإبداعيَّة في الفلسفة والعلم والأدب والفنّ. فإذا فُقِدَ  من هذه الأركان أو ضعف واحد، دَاخَلَ الحضارة بعضُ وهَن، فكيف إذا تداعت مُعظم ألأركان! هذا ما أصاب أوروبا في عصور الظلام التي دامت حوالى عشرة قرون، وما أصاب العرب منذ سقوط بغداد عام 1258 . هذه الظاهرة أكَّدها مجرى التاريخ العالميّ، والداهشيَّة تزيدها إضاءة بكشفها عن أن المواهب الإبداعيَّة الكبيرة (العبقريَّات) هي سيَّالاتٌ روحيَّة ( طاقاتٌ إدراكيَّة نزوعيَّة ) راقية  قد، يهبط بعضها من عوالم فردوسية لدعم تعالیم الأنبياء والرُّسل فيما يؤول إلى تنمية الحضارة الإنسانية. بيدَ أنَّ العباقرة قد يهبطون دون مستواهم الروحيّ الأصلي من جرَّاء عدم التزامهم لمسؤوليَّاتهم إن هم تنازلوا عن الدور الذي عليهم أن يؤدُّوه من أجل تعزيز روح الحضارة، فنشروا الرذيلة بدل الفضيلة، وتقاعسوا عن نصرة المظلومين والضعفاء، ونكصوا عن الكفاح من أجل الحرية والعدالة وسائر حقوق الإنسان، مُكتفين بإشباع غرورهم وحبّهم للشهرة ورغباتهم الدنيويَّة (أنظر مقال رئيس التحرير، ص 9 ).

 

والعامل العلميُّ في الحضارة يزداد خطورة في أيَّامنا، خصوصاً لأن الأواصر بينه وبين التفوّق الحربي تزداد وثوقاً. حتى في معظم الحقب الماضية غالباً ما كان الأكثر تطوراً في التكنولوجيا الحربيَّة والخطط العسكرية هو المنتصر . هذه الحقيقة التاريخية تجمع الأخذ بالتطوُّر التكنولوجي ضرورة في الشعوب الضعيفة الراغبة في القوّة (الأستاذ الأعرجي، ص ۲۱ ). وليست التكنولوجيا العسكرية هي وحدها المهمَّة في التفوُّق الحضاريّ، بل جميع أنواع التكنولوجيا؛ ومن أجلها، في أيامنا هذه، ما يعود إلى الأتصالات المعلوماتية بواسطة الإنترنيت. وقد سلّط د. حويلي الضوء على الإنجازات الأخيرة فيها على صعيد التعليم الجامعي، وخاصَّة في الولايات المتَّحدة (ص 44 ). لكن يستحيل أن تقوم نهضة إبداعيَّة في العالم العربي ما لم تؤمَّن فيه حرية الاعتقاد والرأي والتعبير والنقد الموضوعي البنَّاء، وما لم تستتبَّ فيه الديمقراطية. وإذ ذاك يمكن معالجة المعضلات باتِّخاذ رؤية علميَّة شاملة مُتكاملة (د. الزاوية في ناشف، ص ۳۰ ). زِدْ إلى ذلك أن المرأة حجر الزاوية في كل نهضة. فكيف يمكن النهوض بمُجتمعات ما تزالُ المرأة في كثير من أوساطها جاهلة، مهضومة الحقوق. ذلك مع العلم بأن العرب لا يفتقرون إلى مُصلحين اجتماعيين يدعون إلى تحرير المرأة ( د. الكك، ص ۳۸).

وفي خطِّ الدراسات الحضاريَّة نفسها قدّم د. سالم دراسة عن تأثير الفينيقيين الحضاريّ في فنون أوروبا كما في تصوُّر آلهتها وبناء مفرداتها اللغويَّة (ق. إنكليزي، ص ۱۰ ). كذلك قدَّم د. عتمان دراسة في نموذج قديم من العولمة الثقافية جعلَ محوره صقلية ودورها الناجح في تكوين مزيجٍ ثقافيٍّ عربيٍّ أوروبيّ، ولا سيَّما من خلال حركة الترجمة في القرن الثاني عشر (ق. إنكليزي، ص 6 ). كما شارك د. التكروري بمقالٍ عن فضل العالم السوري، ابن النفيس، في اكتشاف الدورة التنمويَّة الرئويَّة ق. إنكليزي، ص ۱۹ ). ذلك مع مقالات أخرى للدكتورین عطية وكاكيا (ص 49 و ۷۸ ) ( وللمستشار لطفي ص ۷4).

 

أخيراً، يُصادف صدور هذا العدد مطلع حزيران، ذكرى ميلاد مؤسس الداهشيَّة الثالثة والتسعين. وبهذه المناسبة نُدرج قصيدة عصماء بمناسبة الذكرى بقلم الشاعر ياسر بدر الدين (ص ۷۱ ) مع قطعتين تأمليتين من شعر الدكتور داهش المنثور وقصّة قصيرة مُقتبسة من تراثه الأدبيّ، والقصَّة تفيضُ بالعبر والعبرات مُظهِرةً ما يخبئه القدر للإنسان من مفاجآت كثيرة مُثيرة (ص ۵-۸ وص 53 ).

 

وإذْ تحملُ هذه المجلَّة رسالة داهش النقيَّة الجريئة، وتسعى إلى تحقيق بعض أهدافه الإنسانيَّة النبيلة، لا يسعنا إلا الإقرار بفضله الجمِّ على إنارة الطريق التي نسلكها، وعلى تزويد القائمين على هذه المجلَّة بالزخم الإيمانيّ والثبات لمتابعة المسير، على الصعوبات الجمَّة المُعترضة. وستبقى غايتنا الأولى الإسهام في بناء نهضة حضاريَّة إنسانيَّة عادلة. وأنا نشكر جميع الذين مدُّوا هذه المجلَّة بمقالاتهم المُفيدة وجميع الذين ساندوها.*

 

هيئة التحرير