info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى "أناشيدي"

أناشيدي

                                                         

اليأس من الحياة

 

نفسي حزينةٌ!

 وشعورٌ غريبٌ من الأسى يُهيمنُ على كياني!

وآلامٌ نفسيَّةٌ شديدةُ الوطأةِ تتملكُ أعماقَ أعماقيّ

وأحزانٌ بالغةٌ تُحيطُ بي إحاطةَ السِّوار بالمِعْصَم!

وأشباحٌ غيرُ مرئيةٍ تحومُ حولي

فأشعرُ بحفيفها الخفيِّ يطرقُ صِماخَ أُذني!

والكآبةُ الخرساءُ تُلازِمُني!

والسعادةُ قطعَتْ على نفسِها عهدًا ألا تزورَني ولو لمامًا!

ولكنّني سعيدٌ بألمي الطاغي الخفيِّ هذا،

وفي ألمي العميقِ لذّتي!

وفيه سعادتي وبهجتي!

إنَّ أفراحَ الحياةِ باكملِها لا تستطيعُ أن تُدخلَ على قلبي السرور!

كلُّ ما تقعُ عليه عينايَ

لا يحملُ إلا منظرَ الكآبةِ الصماءِ والحُزنِ العميق!

وإنْ أعجَبْ لأمرٍ من أمورِ هذه الحياةِ الدّنيا،

فما عَجَبي إلا لِمَنْ يقولون:

إنهم تذوقوا السعادةَ وشعروا بنعيمِ الحياة.

يا للغرابة! وهل في الحياةِ شيءٌ يُقال له "سعادةٌ" أو "نعيم"؟!

لا ولن يُوجَدَ هذا الحُلْمُ البعيدُ المنال!

                                                ***

وعندما تحجُبني سًحُبُ الموتِ بظِلَّها الحالك،

وتحتاطُني بحنوٍّ ورقة،

وحينما تتوارى عنّي مَرئياتُ هذا العالَمِ التَّعِسِ الكئيب،

وبعدما أخلَعُ جسدي المادِّي، وأَنطلقُ حيث الفضاءُ ذو النورِ البَهيّ،

عند ذلك تضمحلُّ الكآبةُ التي كانت مُلازمةً لي،

وأشْعرُ بالسعادةِ الخالدِة السرمديَّة،

وأنتشي برحيقِ الإكسيرِ الإلهيِّ المُترَعِ بالخُلوج،

وأَعودُ الى ما كنتُ عليه من حُبورٍ وسرورٍ

قبل أن أُوجَد على هذه الفانيةِ الحقيرة،

وأندمجُ في القُوَّةِ الموجدةِ وأَخلُدُ فيها إلى ما لا انتهاء!

إذْ ذاكَ فقط أتذوَّقُ طَعْمَ السعادةِ التي لا تشوبُها شائبة،

وينتهي دَوْرُ الآلامِ والأسقام!

فمتى تأتي ساعةُ انطلاقي من قيودِ الأسْر،

إلى فضاءِ الحرية؟

                                                                             جونيه، في 7 حزيران سنة 1934

 

 

                                                          الآمال السَّرابيَّة

ومن وراءِ رَبْوةِ الحياةِ، نرقبُ تحقيقَ آمالِنا بقلوبٍ واجفةٍ مُضطَرِبة،

مُؤملين تحقيقَ أحلامنا الذهبية!

وتمضي الأيّامُ، تتلوها الشُّهورُ، وتلحقُ بها السنون،

ويُواريها الأبَدُ في طيّاتِه العميقة،

وقد ارتسمتْ على شِدقَيْهِ ابتسامةٌ صفراءُ مخيفة

لتلك (الآمالِ السرابية) التي لا ولن تُحقق!

ثم إذا بِيَدِ الشيخوخةِ قد لعبَتْ دورَها،

وإذا بنا نرزخُ تحت أعباءِ السنين الثقيلةِ الظلّ،

فتتقوَّسُ ظهورُنا من هذا العبءِ الجبارِ القاتل،

ونرى أن آمالنا لم تُحقق رغم انتظارنا الطويل!

ونعود (للمرة الثانية) فنأملُ، ونأملُ، ونقول:

ربَما كان الأملُ ساهيًا لاهيًا عنّا... فلِمَ القنوط؟

وبينما نحنُ في أحلى تمنياتنا وأمانينا،

نرقبُ بفروغِ صبرٍ تحقيقها،

إذا بنا نرى (شبحَ الموتِ) الرهيبِ يدنو منّا،

وقد كشَّر عن أنيابه الفظيعة التكوين، الناتئة الحُدود،

ويحطُّ علينا بظلِّه الأبديِّ، ثم ينقضُّ علينا انقضاض الصاعقة،

وينتزعُ منا الروحَ انتزاعًا مُرَوِّعًا،

فنُغادرُ هذا العالم،

والأملُ حبيسٌ في صدورنا!

وهكذا تنتهي (آمالُنا السرابيةُ) دون أن تتحقق!

فيا لَمهزلةِ حياة الإنسان، ما أتفهها!

 

                                                                   القدس، في 15 تشرين الثاني سنة 1934

 

 

                                                          أيها الموت

يا موْت!

أيها الحبيبُ الشفيق، ويا نِعمَ الصديق!

أيُّها الطَّيفُ الساري، والقضاءُ الذي لا بُدَّ منه!

أيُّها الخيالُ الذي أراكَ في منامي، وأتخيلكَ في أحلامي!

يا سميرَ وحدتي، وأنيسَ يقظتي، ومُخفف بلوتي!

يا مطلبَ نفسي، ومَطمحَ روحي، ومهوى فؤادي!

يا عشيقي البعيد، ومُرادي القريب!

يا عروسي الهائم في مشارقِ الأرض ومغاربِها،

وفي معالِمها ومجاهِلها!

أيُّها العاصفةُ الجبّارةُ المجتاحةُ كلَّ مَنْ يُقاوِمُ إرادتَها البتّارة!

يا شِبَعَ نفسي الجائعة، ورِيَّ روحي الظامئة!

يا فردوسي المفقود، وأمَلي المنشود!

يا منحى نفسي، وخِفْيَةَ روحي، ومسرى ضميري!

يا سعادتي وهنائي! ويا ماحيَ شقوتي، ومُزيلَ عنائي!

يا ابْنَ الخفاء، ورسولَ السلام!

ويا بارقةَ الرجاء، ومُزيلَ الآلام!

يا مُوقِفَ نَبَضاتِ القلوبِ، ومُجتثَّ حركاتِ الأجسام!

يا كَفَنَ المطامعِ، ونعشَ المظالمِ، ورَمْسَ الأحقاد!

أيُّها الهادِمُ الباني، والمُقوضُ المُعَمِّر،

والعابسُ الباسم، والقَلِقُ المُطمئّن!

أيُّها العابثُ المُشفِقُ، والشجاعُ الوَجِل،

والمَرِحُ الحزينُ، والمُضطَرِبُ الهادئ!

يا رسولَ الآلهةِ، ومُنفِّذَ الأرادةِ المجهولةِ الأبديةِ السرمديّة!

أيّها الغائبُ الحاضر، الباطنُ الظاهر، المعلومُ المجهول!

أيُّها الهازئُ بشرورِنا، الساخرُ بآثامِنا، المُشفِقُ على جهالتِنا!

أيُّها الشاهدُ ما ترتكبُه البشريَّةُ من مظالم،

وما ترمي إليه الإنسانيَّةُ من أطماع!

أيُّها الموجودُ في كلِّ زمانٍ ومكان،

في الماءِ والهواء، في السهول والجبال،

في المُنخفضاتِ والمُرتَفعات،

في الأوديةِ والحُزون، في المعالِمِ والمجاهِل، في الأبعادِ والأسحاق!

أيَها الناظرُ غيرُ المنظور، الحاصرُ غير المحصور!

أيُّها المُحصى علينا أعمالَنا بكُلِّ دقّةٍ وإمعان!

أيّها القائمُ وحدَكَ بما يعجزُ عنه البشرُ قاطبةً!

أيّها المعجزةُ الفريدةُ، بل يا معجزةَ المُعجزات!

أيّها الحاكمُ بأمرِه، الساريةُ كلمتُه قانونًا نافذًا، ودستورًا حاسمًا!

أيّها الناظرُ بلا شيءٍ إلى كلِّ شيء!

أيّها الكأسُ التي ذاقها الأوَّلون، وسيذوقُها الآخرون!

يا إمام رغائبي، ودليل ميولي، ومُتجه آمالي!

يا عزيزي، وحبيبي، وصباحي ومَغيبي!

يا أمَلي ومُناي، ويا مَطمحي ورَجاي!

يا باعثَ إحساسي، ومُرهِفَ شعوري!

يا ملاذَ نفسي، ومعاذَ روحي!

أيُّها الكرى المعسولُ الذي يُراوِدُنا بين فترةٍ وأخرى:

يا حبيبي الموت!

أقفلْ عينيَّ، يا حبيبي،

أقفِلهما؛ فقد تعِبتا من النظرِ إلى هذا العالمِ القذِرِ الموبوء!

نَعم، وأوقِفْ ضرباتِ قلبي،

هذا القلبِ المُحطَّمِ الذي أجهدتْه كثرةُ الضرباتِ دون جدوى!

وأخفِتْ أنفاسي؛

فقد عافتِ استنشاقَ هواءِ هذا العالَمِ الفاسد!

وأفقدني حاسةَ الشمِّ؛

إذْ بحسبي ما تنسمتُ من رائحةِ هذه الحياةِ الكريهةِ النتنة،

المفعمة بالأرجاس!

وقيدني بقيودكَ الخفية، الخفيفة الظل،

فقد تعبتْ قدماي من السيرِ في مفاوز هذا العالم،

المليء بالشرور والآثام، الزاخر بالحسراتِ والآلام!

وأنِخْ عليَّ بكلكلِكَ المُرح!

فقد ضاق صدري بسخافاتِ البشر، وسُخرياتِ القَدَر!

وضعْ بلسمَكَ الشافي على جراحِ روحي الحائرةِ الحزينة،

فقد آن لها أن تستشعرَ نعيمَ السعادةِ الأزليَّة،

والغبطةِ السرمدية، والنشوةِ الخالدةِ القُدسية!

أُدنُ منّي، لأ تَنْأ عني،

فإني أتذوقُ الراحةَ إلى قُربِك،

وأتلظى في جحيمِ العذابِ لبُعدك!

أشِفقْ عليَّ، يا حبيبي؛

فقد تَعِبتْ نفسي من البقاءِ في هذا العالَمِ الباردِ المُخيف!

هاتِ يَدَكَ الحارة، وضعها على يدي الباردة،

ودَعْ قلبي يخفقُ خفقاتِ الغبطةِ والحُبور!

هاتِ، يا حبيبي، ولا تَقْسُ عليَّ!

إذْ حَسْبي، في هذا العالَمِ الفاني، قسوةُ كلِّ مَنْ يعيشون فيه!

هاتِ، يا حبيبي،

وأَرِحْني من هذا العالَم،

واختطِفْني من هذا الحياة.

آه! يا حبيبي!

ما أتعسَ هذا العالم!

وما أَمضَّ آلامَ هذه الحياة!

آه! ما أشقى هذا الوجودَ، وما أقساه!

لَلّهِ! وما أجملَ عالَمَكَ، وما أبهاه!

رُحْمَاكَ! رُحْماكَ، يا حبيبي الموت!

ألا تسمع؟!

                                                                             القدس، في 7 كانون الثاني سنة 1935