info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى " الرحلات الداهشيَّة حول الكرة الأرضيَّة الرحلة الثانية عشرة "

 

 

 

حكايةُ الفنِّ الجميل مع الدكتور داهش حكايةُ الوجه الحبيب الذي لا يملُّ الرئو إليه، بل كلَّما تملَّيته، اكتشفت فيه جمالاً جديداً آسراً، وازددت ولعاً به. وهـذه الرحلة التي قام بها المؤلف إلى حواضر كاليفورنيا ونيفادا وأريزونا، قطبُ الجـاذبية فيها متاحف الفنون الجميلة ، لكن هذه الرحلة تمتـاز أيضـاً بمـوقف صاحبهـا النقدي العقلاني من المرويَّات ومن بعض المتنـاقـضـات في المجتمع الأمريكي، كما بموقفه الإصلاحي الروحيّ وهذه النقاط الثلاث حرية بتسليط الضوء عليها .

 

ففي مجال الفنون الجميلة كثيرة هي المتاحف التي استهوت مؤسّس الـداهشيَّة في سان فرنسيسكـو ولـوس آنجلوس ولـونـغ بيتش وسـانتياغـو وفينكس، فوصف مُعجَبـاً أهـم محتـويـاتهـا ومميزاتهـا. يجـدر بالذكر منها «متحف سان فرنسيسكـو للفنـون الجميلة» حيث استرعت اهتمامه شجرة ضخمـة ملأهـا فنانو قبيلة المشاي الإفريقية بوجوه ومشاهد مُخيفة نحتوها فيها؛ ولـوحة للفنان الأمريكي وليم هازنت بلغت فيها الواقعية الحيَّة حداً خدع بعض صَحبِ المؤلف، فاختلط عليه الفنّ والـواقـع لدى تأمله في اللوحة عن بعد.

 

وهذه الحيويَّة في الرسم الواقعي ، رأى الدكتور داهش مثيلها في لوحةٍ زيتية لسفيران روزن تُمثـل عنبـاً تـراءى حُبَبَ حبـَّاتـه من خلال ظروفها الشفافة. واللوحة في «متحف لوس أنجلوس كاونتي للفنون الجميلة». وفي المتحف نفسه، استهوته لوحة رائعة لألبرت برشتات تُمثل القمر مُلقياً أشعته على وجـه بحيرة صافية وغـابـة غبياء، كمـا مجموعة من اللوحات الزينة رسمتها فنَّانات بين عامي 1550 و 1950.

 

ومثلما زار المؤلف، في رحلة سابقة، «عالم دزني» في فلوريدا، زار، في هذه الرحلة، «دزني لانـد» في كاليفورنيا، واظهر إعجابه بمُدهشاتها العلميّة الفنيّة التي تمخَّضت بها عبقرية والت دزني .

 

ولم يقف إعجابه عند العلم والفنّ في أمريكا، بل إن نعمة الحريّة التي تتمتَّع بها هذه البلاد شدَّ ما اجتذبته، وبعثت المرارة في نفسه، لاضطراره إلى تمضية الشطر الأكبر من عمره في لبنان الذي دأبت فيه السلطات، عبر عهودها المُختلفة، على اضطهاده واضطهاد العقيدة الروحيَّة التي أسسها، فقـال في معرض تعليقه على محاولة السلطة الفاشلة منع محاضرة عن الداهشية كان لي شرف إلقائها، في كلية الحقوق، عام 1971 :

 

«وهذه السلسلة من الاضطهادات المتلاحقة تبرهن أنَّ الشرقَ لا يمكنه أن ينهض من كبوة الذُّل وربقة المهانة اللتين طوق نفسه بهما. وعليه رأت الداهشيّة أن الشرق لا يستحق أن يبقى فيه كل حرّ، فغادرته إلى بلاد الحرية ـ أمريكا العظيمة ـ حيث سيسجـل التـاريخ أنها ملجأ المُضطهدين ومأمن الخائفين من ظلم الشرق التعيس بحكامه الذين سيجلدهم التاريخ ويسجنهم بين طياته ليقرأ مثالبهم جميع أبناء الكرة الأرضيَّة، فيلعنوا ظلمهم ما دام لهم عيون تقرأ وآذان تسمع . »

 

 

لكن إعجـاب الـدكـتـور داهش بالحـرية في أمـريـكـا، كمـا بعـظمة المُنجزات الفنيّة والعلميّة، يوازيه عجب من التناقضات الشديدة البارزة في المجتمع الأمريكي. فهذه الدولة التي يُهيمن عليها نظام دقيق في جميع مرافقها، تكثر المُتناقضات في شركاتها ومؤسساتها، ومنها السياحيَّة والطبيَّة.

 

فهذه شركة توزع نشـرة تقـول فيها: «يمكن السّياح مشـاهدة السوق المكسيكية العجيبـة بسلعها الغريبة»؛ وتقود السائحين ـ وبينهم المؤلف ـ في رحلة ليلية إلى تلك السوق، فإذا هي مقفلة! ومثل هذا الاستثمار الوضيع يكثـر. فقـد أصـدرت شركة سياحية أخرى إعلانات تؤكد إمكان مشاهدة قـبـائـل الهـنـود الأمريكيين وتسجيل مشـاهـد من حياتهم . وتقود الشركة السائحين ـ والمؤلف بينهم ـ إلى الموضع ، فإذا التقاط الصور ممنوع ! وكان تعليق مؤسس الداهشيَّة على هذه الشركات : «ليست إلا فخاخاً تُنصب لاصطياد السائح . »

 

هذا الاستثمار المبني على الكـذب لمسه المؤلف أيضاً في الفنادق والمستشفيات . فقد احتجز هو وصحبه جناحاً في فندق MGM گراند أوتل في لاس فيگاس، وهو بالغ غاية الفخامة، فإذا المسؤولون يؤجرون الجناح المحجوز، ويعطونهم جناحاً آخر.

 

وبعـد أن يصـاب المؤلف بالـزكـام المُضني عدَّة أيام، يسأل إحدى شركـات الـطيران هل يشكل الزكام الشديد عليه خطراً، في أثناء تحليق الطائرة، فيكون جوابها «لا خطر البتَّة»؛ بينما أفادته شركة أخرى أن هناك «خطراً حقيقياً . أما إدارة الطوارئ التي خابرها هاتفيًا، فقد طلبت أن يحضر المزكوم لفحصه قبل إعطائه الجواب!

 

وفضلا عن التناقضات، يفيد الـدكتـور داهش ان السَّائح تعترضه تعقيدات شديدة ومربكة من المستشفيات، إذا اضطرَّ إلى إجراء معاينة طبية ما، بل إنه يذهب إلى حدِّ لومه نفسه على إضاعة الوقت في قصد الأطبَّاء واستشارتهم، ليقينه بانهم ليسوا أهلا لثقته .

 

زدْ إلى ذلـك عـجـب مؤسس الـداهـشـية من جهـل كثيرين من الأمريكيين، حتى أدلَّاء السياحة فيهم، لكثير من معالم حضارتهم . كان استغرابه عظيماً، حينما رغب في زيارة مرصد جبل پالومار ولم يستطع أحد إفادته عن مقرّه، سواء من مسؤولي الفندق الذي كان نازلاً فيه أم من مركز الاستعلامات الهاتفية .

 

أمـا أدلاء السياحة فكثيراً ما كانوا يدلون بمعلومات غير دقيقة، حتى أصبح موقف الدكتور داهش من الكلام الذي يسمعه منهم أو من غيرهم، في أثناء رحلاته، موقف الشك والنقد الدائم . فقد علَّق على كلام السائق ، في أثنـاء جولته في مناطق الهنود الأمريكيين، قائلاً: «أما أنا فلم أعر كلامه انتباهاً، ولم أصدّق منه حرفاً، إذ سبق لسائق الأوتوبيس الذي ذهبنا معه إلى «مدينة الأسود » أن أدلى بمعلومات عديدة تبين في النهاية أنها كلام تذروه الرياح . إذا ما علي إلا الاطلاع على الكتب الـرسمية التي تضم إحصـاءات ثابتـة وحقيقية عوضاً عن الإصغاء لسفسطات وهميَّة .

 

هذا المـوقف العلمي العقـلاني يلمسـه القـارىءُ غير مرّة في سياق الرحلة . مثاله أنه بينما كان مسافراً جواً من نيويورك إلى كاليفورنيا، أخذت طائرة «الجامبو» الجبَّارة تهتزُّ وترتجُّ بفعل الجيوب الهوائية، فتذكر أقوال من سافـروا فيها وأكدوا له سابقاً أن هذه الطائرة الضخمة لا تهتز مُطلقاً، وقال مُعلقاً: «عليَّ أن لا أصدّق أي شخص ، إذا روى لي أي حادث إلا إذا شاهدت ذلك  الحادث مشاهدة عيانية ».

والحقُّ يقال إن الموقف العقلاني من الأحداث التي تعترض المؤلّف صفة ملازمة له في رحلاته، وإحدى الميزات الثابتة في شخصيَّته . فبقدر ما هو رجل الخوارق الروحيَّة التي تتخطَّى كل قدرة علميَّة، هو رجل العقلانية الصارمة أيضاً. وليس في ذلك أي تناقض لدى من خبر مؤسس الداهشيَّة ، وعاين ظاهراته الروحيَّة الخارقة . فالإنسان ما دام إنساناً، فأعماله خاضعة للتفسير العلميّ ولأحكـام القوانين الطبيعيَّة ؛ أما الأعمال الخارقة فلا يقوم بهـا بشـر، بل قوى روحيَّة عاقلة لا تنتمي إلى عالم الأرض، ولا تخضـع لمقاييسه وقوانينه الطبيعيَّة .

 

ومن ميزات «الرحلات الداهشية» العامَّة أن القارئ يلمس فيها حضوراً دائماً لله في مواقف المؤلّف وآرائه . فليس من إنسانٍ ناجي الموت، وحنّ إليه، وغنَّاه كما يُغنّى الحبيب، مثلما فعل الدكتور داهش ؛ ذلك لأنَّ الموت هو الجسـر النـوارني الوحيد الـذي يعبـر عليه إلى وطنه الروحيّ المجيد السعيد؛ ولكن مع ذلـك فمؤسس الـداهشيَّة أفـاض في وصف مخـاوفـه ومخاوف الـركـاب في أثناء ارتجاج الطائرة، من جراء الجيوب الهوائية ، وأغرق في ابتهاله إلى الله، واستغاثته، واسترحامه ، كأنَّما أراد أن يوحي إلى الناس أن العلم مهما تقدَّم ، ستبقى حالات لا قدرة له فيها على إنقاذ البشر، وأن عليهم أن يبتهلوا، إذ ذاك، إلى القـوة الموجدة التي هي وحدها قادرة على إبعاد شبح الهلاك عنهم .

 

وانظر إلى تعقيبـه على مشاهدته سمكة تماثل المنطاد في شكلها: «فذهلت من صنع الفنان الأكبر الذي لا يجاريه أحد. فهو بصنعه العظيم المبدع ،  وتكوينه المُذهل الممتع لشتى أنواع المخلوقات ، إنما يدع المرء البصير خاشعاً ذاهلاً أمام عظمته الإلهيَّة المُحيِّرة لأنبه العقول . »

 

هذه الـوقـفـات الـخـاشـعـة الدافعة إلى التبصر والعبرة تكثر أمثالها في رحـلاتـه، وأحياناً تزدوجُ بمـوقف نقدي إصلاحي للكنيسة وكهنتها. ففي معـرض دخـوله إلى كنيسة كاثوليكية في كاليفورنيا، رأى أحد الكهنة يعظ المؤمنين، فعلَّق بأنَّه واحد من زمرة شياطين همَّهم خداع بسطاء القلوب من المؤمنين بنفاقهم وتمثيلهم . وقد برهن المؤلّف على ذلـك بمـا قامت به محاكم التفتيش الكاثوليكية من أعمال مروّعة ضد المساكين من الرعايا المسيحيين وغيرهم، في القرون الـوسـطى، وذلـك بقصد السيطرة على أموالهم وتوسيع السُّلطة الكهنوتيَّة .

 

وفي سياق نقده للتعاليم التي ابتدعتها الكنيسة الكاثولكية، يتساءل هل العصمـة البـابـوية التي ادَّعـاها البابوات عَصَمتهم من الخطإ حينما كانوا يأمرون ببتر أعضاء المساكين وسحق أجسادهم بالحراب السنينة؟ وتستشف خلاصة موقفه من قوله : «إن دين المسيح اليوم قد أصبح شبكة يصطاد بها القسس الكاثوليك ورهبانهم المراوغون كل من آمن بسفسطاتهم، فيخسر عقله وماله . » لكن مؤسس الـداهشيَّة، رغم سخـطه على نفـاق رجـال الدين، لم . تذهب به ثورتـه إلى حدّ نقض الدين أو رفضـه إيمان المؤمنين، بل نراه يقول، بعـد أن لاحظ خشوع المُصلِّين من المُتعبدين البسطاء في كنيسة سريانية : «أن يكـون الإيمـان باليـوم الأخير في قلوبهم أفضـل من عدم الإيمان بالخالق، لأن هذا العصر هو عصر الإلحاد والكفر والزندقة الشائنة . » ولذلك تراه يُنذر الغارقين في المحرَّمات والمُنكرات «بأنَّ يوماً حالك السواد مُدلهم الجلباب سينقضّ عليهم انقضـاض النسور . . . فإذا بهم وقد زلزلت الأرض بهم، وتقوَّضت أركانها فوق رؤوسهم . » فتعاليم الدكتور داهش تدعو إلى العودة إلى الإيمان الصادق الصحيح في عصر فُقِدَ فيه الإيمان .

 

«الرحلات الداهشية» كناية عن عالمين مُصغَّرين : أولهما عالم الأرض ومـا فيه من بشـر تتجاذبهم الفضائل والرذائل، والمناقب والمساوئ ، ومن فنـون جميلة تأهل المتاحف والقصور والمعابد والمدافن والمخازن، ومن معالم بارزة في العمران والطبيعة والملاهي وحدائق الحيوان . . . وثانيهما عالم داهش الـزخَّـار بالعـواطف السامية والأفكار النبيلة الجريئة والغرائب والعجـائب، والمـوَّار بنسائم حنانه وحبّه وعواصف ثورته وغضبه . وسواء رغب القارئ في سلوى أم في إفادة، فإنه عاثرٌ على طلبته في هذه المناجم الكريمة النفيسة التي يلاقي في خاماتها الغنيَّة أقباساً من وهجِ الحقِّ والخيرِ والجمال .

 

غازي براكس نيويورك،

في ۱۹۹۱ /۲/٢

 

 

۱۳ كانون الثاني 1977

التأهب للشفر إلى كاليفورنيا

 

غادرت فراشي في الساعة الخامسة والثلث صباحاً، وبدأت تدوين وقائع الليل الأخيرة .

ثم باشرت إنجاز ترتيب الحقائب التي سنصطحبُها في هاده السَّفرة التي ستبدأ ظهر اليوم ، إذ سنستقل الطائرة الذاهبة إلى كاليفورنيا بإذن الله تعالى ، وفـد استغـرق هذا العمل ثلاث ساعات كاملة، إذ ذاك رأيت أنـَّه من المستحيل أن نستطيع الوصول إلى المطار في الساعة المحدَّدة أي الحادية عشرة؛ فطلبت إلى كريمة فوته الكبرى أن تُلغي لنا سفرة الظهر، وتحجز لنا مقاعد في في الطائرة التي ستغادر مطار كندي بنيويورك متَّجهة إلى كاليفورنيا الساعة الخامسة مساء، فاتَّصلت بالشركة، وحجزت لنا أربعة مقاعد أما الطائرة فهي من نوع «الجامبو».  

 

في مطار كندي

 

في السـاعـة الثانية والـربـع ، وصلت السيارة التي ستُقلَّنا إلى مطار كندي . وقد انطلقت بنا في الثانية والدقيقة الثالثة والعشرين تماماً، وكانت حافَّتـا الطريق مغمورتين بالثلوج، فبلغنا المطار في الساعة الثالثة والدقيقة الثانية عشرة، أي في خلال ساعة إلا 11 دقيقة وفـوراً غادرت كريمة فوته السيَّارة، وذهبت إلى المكتب حيث تذكرةُ