info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى " جحيم الذكريات "

" جحيم الذكريات "

                                 

إلى ربة أحلامي

 

ربة الأحلام، عانقيني،

فقد ضاقت روحي ذرعًا بنكبات هذه الحياة التاعسة الخالية الباردة!

ربةَ الأحلام، متِّعيني بحديثكِ العذبِ الجذّاب،

وأنبئيني عمّا يحتويه عالمُكِ البهيُّ الخلاب!

ربّة الأحلام، أطربيني بشدوِكِ المَرِحِ الفتّان،

فقد ملَّت أُذناي عويلَ الأنام، وتشابُهَ الليالي والأعوام!

ربّةَ الأحلام، قَبليني بشفتيكِ الرقيقتين الملتهبتين،

قبل أن يُبلني (الموتُ) بشفتيه الثلجيتين المرعبتين!

ربّة الأحلام، أيقظيني من سُباتي العميق،

فبدونكِ يا (حياتي) لن أُفيق!

ربَّةَ الأحلام، ابعثي فيَّ من (روحكِ) السابحةِ في الفضاء

قَبَسًا وهّاجًا ليُحيي مواتَ آمالي!

 

(ربة الأحلام!.... قبليني بشفتيك الرقيقتين الملتهبتين!)

 

ربةَ الأحلام،

داعبيني، قبل أن تداعبَ روحي المدلهمّة أشباحُ الظلام المهيبة،

وقبل أن تُحيط نفسي (زبانيةُ) الهاوية الرهيبة!

ربّةَ الأحلام،

انظري إلى عينيَّ الذابلتين بعينيكِ المعسولتين النجلاوين،

فأنسى كياني بنظراتِك الشافية لأتعابِ روحي المتألّمة!

ربّة الأحلام، إن روحي لتائهةٌ حَيرى في بحار المجهول،

دائبةٌ تتخبطُ فيه على غير هُدى يَقيها! فأنقذيها.

ربّة الأحلام، لا سلامَ أرجوه في هذه الحياة،

لا، ولا سعادةَ أبغيها!

ربّةَ الأحلام، إن نفسي لَولهى من ويلاتِ القدّرِ العاتية!

فقد حطمَ زهرة عمري، واجتثَّ ربيعَ حياتي.

ربةَ الأحلام، إنَّ (أعماقي) تصيحُ صيحاتِ الأسى القاتل،

تطلبُ مَنْ يمد إليها يد الغوث، ولكن عبثًا!

ربة الأحلام، إن نفسي لولهى من ويلاتِ القدر العاتية!

فقد حطم زهرة عمري، واجتث ربيع حياتي.

ربة الأحلام، قد بتُّ أرزحُ تحت أثقالٍ من الهموم والأحداث الجسام ما لا طاقة لي به… فارحميني، يا عروسي، وأنجديني. ربةَ الأحلام، أنا أنشُدُ عالمكِ السحريَّ الجميل، فإنه يُعزّيني، وينيلُني السعادة التي طالما بحثتُ عنها بدون جدوى؛

فدعيني أنطلقُ إليه، بربك، لا تمنعيني.

ربة الأحلام، ما أعذب ربوعكِ السعيدة!

وما أهنأ الحياةَ المُمتعة فيها، يا فتاتي!

ربّةَ الأحلام، اصدُقيني،

متى تزولُ عني هذه الآلام، وتُبارحُني شتّى الأسقام؟

ربّةَ الأحلام، إن أشباح الظلام مُحدِقةٌ بي،

ما دمتِ بعيدةً عني!

فاقربي إليَّ، يا عروسي الهائمة في الطباق العُلويّة!

بربِّكِ، لا تنأي عني.

ربّة الأحلام،

إن الزهرة العطرةَ الشذِيَّة،

والكناريَّ الغريدَ الصداحَ بأنغامه القُدسية،

وزرقةَ السماءِ الساجية الصافيةِ البهية،

والشفق البعيد المتشح بحلته الأرجوانية،

والنسيم اللطيف يبعث بشذا الرياحين ذات الألوان القرمزيّة،

وشمس الربيع الحالمة، عند بزوغها في الفجر، بشتى ألوانها العسجدية، والبدرَ الهائمَ الساري في قبة (الفضاءِ) الإلهية،

والهزارَ الشادي طربًا، فوق أفنان الدوح، بألحانه الموسيقية، والأنهارَ وهي تنساب بين أشجار الغار الخضراء السندسيّة، وأفوافَ الزهرِ النديّ يضوُع في الجنان الخالدة السماوية، والعيشَ تحت ظلال أشجار الخلود السرمديّة، والحُوْرَ العِيْن يتراشقنَ بالأكاليل المضفورة بأنامل عرائس الفجر، وقيان الفردوس، وفتيات الجداول، وصبايا الغاب، هو ما تطلبه نفسي الولهى،

وما تنشُدُه روحي المعذبة الحيرى!

فهل لكِ – يا عروس الأحلام، ويا مُضرمةَ الهيام،

ويا باعثةَ الهوى والحبّ والحنان،

ويا ربّةَ الجمالِ الباهر، والحسنِ النادر، والدلال الساحر، والحبَّ الثائر، والطرف الساحر، والصدر الزاخر، والقلب العامر، والشذا العاطر، والوجه الزاهر – في إنالتي ما إيَّاهُ أَنشُد؟

بَشريني، أنبئيني، طمئنيني،

يا عروسَ الأحلام، اصدُقيني.

                                                       القدس، 4 آذار 1936

 

 

إلى مغرورة

 

يا من حسبتِ أنّني غدوتُ (أسيرَ) عينيكِ الزرقاوين،

 ووجهك الجميل، وفمكِ الخمري،

خاب فألُكِ، وبَعُدَ عنكِ ما تحسبين!

لا تأخذكِ، يا صاحبتي الأوهام،

ولا تخدعنك الأحلام،

 فإنَّ في رأسي عقلاً يُفكر،

وإنَّ بين جوانحي قلبًا يستشفّ،

وإنَّ لي لبصرًا نفّاذًا يخترقُ طباق المجهول،

ويستشعرُ ما وراء (المستقبل) الرهيب.

فلا تتيهي، يا فتاتي، فغدًا…

غدًا يتقوَّسُ الظهر، ويتجعدُ الوجه، وتتلاشى حمرةُ الخَدّ،

ويذهبُ الزمنُ ببريقِ عينيكِ إلى غير ما رجعة!

وغدًا، يضمحلُّ الحُسن، ويذهبُ الجمال،

وتذوي ميعةُ الشباب النَّضِر

كما تذوي (الزهرةُ) في الحقول اليانعة!

وغدًا، تقذى برؤيتكِ العيون،

فلا تستطيعُ إطالةَ النظر إليك، وتقليب الطرف فيكِ!

وغدًا، تبدو ثناياكِ بَشِعةً شوهاء،

وتتصاعدُ الأبخرةُ من فيكِ قذِرةً كدراء،

وتُطلُّ أطرافُكِ من بين الثياب مترهلةً عجفاء!

فيغدو أقرب المقربين إليك، وأدناهم منكِ،

وهو بكِ ضيقُ الذرع، عائلُ الصبر،

يندبُ ألمَ الحرمان، وسخريةَ القدر!

وأنتِ، أنتِ تنظرين إلى هذا،

وتُقارنين بين الأمس، واليوم، وبين اليوم والغد،

فتطلبين الموت!

والموتُ يوغلُ في الهرب منك، والهُزءِ بكِ، والبُعدِ عنك!

والعكّازُ، يا هذه، سيكونُ صنوكِ في الذهاب والإياب:

سِمَةَ الضعف، وشارة العجز، يا للعار!

وما أنتِ، بالأمسِ واليوم وغدًا،

إلا (كتلةٌ) شوهاء من لحمٍ قذرٍ،

لو أُبصِرَ على حقيقته،

لَنبذته الطيور، ومحبته القبور!

فأقصري، أقصري، يا صاحبتي،

هذا الدلال الزائف، والحبَّ الكاذب،

والمظاهرَ، المظاهر التي لا تنخدُع بها إلا ضعافُ النفوس،

ضَعافُ الإيمان!

وإلا فإني غبيٌّ جاهل!

وأيُّ غرٍّ أحمق يرضى أن يرسفَ في هذه القيود،

ويحني الهامةَ أمام هذا النير الثقيل،

فيتأبط هذه الذِراع الملتوية،

ويُعانق هذا القّدَّ المعقوف،

ثم يودّعُ الشرف والحياء، والعزةَ والإياء؟!

أجل، وكيف تريدينني أن أصل حياتي بحياتك،

وأنتِ كما ذكرتُ: مصيركِ إلى قبح، ومآلُكِ إلى زوال!

أيتها الأفعى،

باعِدي ما بينكِ وبيني،

وحّذارِ أن تَدْني من مكاني!

فأنا منك في حصنٍ حصين، وحرزٍ حريز.

ثم حذارِ من التيه، من الدلال،

فربيعُ حياتكِ سيأفل، وصيفُ عمركِ سيغيب،

فتصبحين هباءً، وتضحين رُكامًا!

وقاني الله شرَّكِ،

وشرَّ بناتِ جنسكِ الزرياتِ في عينَّي، البغيضاتِ إلى قلبي!

وأنتَ، يا الله،

استمع إلى دعاء قلبي،

واستجب لنداءِ روحي،

يا أرحمَ الراحمين!

                                         القدس، 29 آذار 1936