مقدمة
بين يديَّ طائف من تأملات روحية، تحرَّكتْ بها نفس وخفق بها جنان.
إلى طائفة أُخرى من أحلامِ روحٍ هائمةٍ بالجمال، مفعمةٍ بالحبّ، تأود بها ضمير، واستهام بها وجدان.
إلى صور وصور كانت مباءَة حيواتٍ أفتنَّ بها خيالٌ وتأنقها بيان.
فجاءَت آيةَ فنٍ كما شاءَت تهاويلُ عبقرية الفنَّان،
ورائعةَ أدبٍ أشرقَتْ بسنى إلهام الروح في قلب الإنسان!
****************
مضيت أتلوها وأنا في مثل دغدغات النشوة عند حالم نشوان!
فخِلْتُني أجنحُ في جوِّ أمانٍ عبقرياتٍ حسان!
تألق كلُّ شيءٍ، عنده، في مثل سنى الألماسِ والعقيان،
واحتبكت في فضائه أقواسٌ تمورُ باللمعان،
وانبثقتْ من حِفافه ينابيعُ طهرٍ تغسل ما على الأرض من أدران!
فظللت رانيًا أطلبُ العلاءَ بالقلب، وإن أعلقَتْ دنيا الأرض بالجثمان.
****************
فهذه رسالة أدبِ الصدقِ دونَ ما زورِ أضاليلَ ينطق به أدبُ البهتان.
فإنّ في الأدب الحق قوىً قوىً تنزع من النفس ألوانًا وتجيءُ اليها بألوان،
وتبعث الإنسان بعثًا جديدًا حتى يجيءَ كائنًا حيًا أسمى بين الأفتان والافتنان،
وتتناول المجتمع فتصوغه صوغًا آخر حتى يجيء كائنًا اجتماعيًا أكمل بين الإتقان والإحسان.
فليس إلا (أدب الصدق) خالدًا على لسان الدهور والأزمان.
وهل لغير أدب الخلود قدرةٌ على استبدال ما ينبغي أن يكون في الحياة والأخلاق والفكر بما هو كائن وما قد كان؟
****************
في طبيعة البشري معركة ضاربة عوان،
شبت وما فترت منذ كان الدهر وليدًا إلى أن كاد يخلولق منه الكيان.
تلك معرك الجسم والروح! فالحي منها بين حيرةٍ واطمئنان!
وهو يسير تحت ثلقها مجهودًا لاهثًا، فقد ناءَت منه الأركان،
ومسحتْه الكآبة، وتمشت على وجهه طيوفها، وغارت في محاجره العينان،
وراح يطلب الخلاص من لظى الصراع الدائر بين جوانحه في عنفوان،
فيُغمض عينيه مستسلمًا لليأْس أَوانًا، ويفتحهما في أوان ورسالة (المصلح الحق) تنحصر في أن يجعل من عنيف الصراع تفاعلًا ينضر مادة الجسمان،
فيتجوهر وجودها الترابي كالماس حتى يشع بإشراق الروح مثل الكوكب الفتان،
ويسحق في وجودها وجود ذياك الأُفعوان.
وبذلك يُهيىءُ السبيل ليرجع بالحي وقد طردَ أول عهده من ساحات الجنان.
****************
تلك غاية (الدكتور داهش)، وفي سبيلها يرسل نفثات صدره المنبثق بشعلات الإيمان.
فجاءت أدبًا فوق الأدب بما تميسُ به ميسان حاليات الأفنان!
وجاءت صوفية فريدةً بما فيها من مثاليةِ الضمير الريان!
وبرزتْ في أُلْفتها صورة من نضارٍ تراكب عليه در ومرجان!
****************
ألا سِرْ في طريقك غير عابئءٍ بما يصدونك به من صارمٍ أو مُرّان.
فالناس من هذه (الأرض) في مث مسبح التماسيح والحيتان.
وعسى أن يعود الكون ويبتسمَ ثغرُ الزمان.
والمجد لله في العلاء، وفي الناس المسرة، وعلى الأرض السلام والأمان.
عبد الله العلايلي
بيروت، 19 نوَّار، 1943
عواطف وعواصف
عواطفُ في فؤادي! وعواصفُ في رأْسي!
عواطف... ينبض بها فؤادي، وتشعر بها روحي!
وعواصف... تثور في نفسي، وأشعر بثورتها في قراري!
عواطف... تهزُّ مشاعري، وتغمرني بالرحمة والحب والحنان!
وعواسف... تعصف في أعماقي، فتثير فيَّ الاضطراب ويهتاج منِّي الجنان!
عواطف... رقيقة تتدفَّق في حنايا نفسي الخفية!
وعواصف... تجتاح كياني فتهزُّني هزًّا عنيفًا!
عواطف... سامية تختلج في عروقي فتبعث فيها الطمأْنينة!
وعواصف... عنيفة تصطخب في أعصابي فتسري فيها نيران الجحيم!
عواطف... أُحسُّ بها تكيّفني مثلما تشاءُ وتهوى!
وعواصف... تتلاعب بي ولا لَعِبَ الصبية بالأُكَر!
عواطف... تناغيني، ومن ثم تعود فتناجيني بحنينٍ وحنان!
وعواصف... تهزأُ بهدوئي، وتأْبى إلا أن تعلن عليه الحرب العوان!
عواطف... عامِرة بالسكينة، وراحة النفس، وصفاء الخاطر!
وعواصف... مدمرة تدك الحصون، وتقتلع القلاع الحصينة!
عواطف... ساجية، هنيئة، مغمورة بالدعة واللين!
وعواطف... صارخة بالعنف والاضطراب الرهيبين المرعبين!
عواطف... سماويَّة، قدسيَّة، عذبة، نديَّة!
وعواصف... شيطانية، إبليسية، معذبة، رديَّة!
عواطف... مختلفة، متباينة، يضلُّ فيها الفكر ويفنى الخيال!
وعواصف... هدَّامة، مقوضة أُسُسَ السلام العالمي!
وأنا بينهما كالغريق التائه، وقد شدهتْه الأمواج وهي تدافع بعضها بعضًا. وإذا به صريعُ لججها السحيقة.
فوارحمتاه له!
داهش
بيروت، 1943
كَلمَتي لِعَام 1943
أيُّها العام الجديد! أهلاً بمطلعك!
لقد ذوى سلفُك بعد أن كبل الكون بقيوده الرهيبة،
وخلف وراءه أهرامًا من الأشلاءِ الممزقة المبعثرة!
لقد توارى... وصيحات اليتامى، وأنات الأيامى تخترق أذنيه الرهيبتين!
فقد خلفهم دون أن يأبه بهم، ولم يبق لهم حارسٌ أو معين!
لقد تقلص ظله الرهيب من هذه الربوع؛
أما لعلعة مدافعه المدمرة، ودمدمة رصاصه المخيف، فلا يزالان يهدران بجنون عنيف!
لقد تلاشى (الطاغية)، واللعنات تسير في ركابه آخذ بعضها في رقاب بعض من كل مخلوق وذي حياة!
لقد انطوى وغيَّبه (القدر) في أحضانه المجهولة كي يؤدي الحساب العسير لما ارتكبه من نكبات جهنمية!
والآن!... أنا أُرحّب بمقدمك أيها (العام الجديد)! طالبا من (الله) أن يهقويني في أيامك، ويهديني الرأْيَ السديد؛ راجيًا منه أن يزرع في أعماقي بذور الإيمان الصحيح؛ مناجيًا عزته أن يأخذ بيد كل تائهٍ في صحراءِ هذه الحياة وهو يصيح؛ مبتهلاً إليه أن يعطف على هذه البشرية المتألمة ويؤاسيها؛ ضارعًا بتبتلٍ ان يشفق على آلامها الرهيبة ويحقق لها أمانيها؛ حامدًا إياه على ما أولانيه من نعمٍ روحيةٍ سماوية؛ ساجدًا أمامه لسماحه بظهور بعض آياته وظاهراته القدسية؛ خاشعًا أمام عدالته التي ستجتاح كل ما يعترضها من صعب الأمور؛ واثقًا بأنه سيحطم بمطرقة حقيقته أنصاب العسف والطغيان والجور والفجور؛
شاعرًا بأن (القول الفصل) سيتم بعد وقت لا يطول؛ متأكدًا بأن هذا (الكون) الحقير صائر إلى ركام وطلول! اللهم!! قوني، وثبتني، وأضرم نيران الحماسة في صدري، كي أحمل مشعل الهداية الساطع، وأنير به رحاب هذه العالم المظلم الكئيب، فتعم السعادة في هذا (الكون)، ويفنى الشقاء!
بيروت، 1 -1- 1943
صراخ القُبُور
الويل ثم الويل ثم الويل لنا نحن الموتى المثقلين بالأوزار!
لقد كنا في الحياة الدنيا نبعث ونلهو مع الفساق والفجار!
ونقضي الليل خائضين في اجتناء أزهاره السوداء الداجية!
ومع كل ابنة حواء مستهترة ماكرةٍ فاجرة ناكرة للجميل مداجية!
وعند انبثاق فجر جديد نلعن السماء ونطوف في الأزقة!
لقد كنا وأيم الحق غلطاء، بلداءَ، أشقياء دون ما رقة!
اختلسنا أموال الأرامل والأيام والأطفال البؤساء!
واعتدينا على الضعفاء والفقراء والمساكين التعساء!
والكذب؟! كان يسير في ركابنا أنى سرنا!
وإذا ما أوقعنا بفريستنا الآلام انشرحت نفوسُنا وسُرِرنا!
لله!... لشد ما تهكمنا على تعاليم سيدنا... سيد المجد،
حتى حل علينا القضاءؤُ وضمنا في ثنايا هذا اللحد!
وإذا بالأبالسة تتخاطفنا بقسوة وتعذبنا بعنف وجنون!
نحن ها هنا لا نشعر بعاطفة شفقةٍ من قلب عطوف حنون!
النار المتأججة تحيط بنا ونحن نخوض في محيطها!
والشياطين يتخاطفون إحدى الزانيات ويروح كل بمفرده يسُوطها!
والدموع تفيض من المآقي دون انقطاع دهورًا طويلة!
فيتعالى ضجيجنا الصخاب وكل منا يوالي نحيبه وعويله!
رحماك أيتها السماءُ العادلة!... وكفانا عذاب!
ويا أيها العلي!... أحِلْ برحمتك آلامنا إلى بهجاتٍ عذاب.
بيروت، 20، ك 2، 1943
غضبةٌ مُرَوِعَة
أيها (الفضاء) اللامتناهي! هبني نعمة التحليق في فضائك الشاسع!
ويا أيتها (السماءُ) الصافية!... لله ما أروعك برحابتك الإلهية!
وأنتِ أيتها (الكواكب) السابحة في محيطك المترامي... ما أعجب أسرارك!
وأنتَ أيها (البدر) التائه الحيران!... تخطر في عالمك البهي، وانظر إلى صغائرنا!
وأنتَ (يا أثير)، يا معدنَ الرقة واللطف!... طوف بين السدُم الغريبة!
وجوبي أيتها (الارواح)!... في صعود وهبوط، وتأملي في هذه الأسرار!
ولينظر (جميعكم) إلى عالمنا الوضيع لتروا شد ما هو زخار بالنقائص!
ولتوغل (الملائكة) في الابتعاد عن عالمنا السخفي لأنه بالإثم والجريمة غائص!
ولتبوق (الأرواح) الطاهرة بأبواقها الأزلية منذرةً بواسطتها أبناء الأرض!
وليُفَكَّ عقالُ (ابليس) الطاغية... كي ينشر الهول والذعر في أرجاء المعمور!
ولتخرج (الأبالسة) من جهنمها لتذيق زنادقة البشر طعم الآلام المريرة!
ولتُطلق الحرية (للثعابين) الفتاكة كي تؤدّب كل ذي نسمة وحياة!
وليعم (الخوف) والهول والرعب كل أبناء آدم وبنات حواء!
ولتندلع (نيران) الهاوية... بأشد عنفها وجبروتها!
ولتدك شوامخ الجبال المشمخرة فتنهار!
ولتفض البحار والأوقيانوسات... وجميع الأنهار!
ولتغرب الشمس! وليطوَ الليل!... ولينثر النهار!
ولتذو المروج والغياض!... ولتفن الرياض والأرباص!
وليعم الخراب الشامل هذا الكون الملعون الفاسد، وليُمحقْ!
لأن البشر خاضوا في أوقيانوس إثمهم الشنيع وإفكهم الفظيع!
فالآن!... لم يعدْ في قوس الصبر منزع!
بيروت، مساءَ 21 ك 2، 1943