info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى " الرحلات الداهشيَّة حول الكرة الأرضيَّة الرحلة السابعة عشرة "

 

 

 

لم تَثنه السنون الطوال التي أثقلتْ كاهله، ولا الألمُ الرهيب الذي استوطن حناياه، ولا الأرقُ المتواصل الذي ظلَّل مرقده، عن متابعة رحلاته حول الكرة الأرضيَّة استكمالاً لأهدافه المنشودة منها . فتاريخ الدكتور داهش ، على ما حفل به من الشدائد والأحداث الجِسام التي تزلزلُ الأعصاب وتردِّمُ العزيمة وتشتِّتُ الفكر، لم يسجّل عليه، في يوم من أيامه، وهَناً في إرادته، أو ضعفاً في همِّته ، أو انكفاء عن تحقيق غاياته . وإنّما زادته الرزايا عزيمةً وصلابةً ونشاطاً

 

والمرافقون له في رحلاته التبي بدأتْ عام 1969، وأنا أحدهم، يشهدون لعظيم همَّته في السَّير والكتابة والسَّهر واحتمال المشاق، مهما عظمت، في سبيل إنجاز أقصى الأهداف التي يتوخَّاها من الرحلة . ورغم الفوارق الكبيرة في السن بيننا وبينه، فإنّني لا أغالي في القول إنَّنا جميعاً دونه بمراحل، همةً وعزيمةً وقوةً وصلابة، وإنه جبَّار في طاقاته الهائلة التي لا يمكن إدراجها ضمن حدود المقاييس البشرية المعروفة .

 

هذه العـزيـمـة الـوثـَّابـة التي لم تؤثر فيها يد الحَدَثان حطّ عليها المرض بكلكله، إذ أصيب الرجل الجبَّار بروماتزم العظام، فأصبح الألم رفيق حياته الدائم . وقد لازمه في هذه الرحلة، واستأثر بحيز من يومياته . فقلمه المِمراع الذي اعتاد أن يسجّل كل خلجة من خلجات وجدانه وأحاسيس روحه، لا يلبتُ أن ينقل إلينا شكاواه من أوجاعه : «سرت طويلا والألم يسير في ركابي»، «واظبتُ على التجوال رغم الألم الشديد في ظهري»، «حاولتُ النوم لكن الألم أرَّقني . ،

ولعل أبلغ تعبير له عن عظيم مكابدته الألم ورد في اثنين من عناوينه حملا خُلاصة أحزان روحه التي بلغت التراقي . فقد ألزمته الظروف في إيطاليا أن ي يسير  في دربٍ طويل وهو يحمل الحقائب، فأطلق عليه اسم «درب العذاب . » ثم تكرَّرت الحادثة في مكان آخر، وبشكلٍ مماثل، فأسماه «درب العذاب الثاني . وإن قراءةً في الكتاب تظهر الدكتور داهش كأنه الأسد الطعين الذي يكابر على جرحه، فيأبى الحياة إلا منتصباً، ولا يلقى الموت إلا شامخ الرأس . وسرعان ما ترتسم علامة استفهام كبيرة لماذا اختار الدكتور داهش درب العذاب ، مرة بعد مرة، وهو يحمل صليب آلامه؟ وماذا عند آخر الدرب حتى يبذل لأجله راحته وصحته، ولو أدَّى به ذلك إلى اختصار الطريق إلى الجلجلة؟ إنَّ كتبَ رحلاته حول العالم عموماً، فضلا عن الإخراج الرائع والمميز الذي أضفـاه على سائر مؤلَّفاته، تفصح عن حقيقة السرِّ الكامن وراء ذلك التحرك الديناميكي الجبَّار الذي لا يعرف المهادنة أو الهوادة .

 

إنه الفنُّ؛ الفنُّ دون سواه . فهو السببُ الأبرز لتلك الحياة الضاجَّة بالنشاط والحيوية والحركة . إنه الوجه الأروع من وجوه الجمال . فكيف لا يغدو الدكتور داهش أسيره وهو القائل في مقدمة رائعته الأدبية «ضجعة الموت» : «إن قلبي يخفق بالحبِّ للجمـال . ومن أدرك سرّ الجمال، فإنه قد خطا خطوات واسعة في فهم أسرار الأزل والخلود . ومن كان بعيداً عن حبّ الجمال ، فإنه لا يفقه معنى الحياة ولا النهاية المجهولة . » وكيف لا يبلغ افتتائه بالفنّ حدَّ اعتباره بمنزلة الحياة منه : «أنا أتوق للفنّ، وأتعشَّقه، وأبحث عنه ليل نهار . فهو لي كالروح للجسد . »

 

يذكر، في رحلته العاشرة، أنَّه بينا كان يتقلَّب على الامه إثر حادث سقوط وقع له في أمريكا، طلب مشاهدة لوحاته الفنية التي كان قد أفرج الجمرك الأمريكي عنهـا للتـوِّ على إثر شحنها إلى الولايات المتحدة الأمريكية. يقول في هذا الصدد : «كنتُ وأنا أشاهد اللوحات أنسى ألمي المدمَّى لشدَّة ولعي بها ، أكاد ألتهم كلّ لوحة منها التهاماً! . . . إن وجودها أنساني ألمي، فبدا السرور واضحاً على أساريري . » إن كلامه لا يترك مدعاةً للشكِّ في أن فرحه بالفنّ يطغى على آلامه، فيحجبها، ويطفى لظاها .

 

وها هو، في هذه الرحلة بالذات، يشير إلى أنه كان على موعد مع طبيبٍ مختص بأمـراضِ العظام في باريس، ثم أُعلم بأنَّ مزاداً على اللوحات الفنية سيجـري في «أوتـل دروو» في الموعد نفسه. وإزاء الخيارين، ألغى الأول منهما، وإن كان ذلك على حساب راحته وصحّته، ولم يفوّت الثاني ، إذ إنَّ فيه بعضاً من كنوز الفنّ، ضالته المنشودة .

 

هذا الشغف بالفنّ يعـود إلى طفولته . فقد حدَّثني، خلال رفقتي له في إحدى سفراته، أنه كان يطالع في مجلَّة، وهو بعد حديث السن، فشاهد داخلها صورة عن لوحـة فنية تمثل أسدين على شفا صخرة ينظران إلى الوادي حيث بعض الغزلان . واسم اللوحة «الأسود المتوثِّبة»، وهي للفنان الفرنسي الشهير روتج . وقد أعجب بها، فاقتطعها من المجلّة، واحتفظ بها. ومرَّت السنون إلى أن بلغ سن الشباب، وانصرف إلى اقتناء التحف الفنية، وبدأ يراسل الفنانين العـالميين في فتـرة الأربعينات، ومن بينهم الفنّان روتج نفسه، بهدف شراء لـوحـاتهم التي غدت نُواة المتحف الـداهشي . فأرسل صورة اللوحة إلى هذا الفئان، وطلب إليه أن يرسمها له، فلبَّى طلبه . واستمرت المراسلة بينهما عشر سنوات (1950 - 1960) إلى أن توفي روتج عام 1961 .

حريٌّ بالتسجيل، هنا، أن مراسلات الدكتور داهش للفنانين في العالم، والتي تعتبر جزءاً مهما من تاريخ متحفه، قد تمَّت وهو تحت وطأة الاضطهاد الـظـالم الـذي أوقعتـه به الحكـومـة اللبنانية في عهد رئيس الجمهورية بشاره الخوري . وكان هذا الرئيس قد جرَّده آنذاك من جنسيته اللبنانيَّة مُنتهكاً بذلك الدستور والقوانين . وفي هذه الرحلة إشارة إلى ذلك تحت عنوان : «راسلت آلاف الفنانين في عهد الطاغية . »

 

ثمة حقيقةٌ لا بدَّ من الاعتراف بها وإعلانها، وهي حياة الدكتور داهش ترجَحُ أبداً على كفَّة الآلام والمشقَّات والاضطهادات . وهو، لذلك، يبادر، فور وصوله إلى أي بلد في هذه الرحلة، إلى ارتياد مراكز المزادات الفنيَّة وكالريهات الفنّ ومتاجر «الإستامپ» والكامه والأنتيكا، لاختيار ما فيها من قطع متحفيَّة جديرة بضمِّها إلى متحفه الفنّي العملاق الذي أنشئ لاحقاً في مدينـة نيويورك. واللافت أن هدفه من هذه الرحلة لم يكن التعريف بالمعالم الطبيعية والعمرانية للبلدان أو بأوضاعها الاجتماعية، كشأنه في رحلات أخرى ، وإنّمـا البحث عمَّا أطلعته حضارات تلك البلدان من آثار فنيّة وفكريّة رفيعة ، خاصَّة في تلك التي اشتهرت بغناها الفنيّ والفكري .

 

من هذا البحث المستعِر عن كنوز الفنّ لاصطيادها وضمِّها إلى مجموعاته الفنيَّة يجعل من هذا الكتاب مدرسة فنيَّة مميَّزة ومرجعاً للمهتمين بالفنّ، وجزءا من تاريخ المتحف الداهشيّ . والإفادة من الكتاب عديدةٌ ومتنوعة، في رأسها ما يتحصّل عن معرفة اختيارات الدكتور داهش الفنيَّة والأساليب التي ينتهجها في أسواق الفنِّ، مع ما يقتضيه ذلك أحكامه التقييمية السريعة على المستوى الفنّي، والتي تصيب ولا تخيب، وقلَّمـا يتوافر مثيلٌ لها حتى بين أرباب الفنّ الذين خبروا الفنّ وعاشوه وحلبوا منه شطريه .

 

لا بد من الإشارة هنا إلى أن نشاطات الدكتور داهش الفنيَّة تستعر أو تهمد بنسبة توافر الفنون الجميلة أو انعدامها في البلاد التي يقصدها. وقد تنحدر من القمة إلى القاعدة، رغم أن الدكتور داهش لا يني يتتبَّعُ، في أي بلد، أيّ أثر للفنّ مهمـا صغر، فيتحـرَّاه ويقـرّر هل يليق بضمّه إلى كنوزه الخالدة. ولئن عزّ وجودُ أيّ أثر للفنّ في بلد ما، فإنَّ في نفسه للكتب ، كنوز الفكر الإنساني ، ميلاً جارفاً لا يقلُّ عن ميله إلى الفنون .

وإذ كنتُ أحد صحبه حين حضوره إلى القاهرة ، من ضمن هذه الرحلة، وإذ كنتُ أشـرف على الجناح المخصَّص لمؤلَّفـاتـه في معرض القاهرة الدولي للكتاب، فقد أتيح لي أن أكون إلى جانبه وهو يرود أجنحة المعرض مُنقباً عمَّا يستهويه من الكتب ، الحديث منها والقديم النادر. وقد أفدت الكثير من معاينته وهو يتفحّصها كتابا كتاباً ليبتاعها ويُصار شحنها إلى مكتبته الخاصّة في نيويورك وغني عن القول إنّ للدكتور داهش اهتمامات أخرى لا تدع في حياته أثراً لفراغ . فالمطالعة الحثيثة للكتب والصحف والمجلاَّت، والكتابة الفياَّضة في شتّى شؤون الحياة وشجونها، وسواها الكثير، هي بعضٌ من تلك الاهتمامات لا يتوقف سعيه عن تحقيقها .

 

إن قراءةً في حياة الدكتور داهش تبيّن أنه ابن الحياة الذي شقَّ طريقه في الحياة بنفسه، وأنّه ابن الحقيقة وعاشقها، الباحث عنها والساعي إليها حيثما وجدت . وفي اعتقاده أن حياتنا في الأرض جزء صغير من حياتنا الكبرى في هذا العالم وفي عوالم أخرى ، وأن علينا أن نسير بمقتضى الفضيلة، ونعمل بهدف الخير لنرتقي بنفوسنا إلى عوالم أسمى يسودها الحبُّ والخير والجمال. والفنون الجميلة صورة للجمال الإلهيّ في تلك العوالم السعيدة البعيدة التي يتوق دوماً إليها. فلا عجب أن يبحث عنها في يبحث عنها في كل مكان، وأن لا يضنَّ بكلّ ما ملك في سبيلهـا، لتكـون رفيقته في أرض الشقاء، بعد أن شبع من لؤم البشر وغدر الأصحاب المزيفين ودناءة المدَّعين بالصداقة كذباً ورياء .

 

نيويورك، 4/ 7/ 1994

نقولا ضاهر

 

16 كانون الثاني 1981

إلى مطار كندي

 

في السـاعـة الحادية عشرة والدقيقة الخامسة والعشرين جلست في في سيارة «الستايشن» وبجواري العزيزة (ة) التي تقود السيارة إلى مطار كندي ، بينما جلست على المقعد الخلفي العزيزة (ى)، وهي من سيرافقني في سفرتي إلى باريس .

 

وقـد أخذت معي حقيبة ضخمة فيها أربع بدلات : اثنتين شتويتين واثنتين صيفيتين، فضلا عن «الجـرسيهـات» والقمصان وسائر ما يحتاج المسافر إليه في رحلة طويلة كرحلتي هذه .

 

أما الحقيبة الثانية فسيستغرب القارئ إذا عرف أنني ملأتها بـ16 بصلة ضخمة من بصل أمريكا اللذيذ، فضلا عن عدة أنواع من الخُضَر والبقول المختلفة .

 

أمـا الحقيبة اليدوية فهي ملأى بشتى الأشياء التي يُحتاج إليها في أوقات السفر الطويل .

 

الثلج ينهمر

 

وصلنا إلى مطار كندي في الساعة الثانية عشرة والدقيقة العاشرة، أي في خلال 45 دقيقة . وكانت السماء تمطر ثلجاً متواصلاً، وكانت الحقول ، مكتسيةً بحلّة ناصعة البياض، والبرد شديداً. لكنّني كنتُ قد ارتـديت بدلـة شتـوية فضلاً عن «فلانلاَّ» صوفية و«جـرسيه» من الكشمير ولفاع (شال) صوفي مُضاعف. وقد شفعتُ كل ذلك بمعطف أمريكي ثقيل ضَمِنَ لي الدفء التَّام .

 

فِديو صغير وخفيف

 

فور وصولنا، باشرنا وزن الحقائب . وكانت العزيزة (ي) تحمل حقيبة يدوية ثقيلة، وكذلك حقيبة أخرى تحتوي على آلة الفديو التي ابتعتها منذ شهرين من نيويورك . وهي آخر طراز أخرجته مصانع اليابان، وتختلف عن الفِديو السابق بصغرها، إذ إن مُسجِّلها وزنه 3 كيلوغرامات، في حين أن مسجّل الفديو القديم وزنه 15 كيلوغراماً؛ فهو مزعج لثقله .

 

وما كان أعظم سروري عندما قرأت في الصحف نبأ اختراع هذا الفديو الصغير الخفيف الوزن، فبادرت إلى البحث عنه في جميع المتـاجـر المختصَّة ببيع أجهزة الفديو والتصوير .

 

ولا حاجة لي إلى القول إن بعض أصحاب هذه المتاجر استغربوا سؤالي إيَّاهم عن جهاز قديو خفيف الوزن، وقالوا لي إنَّهم لم يسمعوا به حتى الآن . لكنّني ، بعد بحث متواصل، وجدته في متجر «پرلس» الذي قال صاحبه لي : «لقد وردنا جهاز واحد من هذا الطراز منذ يومين . » فابتعته في الحال . وقد بلغ ثمنه مع جميع لوازمه 1500 دولار أمريكي . ،

 

وهذا الفِديو سأحمله معي في رحلتي الطويلة هذه لألتقط به المشاهد التي تروقني .