info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى "قيثارة أورفيوس"

قيثارة أورفيوس

 

                روحٌ تُذيبها الآلام

سأحمل القيثارَ ... وأعزف عليه قصائد آلامي وأنّات أنغامي

وسأوقّع قصة صباي وصبابتي التي بعثرت ألحانها أيدي الدّهور

وستردّد الغابات صدى ترجيع نغماتي فتحسّ بها القلوب والصّدور

وسأبقى... حتّى يشملُ الظّلام الكون وتنير النّجوم قبّة الفضاء

وستحوم حولي طيور الليل ، وتصغي لأناشيدي ملائكة السّماء

وإذ ذاك ... تنوح عليّ عناصر الأرض حُزنا على آمالي وآلامي

                                                                                           داهش

                                                                            ( من كتاب بروق وروعود )

 

مقدمة

بقلم المحامي فارس زعتر

بين  يديك قيثارة شعر ، بل دنُ خمرْ ! لكنّ كرمته لم تنبت في تربة الأرض ، وإن لوّحتها شمس الحياة وأنضجتها ، وقطفتها أيدي التجاريب والمآسي وعصّرتها ، ثم كالدماء من الجراح استقطرتها ! وهو دنٌ سكبت فيه ستّ عشرة كأسا اختلفت عصاراتها ، وتعددت مذاقاتها ، ولكن تأثيرها في النفس واحد : نشوة تهدهدك ، وجناح يشيل بك من أرض البشاعة الى فراديس الجمال.

ولا يأخذنّك العجب إذا رافقك ، في رحلتك عبر خمائل الكتاب ، لحنٌ حييٌ شجيّ ، لا يبارحه الحزن حتى في مواسم الأفراح ! ذلك بأنّ صاحب هذا السِفر فَتَحَ الله في نفسه بصيرةً روحيةً عجيبة لا يخفى عليها شيء ، ولا يخدعها شيء ؛ فكل ما في الحياة ، وما في الطبيعة ، يبصره على حقيقته ، بدون بهارج ولا زبارج ؛ ولأنّه يبصره عارياً ، فهو يراه قبيحاً ، وحقيراً ، وتافهاً .

موقفه هذا لازمه في فصول حياته جميعها : في ربيعه وصيفه ، كما في خريفه وشتائه ؛ إذ إنّ كلّ كائن ينجذب ويرتاح الى شبهه ؛ ومؤسِّس الداهشية ليس له من شبهٍ في هذه الأرض ، فمعدنه ليس من التراب الملوث ، وموطنه ليس في العالم الموبوء؛ ولذا يمضُه الشعور بالغربة العظمى ، وبآلام سجنه الترابيّ ، ويلهبه حنين حادٌ للعودة الى عالمه الروحي الخالد .

يعاني من المرأة، لأنه يمحضها عطفه وحبّه ، فلا تبادله إلا الخيانة والجفاء ، ويقاسي من الأصدقاء، لأنّه إختبرهم فوجدهم غير أوفياء . يتألم من رجال الدنيا ، لأنه لا يراهم متعلقين إلا بكل قيمة دنيا ، ويتألم من رجال الدين ، لأنه يجدهم مُرائين مُماذقين ؛ يتألم من أحكام القدر يخطف من بين يديه أحبّاءه ؛ ويتألم من أحكام البشر  ، يضطهده طُغاتهم ويسومونه أدهى أصناف العذاب ؛ يُكابد آلاماً نفسيةً وأوجاعاً جسدية ، فيصعِد ، تارةً ، الآهات والزفرات الى مُبدع الكائنات حتى يعجِّل بفكِ إساره من القفص الصّلصالي :

" أختاه !

إني طالبٌ الموتَ ، يا أختاه ، عساه يرأف بي ثم يرقُ لحالي " .

ويفجِر ، طوراً ، صواعق غضبه العلويّ على رؤوس الأشرار والفجّار :

" سأعود إليكم ، يا أرانب السوء ، وسنلتقي قريباً بالديار وسأنكِل بكم ، سأقتلكم ، سأجدع أنوفكم ، ثم أعود فألقيكم بالقار " .

 

والشعر الذي سيتنزّل عليك وأنت ترود رياض هذا الكتاب هو شعرٌ صادق أصيل ، منظوماً كان أم منثوراً . ذلك بأنَ روح الشعر لا يصفو إلا متى تحولت رؤية الشاعر فيه الى رؤيا ، وحسُه الى حدس وقَّاد ، ودماؤه الى مداد .

ورؤيا الدكتور داهش هي رؤيا حقيقية يتكشف فيها جوهر الأشياء ، وجوهر الحياة ، وجوهر الانسان لتتَحد اتحاداً كيانياً . فالواقع والخيال ، عنده ، واحد ؛ والرمز والحقيقة واحد . فاذا كنت لا تعرف كنهه وقوام عقيدته ، فإنك لن تفهمه حقّ الفهم ، ولن تتمكن من تذوق كوثره والتمتع بجوهره ، وستلتبس السُّبل عليك ، فتضيع في متاهة . ولكن ما إن تدركه على وجهه الصحيح ، حتى تفتح لك أبواب هيكله، فتدخله خاشع القلب ، مدهوش اللبّ ، لِما يمطرك به من عجائب الجمال ، وكنوز الحكمة ، تلك التي ليس بوسع امرىء ، في هذا العصر ، أن يسقط الحجاب عنها إلا داهش الناس وحده ، لأنّ القدرة التي تخرق القوانين الطبيعية على يديه هي نفسها التي تملي بدائعها عليه . فما يقيّدك لا يقيّده ، وما يخضعك لا يخضعه، إذ إنه بنعمة القوة العلوية التي تحييه ، يحطم قيود المكان والزمان ، ويتهادى فوق هامات الأزمان . ولذا لا ترع إذا سمعته يتكلم بسلطة لا يملك بشريٌّ أن يتكلم بها ، لأنّ السلطان الذي زوّدته به القوة الإلهيَّة المُوجدة والعقل الكونيّ المُدبر هو سلطان أزليٌ أبديّ تعنو له الرؤوس ، وتخشع النفوس .

وحيثما التفتّ في مسارح الكتاب ومطارحه ، ستلقى بين صاحبه ومظاهر الطبيعة وعناصرها مشاركةً وجدانيةً صادقةً قائمةً على الإيمان الحقّ بالجوهر الخالد الذي يحيي بالسيّالات الروحية النزّاعة المُدركة جميع الأشياء " جماداتٍ " سمَيتها أم        " أحياء " .

فقارئ أدبه عليه أن يزنه بميزانٍ جديد ، ويلجه بنفسيةٍ جديدةٍ تختلف عمّا يقتضيه أدب الشعراء الآخرين ، مهما كانت قوّة التشخيص والإحياء عندهم عظيمة . فهؤلاء يكون إيمانهم بما يقولونه أو يصفونه سحابة لحظات ، في حين أنّ إيمانه هو بما يقول ويصف ثابتٌ دائمٌ ممتزجٌ بالحياة . معه تتمّ العودة الى حرارة الايمان الميثولوجي أوان كان يحيي شعراء الاغريق وسائر الشعوب القديمة ؛ مع فارق أنّ أولئك كانوا يؤمنون بما فرضته عليهم عاداتهم وأديانهم ، ومؤسس الداهشية يؤمن بما يراه هو من حقائق حيةٍ في الطبيعة ، لأنّ الحُجُب تتساقط أمام عينيه ، والحواجز تنهار عند قدميه .

مع الدكتور داهش نعود الى النبع الأول الذي انبجَسَتْ  منه الآداب العالمية العريقة ، ولكن بصورةٍ أصفى وأنقى وأقرب الى قلبِ الحقيقة ؛ معه نعود الى الينبوع الحيّ الذي إذا أتيح له أن يتفجّر في العالم ، ويستقي منه الأدباء والمنشئون ثم ينسجوا على منواله ، لانبثقت نهضةٌ أدبيةٌ عالميةٌ جديدة تُعيد النَّضارة الى ما شاخ من دوحة الأدب ، وتبعث الحيويّة الطبيعية في أغصانها الفكريّة والخيالية والعاطفية . معه يعود إلى عفوية الصدق صولجانه ، والى جمال البساطة سلطانه ، وكلُ زيفٍ وكذبٍ أقاموه في عالمِ الأدب ، تسقط دولته ويولي زمانه .

ختاماً ، أسائل نفسي : ترى ، والأسطورة حقيقة لعب بها الخيال ، ألا يكون بين مؤسِّس الداهشية وأورفيوس أكثر من صلة ؟ فرّبُ القيثارة العجيبة كان أعظم شاعر أسطوري في اليونان؛ بأنغام قيثارته كان يخضع الضواري ، ويوقف الأنهار عن الجريان ؛ والصخور كانت ، إذا هدهدتها ألحانه تتحرَّك وتتبعه ، والعواصف تستكن ، وأثباج الأمواج تطمئن ، والتنين يغزو النعاس منه الأجفان ! وداهش مدّه الله بقوى روحيَّة تصنع الخوارق والمُعجزات ، وزوّده بقلمٍ مُلهمٍ ، إن تنزّلت السيَّالات العلويّة عليه انقادت له وحوش ميولنا وأذعنت ضواري شهواتنا ، وتحرَّكت صخور قلوبنا ، وعند عرشه النورانيّ توقفت أنهار رغباتنا عن السّريان !

                                          الولايات المتحدة الأمريكية في 18 – 7 – 1983

                                                                                                          فارس زعتر

 

                            الظبية النّافرة

( ظبيةٌ ) بين الظّباءْ              
حسنها في القلب يسري           
سلبت قلبي ولبّي                   
أقبلت تشكو سهاداً                
وتقول : " العطف إنّي            
غير قُربٍ منك يُطفي             
فحنتْ نفسي عليها                
ومضى الوقت علينا              
وقطعنا ، بعد هذا ، ( العهد )    
واستقلّتْ بحبيبٍ                   
وتشاكتْ... وتساقتْ              
إن يكن هذا... فإني               
إذ تعــالت وتناستْ              
فدعيني في شقــاء                واذكري (سوسو) ليالـي        
كم ذهبنا في الصحـتارى        
لا تظني ، يا فتاتـــي ،          
إذ غداً أحتثُّ رحْلـــي            
إنّها تذكر عهــدي               
هي بدرٌ يتهـادى                 
هي شمسٌ تتسامـى !            
ذات صدر مرمـريّ             
ذات قدّ سَمْهـتريٍّ                
أخت (روحي) ، سوف أبقـى   
أيْ وربي !.. سوف أبقى       

 

صوّرتْ كيف تشاءْ !
سريان الكهرباءْ !
ودعتني في بلاءْ !
بحنينٍ وبكاءْ !
لم أطقْ نار الجفاءْ !
ما بقلبي من ظماءْ " !
وأجابتها الدعاءْ !
بسرورٍ وهناءْ !
_  فانجاب الغطاءْ !
في صباحٍ ومساءْ !
معه كاساتِ الصفاءْ !
عن هواها في غناءْ !
( عهد ) حبي والولاءْ !
وعذابٍ وبلاءْ !
ما رآها ، الدهر ، راءْ!
تحت أجواز الفضاءْ !
أنّ لي من ذا عناءْ !
(لحبيبٍ ) ذي وفاءْ !
كلَ صبحٍ ومساءْ !
بدلالٍ في السماءْ !
نورها عمَّ الفضاءْ !
ذي نصوعٍ ونقاءْ !
يتثنى في بهاءْ !
لك خير الأوفياءْ !
ما حـوى ( الجسم ) دمـــــــــــاءْ!         


 

                                                                  القاهرة ، 3 حزيران 1931

 

                                 يا قلب

ويْكَ يا قلبُ !... تناجي الأمَلا   
ويْكَ!... يكفيك فؤادي ألماً       
أنت نهبُ الدهر... يُبكيكَ إذا    
فارقب الموتَ بثغرٍ باسمٍ        
أنت قــد تلقى هنـــــــاءً ... بعــــد أنْ    

 

مُستهاماً بحبيبٍ رَحَلا !
لا تؤمَّلْ بزمانٍ غَفَلا !
ضحك الثّغر لشيءٍ جَذَلا!
ودع الدنيا ... وحيّ الأجَلا !
تنفُـضَ الدنيــــــا وتُرْدي الأمَــــــلا !

 

                                                                              القدس ، 1933

                           أضحوكة الحياة

ما الحياة  غير وهمٍ      
فالدراري سوف تخبو   
وذكاء سوف تفنى        
والليالي ستولّي           
وقصور عامرات        
وشعوب الأرض طرّاً   
وملوك الأرض جمعاً    
ويجول الخوف في       
كل ما فيها قريباً         
يــــــا لـــــه من يـــــــــوم رعــــــبٍ      

 

 باطلٍ سوف يزول !
  بعد وقت لا يطول !
  بعد ذياك الشمول !
  عندما يأتي الأفول !
  سوف تغدو كالطلول !
  دوَلٌ سوف تدول !
  حكمهم سوف يحول !
  هذي البرايا ويصول !
  سوف يعروه الذبول !
  إنّـــــــــــه يـــــــــوم مهــــــــــول !