info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى " الرحلاتُ الداهشيَّةُ حولَ الكُرَةِ الأَرضيَّة الرحلةُ السَّادسةُ"

 الرحلاتُ الداهشيَّةُ

 حولَ الكُرَةِ الأَرضيَّة

                               

 الرحلةُ السَّادسةُ

 عَام 1972

 

أُشبِّهُ نفسي بسَفينةٍ صغيرةٍ

تتقاذفُهَا لُجَجُ المُحيطِ الثَّائِر الصَّاخب،

وهيَ وحيدةٌ بينَ أَمواجِهِ المتلاطمَةِ الهَوجَاءِ

ترقُبُ فرجَ اللهِ العظِيم،

وتومِّلُ في اعجوبةٍ

تُنقذُهَا من ذلكَ العذابِ المُقيم،

وتبعدُ بهَا عن هاتيكِ الأَنواءِ العاصفةِ المُزمجْرَة،

ولكنْ بدون جَدوى.

 

                                                      داهشْ

                                                  من كِتابِ"كلمات"

 

 مقدِّمة

لأَدبِ الرحلةِ وجهٌ جذَّابٌ في الآدابِ العالميَّةِ. وقدْ تأَلَّقَتْ في فلَكِهِ أَسماءٌ كثيرةٌ في مختلفِ الشعوبِ والعُصورِ. لكنَّ اللغةَ العربيَّةَ لمْ تعهَدْ في القرنِ العشرين أَديباً وصفَ مُشاهداتِهِ وانطباعاتِهِ وصفاً صادقاً أَميناً، في رحلاتٍ واسعةِ الدوائرِ وشاملةِ الفوائد، كالدكتورِ داهش. فرحلاتُهُ تنبسطُ على حوالى ثلاثينَ مُجَلَّداً تُغطِّي القارَّاتِ الرئيسةَ بأَهمِّ حواضرِهَا ومعالمِهَا المُمَيَّزة.

وهذهِ الرحلةُ التي تؤلِّفُ الجزءَ السادسَ منْ سلسلةِ "الرحلات الداهشيَّة حولَ الكُرةِ الأَرضيَّةِ" استغرقَتْ 52 يوماً (من 15أيَّار إلى 6 تمُّوز 1972)، وشملَتْ كثيراً منَ المُدُنِ الأُروبيَّة.

 

أَ- عالمُ الفَنِّ

لا ريبَ في أَنَّ ولعَ مُؤَسِّس الداهشيَّة بالفنِّ دفعَهُ إلى البحثِ عنْ كنوزِهِ في مختلفِ أَرجاءِ العالَم، وكانَ منْ أَهَمِّ الحوافزِ لارتحالِهِ شبهِ الدائم مدَّةَ خمسةَ عشرَ عاماً. وإذا حصيلةُ أَسفارِه أُلوفٌ منَ القطعِ الفنيَّةِ الرائعةِ التي انتقاهَا بمحبَّةٍ وعنايةٍ كأَنَّهَا من جُملةِ مُختاريه، حتَّى كوَّنَ منْهَا مُتحفاً يُضاهي المتاحفَ العالميَّةَ.

وفي هذهِ الرحلةِ، كمَا في كثيرٍ غيرِهَا، ذِكرٌ لعشراتِ المتاحفِ التي زارَهَا المؤلِّفُ، وأَبدى رأيَهُ في معروضاتِهَا؛ وأَحكامُهُ مبنيَّةٌ على البحثِ والتجربةِ الطويلةِ. فإذا سمعتَهُ يقولُ، بعدَ أَنْ شاهدَ كنيسةَ وندسور حيثُ دُفِنَ الملوكُ وعظماءُ البريطانيِّين:" تلفُّكَ الروعةُ لمشاهداتِهَا، وتخشعُ للفنِّ العظيمِ الذي يبرزُ فيهَا من قمَّةِ رأسِهَا حتَّى أَخمصِ قَدمِهَا"، عِلماً بأَنَّ رأيَهُ هذا ينطبقُ على كثيرٍ منَ المتاحفِ التي زارَهَا، فإنَّكَ تسمعُهُ يقول، في موقفٍ آخر:" الشيءُ الذي يُطلقونَ عليهِ اسمَ "سريالزم" و"أَبْستره" هو تشويهٌ للفنِّ الحقيقيّ، وهو في حقيقةِ الأَمرِ تدجيلٌ رخيصٌ لا قيمةَ له على الإطلاقِ. والجُمهورُ الذي صدَّقَ بأَنَّ "السريالزم" هو فنٌّ إنَّمَا هو مخدوعٌ من قِمَّةِ رأسِهِ حتَّى أَخمص قدَمِهِ.

ومن تكاثر اللوحاتِ الفنِّيَّةِ الرديئةِ في المعارضِ والمتاحفِ والفنادقِ يَستخلصُ:" أَ،َّ الثقافةَ الفنِّيَّةَ معدومةٌ عندَ الرأيِ العامِّ حتَّى في العواصمِ الأمريكيَّةِ والأُروربيَّة."

وغِبَّ زيارتهِ لبعضِ المتاحفِ الرائعةِ بمحتوياتِهَا، يتساءَلُ متأسِّفاً تساؤُلَ المُتجاهلِ العارف:" متى يُصبحُ للعربِ مُتْحفٌ فنِّيٌ متى؟ لكنَّ كلمةَ "متى" لا ولنْ تُعطي ثمارَهَا مطلقاً."

وحُبُّ الدكتورِ داهش للفنِّ الرائع يتَّضحُ عمقُهُ وصدقُهُ في تتبُّعِهِ لروائعِهِ حيثُمَا وُجدَتْ، ليسَ في المتاحفِ فقطْ، بل في المزاداتِ العلَنيَّةِ التي يشتركُ فيهَا، وإنْ غلا  الثَّمنُ، كمَا في المعارضِ والمتاجرِ والقصورِ والكنائس، بلْ حتَّى المقابر.

فقدْ زارَ مقبرةَ الكلابِ التي تبعدُ ثُلثَ ساعةٍ عن مونمارتر في فرنْسَا، ووصفَ لنَا ما رآهُ فيهَا من تماثيلَ رائعة، كمَا أَعربَ عنْ تأَثُّرِهِ منْ مشهدِ عشراتِ الرجالِ والنساءِ الذينَ يتوافدونَ إلى المقبرةِ حاملينَ أَضاميمَ منَ الزُهورِ، ليضعوهَا على قبورِ مَنْ فارقَهُم منَ الكلابِ والهِرَرةِ... وذكرَ عباراتِ الأَسى المؤَثِّرة التي نُقِشَتْ على حجارةِ الرموسِ الرخاميَّةِ التي اعتلتْهَا تماثيلُ الكلاب.

 

ب- معالمُ العُمرانِ.

إلى جانبِ روائعِ الفنِّ، كانتْ معالمُ العُمرانِ المتميَّزةِ تجتذبُ انتباهَه، وكذلكَ المخترعاتُ الحديثةُ والمصنوعاتُ التي تشهدُ على براعةِ أَصحابِهَا.

وجديرٌ بالذكرِ أَنَّ مؤَسِّسَ الداهشيّةَ لمْ يكُنْ يكتفي بمَا يسمعُهُ أو يقرأُهُ منْ معلوماتٍ، بل كانَ أَيضاً يتحقَّقُ بعينيهِ وعقلهِ، ثمَّ يُرسلُ أَحكامَهُ؛ فيزورُ، مثلاً، مصنعَ البروسلينَ المشهورَ باسم "دِلْف"، في هولندا، ويُعاينُ بنفسِهِ كيفيَّةَ صُنعِ الأَواني الجميلة؛ ويُشاهدُ، في النروجِ، الطَّوفَ" كونتيكي" الذي عبرَ بهِ (هيار دال) المُحيطَ الهادئ عامَ 1947، فلاَ يقتصرُ على وصفهِ والإِدلاءِ بالمعلوماتِ التاريخيَّةِ عنْه، بل يستنتجُ أَنَّ نجاحَ الرحلةِ بذلكَ الطَّوفِ المصنوعِ منْ خشب "البالز" يُبرهنُ أَنَّهُ كانَ بإمكانِ شعوبِ أَمريكا الجنوبيَّةِ القديمةِ استعمالَ أَمثالِهِ لتقطعَ المُحيطَ وتصلَ إلى جزُرِ البولينيزيا.

وهو إذْ يُدلي بنبذاتٍ جغرافيَّةٍ عنْ البُلدانِ التي زارَهَا، يلتفتُ أَحياناً إلى التاريخِ موَضِّحاً ومُعَلِّلاً، فتعلم، مثلاً، أَنَّ هلسنكي اجتاحتْهَا النيرانُ عام 1818، فأَبادتْهَا، ثمَّ أُعيدَ تخطيطُهَا وبناؤُهَا، وأَنَّ مدينةَ أُوبسالا السويديَّةَ أُسِّسَتْ في القرنِ الحادي عشَر، وقطنَ فيهَا قديماً شعبُ الفايكنْغ الذين تعاطَوا التجارةَ معْ العربِ لفترةٍ منَ الزمنِ، فباعُوهَا الجُلودَ والفِراء.

وهو إذْ يصفُ أَهمَّ القُصورِ والمتاجرِ التي زارَهَا، يُزوِّدُكَ أَحياناً بمعلوماتٍ إِحصائيَّةٍ عنْهَا؛ فتعلَم، مثلاً، أَنَّ متجرَ هارودس، في لُنْدُن، يُعَدُّ الثاني في العالمِ منْ حيثُ الضخامةِ، وأَنَّهُ أُسِّسَ سنة 1849، وبلغَ عددُ العاملينَ فيه، عامَ 1967، 5500 شخص، كمَا بلغَ مبيعُهُ السنويّ 35 مليون جُنيه إسترلينيّ، وأَنَّ لهذا المتجرِ 240 فرعاً.

كذلكَ فهو لا يَكتَفي بأَنْ يُعطيكَ عددَ الجُسُورِ أَوْ الجُزُرِ أَو البُحيراتِ أَو المرافئ التي تمتازُ بهَا البلدانُ التي أَمَّهَا، بلْ يُعطيكَ أَحياناً نتائجَ اقتصاديَّةً لمَا يصفُهُ؛ فيدَعُكَ تعلم، مثلاً، أَنَّ السُّويد أَصبحَتْ مُصدِّرةً للأَخشابِ إلى مختلفِ أَنحاءِ العالَم، لأنَّ ستِّينَ بالمئةِ منْ مساحتِهَا مُغطَّاةٌ بالأَشجارِ.