info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى " الرَحلاتُ الداهشيَّةُ حولَ الكُرَةِ الأرضيَّة الرحلةُ الثانيةُ"

 الرَحلاتُ الداهشيَّةُ

حولَ الكُرَةِ الأرضيَّة

 

 

 الرحلةُ الثانيةُ

 عام 1970

الحقيقةُ الإلهيَّةُ

 

أَشتَاقُكِ مِثْلمَا تشتاقُ الأَيائِلُ لجَدَاوِلِ الماءِ النَّميرة!

وأَتوقُ لرؤْيتِكِ مثلمَا يتُوقُ الأَنْبياءُ لهبُوطِ الوحْيِ عليْهِم!

وأتحرَّقُ للوُلوُجِ إلى خِدرِكِ الطَّاهرِ المقدَّس!

ويلجُّ بي الإلحاحُ للتهجُّدِ والتبتُّلِ ليلاً ونهاراً لأحظى بكِ!

وأتذوَّقُ لذَّةَ النشْوةِ العُظمَى عندمَا أتخيَّلُ أمْجادَكِ الفردَوسيَّةِ!

وأخرُّ سَاجداً عِندمَا أتخيَّلُكِ ممتطيَّةً الصَّاعقةَ تتقدَّمُكِ البُروقُ المومضةُ!

فيَا أيَّتُها الحقيقةُ الإلهيَّةُ!

أيَّتها المقيمةُ في الأخدارِ السَّماويَّةِ !

متَى أستظلُّ ربوعكِ العلويَّة

وانعمُ في أجوائِكِ البَهيَّة؟!

متَى؟!

 

                                                                داهِشْ

 

 

 مُقدِّمَة

 

 أنَا تَوَّاقٌ للسَّفَرِ والتَّرحالِ

 

أنَا بطبيعَتي أُحبُّ الرحلاتِ وأَتوقُ للسَّفَرِ والتَّرحالِ شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً.

أُحبُّ السَّفَرَ إلى الصَّحارى، والتجوالَ في شِعابِ الجبالِ، كمَا أُحبُّ الهبوطَ إلى الأَوديةِ السحيقةِ، وأَرغبُ مشاهدةَ العواصمَ الكُبرى، والقُرى النائيةَ الهاجعةَ بأحضانِ الغاباتِ الظليلة.

وأُحبُّ أنْ أرودَ المتاحفَ العالميَّةَ لأُشاهدَ لوحاتِ الفنَّانينَ العظماءَ مِمَّنْ دان لهُمْ الفنَّ، وأصْبَحَ أَطوعَ لهُمْ مِنْ بنانِهِم.

لقدْ زُرْتُ متحفَ الأرميتاج الروسيّ في مدينةِ لننغراد، كما زرتُ مُتْحَفي تريتيكوف وبوشكين في مدينة موسكو. كذلكَ شاهدتُ مُتحفَ المتروبوليتان العظيمَ في نيويورك، وتجوَّلتُ في مُتحفِ بروكلِنْ وتملَّيتُ جميعَ لوحاتِهِ المعروضة لوحةً فلوحة. كما شاهدتُ متحاحفَ لوس آنجلوس، وسان فرنسسكو، وغيرِهَا كثيراً من متاحفِ الولاياتِ المُتَّحدة، وخصوصاً مُتحفَ الفنونِ الجميلةِ الحكوميّ في شيكاغو وواشنطن. وقد أُخِذَتُ بروعةِ مُتحفِ واشنطن العظيمِ ولوحاتِهِ الساحرةِ وأَناقةِ المبنى الضخمِ الفخم.

كما زُرتُ مُتحفَ البرادو المشهورَ بإسبانيا، ومُتحفَ اللوفر العظيمَ بباريس، ثمَّ مُتحفَ مارسيليا وغيرَهَا مِنْ متاحفِ المُدنِ الإفرنسيَّةِ العديدة، ثمَّ مُتحفَ النمسا المُدهِش الذي يضمُّ مئاتٍ من لوحاتِ أشهرِ الفنَّانين العُظماء، ثمَّ مُتحفَ روما الغنيّ بمحتوياتِهِ، ومتحفَ الفاتيكان الذي يحتوي على كنوزٍ لا تُقدَّرُ بمالٍ إطلاقاً.

كذلكَ زُرتُ متاحفَ نابولي وميلانو وغيرَهَا مِنْ المتاحفِ المنتشرةِ في المُدنِ الإيطاليَّة.

وزُرتُ إيضاً متاحفَ برلين وميونخ، واستمتعتُ بعظمةِ الفنِّ المُذهلِ الذي تحويهِ متاحفُ الشعبِ الألمانيِّ العريق.

ولنْ أنسى متاحفَ هونغْ كونغ، وطوكيو، ونارا، وكيوتو، ونيكو، وأوزاكا، ويوكوهاما، وكماكيرا. فالكنوزُ التي تنطوي عليهَا تلكَ المتاحفُ خالدةٌ بروائِعِها النادرة. كذلكَ ارتدتُ متاحفَ سيام، وأُخِذَتُ بمَا تحويهِ مِنْ روائعَ عريقةٍ في القِدَمِ، مُذهلةً بدقَّةِ الفنِّ. وشاهدتُ متاحفَ تركيَّا، وفنلنداَ، والدانمارك، وبولونيا، وبلجيكا، ورومانيا، وبلغاريا، وقبرص، وآثينا باليونان، وأديس أبابا في الحبشة، وطرابلس الغرب، وجيبوتي، ونيروبي، وتنزانيا، وغيرَها وغيرَها الكثيرَ من مُختلفِ المتاحفِ في العديدِ مِنَ البُلدانِ التي لا تحضُرُني أسماؤُها الآن.

ومعْ ذلك، فجميعُ هذه المتاحفِ لمْ تُشبعْ رغبتي للفنونِ الجميلة، فأنا أتوقُ للفنِّ، وأتعشَّقُهُ، وأَبحثُ عنهُ ليلَ نهارٍ، فهُوَ لي كالروحِ للجسدِ.

وبهذِهِ المناسبةِ تذكَّرتُ مثلاً شائعاً دوَّنَتْهُ الكتبُ إذْ قالتْ:" إثنانٌ لا يُشبعُ نهمهُمَا شيءٌ: طالبُ علمٍ وطالبُ مال".

وأَزيدُ عليْهِمَا ثالثاً فأقولُ:" وطالبُ فنٍّ"- الذي هوَ أنَا- فإنِّي، وأيَمُ الحقِّ لا يُمكنُ أنْ أُشْبعَ نهَمي منَ الفنِّ إطلاقاً. فمنذُ طفولتي وأنَا أتوقُ لمشاهدةِ أيِّ شيءٍ يمثِّلُهُ الفنُّ، سواءٌ أَكانَ لوحةً زيتيَّةً أم مائيةً أم بالباستيل. كمَا أَرغبُ رغبةً عارمةً بالتماثيلِ الفنيَّةِ سواءً كانتْ منحوتةً من الحَجَرِ أمْ منَ الرُخامِ أو العاجِ أو البرونزِ أو الخشَبِ أو المعدَن. والخُلاصةُ إنَّ الفنَّ يستهويني ويجذِبُني كالمغناطيسِ المقتدر.

وفي خلالِ سفَرَاتي المُتعدِّدَةِ ورحلاتي المتواصلة ابتعتُ منْ مُتعدَّدِ الفُنونِ عدداً كبيراً بذلتُ في سبيلهِ أموالاً طائلةً. وقد غصَّتْ خزائني بروائعِ الفنِّ، فهي لي متعةٌ للنَظَرِ وروعةٌ للبَصَرِ؛ وسأَبتاعُ منْهَا الكثيرَ أيضاً، إنْ شاءَ الله، برحلاتي القادمةِ إذا امتدَّ بي الأجلُ، وإلاَّ فإنِّي لا آسفُ على رحيلي منْ هذه الأرضِ التي يملأُهَا شقاءٌ متواصلٌ وعذابٌ دائم.

وأُؤكِّدُ للقارئ أنَّ الموتَ والحياةَ لديَّ سيَّانٌ، فأنا لا آبهُ إنْ دنَا أجلي في هذهِ اللحظةِ التي أُدوِّنُ بهَا أفكاري هذه. كمَا أؤكِّدُ أنَّهُ لا يهتزُّ بي وترٌ واحدٌ إذا دنَتْ ساعةُ مَنيَّتي، فقدْ شبعتُ منْ لومِ البشَر، وغدرِ الأصحابِ المزيَّفين، ودناءَةِ المدَّعين بالصداقةِ كذباً ورياءً.

فأنَا أعلمُ الناسِ بمَا يُضمرونهُ في قلوبِهِم، وما يختزنونهُ بأفكارِهِم. وتأكيداً لمَا أقولُ، فإنِّي كتبتُ تحتَ رسمي الفوتوغرافي في كتابي" كلمات"- وما كان عُمري ليتعدَّى السبعةَ وعشرينَ عاماً- الجملةَ التالية:

"حينمَا تشكُّ بأقربِ المقرَّبينَ إليكَ تبدأُ في فهم حقائقِ الكون، وتتكشَّفُ لكَ أسرارٌ مكنونةٌ كنتَ جاهلاً إيَّاها. فكُنْ على حّذَر، وإيَّاكَ والسقوطُ بشركِ مَنْ يدَّعونَ الإخلاصَ لكَ وما حقيقتُهُم إلاَّ ذئابٌ كاسرةٌ يرتدونَ أثوابَ الحملانِ الوديعة".

هذا ما كتبتُهُ عندَمَا كنتُ في شرخِ الشباب، فكيفَ لي أنْ أَثقَ بأحدٍ بعدَمَا حلبتُ منَ الدَهرِ شطريه، وبلغتُ منَ العُمرِ أرذَلَه!

وبعدْ فإنِّي أَهيبُ بالقارئ ليمتطيَ الطائراتِ معي، وليجوبَ البُلدانَ التي جبتُها، ويزورُ المتاحفَ التي بهرتْني. وقدْ دوَّنتُ رحلتي، ثمَّ دفعتُها إلى المطبعةِ فجاءَتْ على الصورةِ التي يجدُهَا القارئُ بينَ يديه. فإنْ حازتْ إعجابَه، فهذا يزيدُ سروري ويُضاعفُ جُهدي، ويحفِّزُني على مواصلةِ إخراجِ بقيَّةِ رحلاتي ليتمتَّعَ بمحتوياتِهَا القرَّاءُ. والسلام.

 

 

                                المرحلةُ الأوُلى

                 من 26 حزيرانْ 1970 حتَّى 6 تمُّوز 1970

 

                 الكويتْ- البَحرَيْن- قطَر- دُبَيّ- الشَّارقة- الفُجَيرة

 

 

 

26 حزيرانْ 1970

إستيقظتُ باكراً لأنَّني مزمعٌ السَّفَر، مساءَ اليومِ، إلى الكُوَيتْ، فالبحرَيْن، فالدوحةِ، فدُبَيّ ومُلحَقاتِها- الفُجَيرةِ وأُمِّ القيوين، فالشارقةِ، فرأسِ الخيمةِ، فعجمان الخ الخ...

وقدْ استهلَّيتُ صباحي بكتابةِ مقدَّمةٍ لكتابي الذيْ أسْمَيتُه:

               "مختاراتٌ من كُتُبِ الدكتور داهشْ"

أي إنَّني إنتخبتُ مجموعةً ممَّا كتبتُهُ منذُ 39 عاماً، وهي موزَّعةٌ في شتَّى الكُتُبِ التي أَلَّفتُها ولمْ تُطْبَعْ بعِد.

وقد جمعتُها في كتابٍ، وسلَّمتُها إلى الشابِّ الأديبِ إيليا حجَّار، لتولَّى طبعَهَا في سِفرٍ واحدٍ، بأثناءِ غيابي في هذهِ الرحلةِ القصيرةِ.

 

 

 الإخوةُ والأَخواتُ بتوافدون

وابتدأَ الإخوةُ والأخواتُ يتوافدونَ إلى منزلي بقصدِ توديعي. وامتلأتْ الغُرفُ بِهِم.

وقد تحدَّثْنَا في مُختلفِ المواضيع، وشتَّى الشؤونِ والشجون. وما إنْ وافتْ الساعةُ السادسةُ إلاَّ ثُلثاً حتَّى استقلَّيْنَا السيَّارة- سيارةَ الأخِ النبيل فريد فرنسيس، يتبعُنَا رتلٌ منَ السيَّاراتِ التي يستقلُّهَا الإخوةُ والأَخوات. فبلغْنَا مطارَ بيروت في تمامِ الساعةِ السادسةِ مساءً. ترجَّلْنَا من السيَّارةِ، أنَا والأختُ العزيزةُ(م) تتبعُهَا كريمتُها، فالدكتورُ فريد أبو سليْمَان. وكذلكَ ترجَّلَ الإخوةُ والأخواتُ، وكان عددهُمْ لا يقلُّ عن الأربعين. وأُخِذتْ لنَا صورٌ سينمائيةٌ وفوتوغرافية عديدة.

وفي تمامِ الساعةِ السابعةِ إلاَّ ثلثاً هبطْنَا إلى قاعةِ الإنتطارِ، ومكثنَا فيها نصفَ ساعةٍ أُذيعَ بعدَهَا وجوبُ ذهابِنَا إلى الطائرة. وصعدْنَا إلى سيَّارةِ المطارِ المتَّسعة، فأقلَّتنَا الطائرةُ وهي من نوعِ بوينغ رقم 707، وتستوعبُ 144 راكباً.

وكانَ الإخوةُ واللأخواتُ قد احتلَّوا شرفةَ المطار، فراحوا يُحيُّوني أنَا والأخَ الحبيبَ سليم قمبرجي والأختَ أوديتْ كارَّا، ونحنُ كُنَّا نُبادلُهُم التحياتِ الحُبِّيةَ الصادقة.