info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى "روحٌ تغني"

روحٌ تغني

 

يدي المُمزقة الشرايين

 

أيْ يدي المريضة منذ 21 يومًا،

ناشدتكِ الله، يا يدي الممزَّقة الشرايين والمُصابة بالكسر،

لقد كنتِ، قبل هذا الحادث المروع، قوية نشيطة، ذات عزمٍ وحزم،

تهوين بجبروتٍ صارم على هدفكِ فتمزقينه،

وتتبدَّد شظاياه شذر مذر؛

والآن، وهنتْ قوتكِ أيتها القبضة، وتلاشت عزيمتك،

وخارت قواك فأصبحت شلوًا لا نفع منه على الإطلاق؛

تصدمكِ أتفهُ التوافه فيشيع الألمُ بأطرافك،

والأصابع أصبحت كخشب السنديان الذي لا يُلوى،

والشرايين والأعصاب تمزقت لهول السقطة المزلزلة،

وقد حُبِس الدم عن ثلاثة أصابع فلم تعد تشعر حتى بوخز الابر والدبابيس

وفي الليل... يا لليل وأهواله على يدي، إذا اصطدمت بشيءٍ في أثنائه

فعند ذاك يبتعد الكرى عن أجفاني.

وعندما أستيقظ صباحًا،

أجدُ يدي كالخشبة الصلبة لا أستطيع لأصابعها تحريكًا.

والأطباء... يا للتسعة الأطباء الذين عادوني،

فكلٌّ منهم له رأيٌ يختلف عن رأي زميله!

فذاك يقول: بمعصمكَ كسر.

والآخر يُفند قوله بأنه  شعر وليس كسرًا.

والثالث يخالف رأي الاثنين فيقول: لا شعر ولا كسر.

والرابع ينصحني بأن أضع حولها الجفصين،

والمشعلاني يُفتي بعدم وضع الجفصين قطعًا،

والسادس يؤكد أنه يوجد كسر في عظمه الـ (Scaphoide)

التي تدع مفاصل اليد تتحرك.

والسابع يُصرّ على أنه يجب أن تؤخذ لها صورة ثانية بالأشعة.

والثامن يقول: يجب أ، تُجفصن طوال شهرين كاملين.

والتاسع يقول، ويا للهول إذ يقول:

يجب أن تشقّ اليد ويُدخَل في الشريان آلة رفيعة حادة،

لأنّ الدم لا يسري من العرق الرئيسي إلى الأصابع فيُجمدّها.

حقًا، إنها حيرة... وأيّة حيرة...

لتضارُب أقوال الأطبّاء الأذكياء!...

وبين حانا ومانا ضاعت لِحانا.

 

 

زينا

فراشةٌ وحيدة

 

هي فراشةٌ مُذهَّبة، مُنمَّقة، رائعة الفتنة.

عرفتها فعرفت الطهارة،

عرفت الجمال الخالد،

جمال النفس الطهور.

عرفتُها، فتأكد لي وجود ما كنتُ أعتقد بعدم  وجوده،

ألا وهو العفَّة، عفَّة النفس وعفَّة الروح.

هي متواضعةٌ كزهرة البنفسج المُتضوعة،

لطيفةٌ، رقيقةٌ، عذبة،

مُتمسكة  بأهداب الفضيلة والمثُل العليا.

فيا زينا، يا فراشة الفردوس  الخالد،

إنني أغبطكِ وأحيي روحكِ النبيلة،

فأنت  فراشةٌ وحيدةٌ تجوبُ أرجاءَ كرتنا الأرضية،

باحثةً عن فراشةٍ نظيركِ.

ولكن عبثًا بحثكِ وهباء،

لأنكِ أنتِ الفراشة الفردية في ربوع دنيانا الفاسدة.

فحياكِ الله وأبقاكِ،

ثم بواكِ فردوسه الإلهيّ الخالد بمُتعه الإلهيَّة.

 

                                بيروت، تاريخ 25/3/1973

                                        الساعة الخامسة مساءً

 

 

الفاجعة

 

 وتجهم  الجو  وعصفت الرياح،

وومضت السماءُ  ثم أبرقت وأرعدت.

ثم، ثم قصفت بدويٍّ رهيب،

وتساقطت الأمطارُ بغزارة هائلة لا مثيل لها،

فاضطرب البحر، وإذا بالأمواج الثائرة كالجبال تهدر

بعنفوان جبَّار مُرعب.

ورقصت الباخرة التي كانت تمخر الأوقيانوس،

وتأرجحت وكأنها كرة تتقاذفها الأرجل.

واضطرب ركابُ السفينة وهلعت قلوبهم،

وجحظت عيونهم  للهول الساحق والرهبوت الماحق.

وكانت العاصفة تهدرُ بجبروت صارم،

والخوفُ المُرعب جال إذ ذاك وصال،

فسجد الرجالُ وهم يضرعون في ساعة الرعب هذه،

رافعين ضراعتهم إلى العليِّ المُهيمن على كل ما هو معروف ومجهول.

وولولت النسوةُ، وعلت منهن أصوات النحيب والوجيب القاتل،

وأُغمي على الكثيرات منهنّ.

وكان عويلُ الأطفال يبعث الأسى العميق في النفوس.

وفجأةً  دوى في الآفاق اللانهائية صوتٌ مُهيبٌ رهيبٌ قائلاً:

  • لقد طغيتم وارتكبتم الشرور الرهيبة، وما ارتدعتم عنها.

إنكم الآن تحصدون ما زرعتم.

وصمتَ الصوت.

فحدث هدوءٌ هائل لبضع ثوان.

ثم انقضت صاعقةٌ مزمجرة بهديرٍ جبَّار

فدُمَّرت السفينة وبعثرت اشلاءها

مُمزِّقة إياها شذر مذر!

وكان الليلُ الدجوجي يضرب سرادقة المُدلهم على المحيط

فيزدادُ المنظر رهبةً مُرعبة،

لا يمكنُ لقلمٍ أن يصف أهوالها الفاجعة.

وفي صبيحة اليوم الثاني ليوم الهول المشؤوم،

كانت الأجساد طافيةً على صفحة البحر الذي هدأتْ ثائرته،

وكانت الحيتانُ الجائعة تلتهم الأجساد بنهمٍ  عجيبٍ غريب.

فيا لحياة الإنسان التعيسة،

إذ ما يكاد يرى نور هذه الحياة

حتى تضمهُ ظلمةُ القبر  الدجوجية.

فالحياةُ حلمٌ عجيب ولكنه سريعُ الزوال.

فواهًا لآمالِ الإنسان السرابية الترابية!

 

                                بيروت، الساعة السابعة إلا عشر دقائق مساءً

                                                تاريخ 7/4/1973

 

 

مات داهش

 

الطبيعة  مُكفهرَّة،

والسماءُ مُتجهمة،

وجيوشُ الغيوم  تغزو الفضاء الشاسع،

ووجومٌ عظيم يُخيم على ربوع الكرة الأرضية،

والصمتُ احتل أقطار دنيانا التعيسة،

والادلهمام ضرب سرادقه عليها،

والكناريّ صمت عن التغريد،

والفراشة لم تعد تحوم  على الأزهار،

وكفت عن امتصاص رحيقها،

والشلال تلاشى صوتُ إيقاع دويِّه الهادر،

والينابيع جفَّت، والبُحيرات غاضتْ،

والأنهار انشقَّت فابتلعت الأرض مياهها،

ورشأ الغاب يهمي  دمعهُ بصمتٍ أخرس،

واليمائم مع أسراب الحمائم تنوح  على باسق الأدواح،

والأشباح احتلت كُرتنا الأرضية،

والحزن طغى،

والنواح  بغى،

واللوعة  قطنت  الصدور،

والشفاءُ غمر المعمور

لأن داهش قد اخترمته يدُ المنون،

وبموته  انطوى عهدُ الخوارق والمُعجزات.

 

                                الساعة 12 إلا ربعًا قبل الظهر 16/4/1973