info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى " الرحلاتُ الداهشيَّةُ حولَ الكُرَةِ الأرضيَّةِ الرحْلةُ الرابعَةُ"

 الرحلاتُ الداهشيَّةُ

حولَ الكُرَةِ الأرضيَّةِ

 

 

الرحْلةُ الرابعَةُ

 عام 1971

 

 

اليونَانْ- ليبيَا- مصْر

 

 زَوْرَقُ الأَمل

 

أيَّهَا الملاَّح،

دعنِي أَستقِلُّ زوْرَقكَ الذهَبيّ،

وأُبحرُ بهِ في متَاهَةِ الأُوقيانُوس الّلانهَاني،

ضارباً في فلَوَاتِهِ الفَيروزيَّةِ الرائعةِ الجَمَال،

صاعداً فوقَ أَمواجِهِ الهَادرَةِ المهيبَة،

هابطاً إلى أَعماقِهِ السَّحيقَةِ الأَغْوار،

تائهاً في أَبعادِهِ المجهُولةِ المعَالِم،

قصيّاً عن عوَالمِ الإِثمِ، ومُدُنِ الرذيلة،

وأَمكُثُ في رحْلَتي العجيبةِ أَعواماً فأَعواماً،

باحثاً عنْ (مدينةِ الأَحلام) حيثُ لا يُوجدُ أَنام.

آه؛ ما أَجملَ عالمَ الحُبِّ الحقيقيّ، ومَا أَبْهَاه!

وما أَقبحَ الأَكاذيبِ بمَا حواه!

 

                                                       دَاهِشْ

 

 مقَدِّمة

 بقلمِ المُحامي خَليل زَعتر

رحلةُ الدكتور داهشْ إلى اليونان فليبيَا فمصْر هي الرحلةُ الرابعةُ في سلسلةِ "الرحلاتِ الداهشيَّةِ حولَ الكُرةِ الأرضيَّةِ" التي تَنشُرُهَا، تِباعاً، "دارُ النَّارِ والنُّورِ"، بِحُلَّةٍ أَنيقةٍ فخْمةٍ، وإِخراجٍ رفيعِ المستوى، وطِباعَةٍ مُتقَنةٍ، مزيَّنةٍ بصُورٍ فوتوغرافيَّةٍ ورُسُومٍ فنيَّةٍ لمَا زارَهُ المؤَلِّفُ من أماكنَ في رِحلتِهِ التي استمرَّتْ خمسةً وسَبعينَ يوماً: يومان منْهَا في اليونانِ، وسَبعةُ أيَّامٍ في ليبْيَا، وستَّةٌ وستُّونَ يوماً في مصر.

ولعلَّ أبرزَ ما يَطبعُ أدبَ الرحلةِ عندَ الدكتور داهش الدقَّةُ في وصفِهِ لتحرُّكاتِهِ وسَكَناتِهِ. فالمؤلِّفُ، منذُ وصولِهِ إلى المطارِ، لا، بلْ منذُ مغادرتِهِ منزلَهُ حتَّى عَوْدتِهِ، ثانيةً، إليه يصفُ مشاهدتِه، ويُدوِّنُ إنطباعاتِه، ويُطلعُنَا على مقابلاتِهِ وأعمالِهِ، ويُدهشُنَا بدقَّةِ ملاحظَتِه، وسَعَةِ إطِّلاعِه. وقد خُيِّلَ إليَّ في أثناءِ قراءَتي لمخطُوطَةِ هذهِ الرحلة، أنَّني كنتُ رفيقَ الدكتور داهشْ في سَفرِه: صعدتُ معهُ إلى الطائرةِ، ورافقتُهُ في التاكسي، وساكنتُهُ في الفُندقِ، وصحِبتُهُ في تَجوالِه، وشاركتُهُ في آرائِهِ وأَفكارِهِ وتصرُّفاتِه. ولفَتَتْ نظَري طريقةُ معيشَتِهِ في بَسَاطتِهَا وقَسَاوتِهَا، واستَرعَتْ إنتباهي نوعيَّةُ إهتمامَاتِهِ وخبرَتِهِ العميقةِ في النفسِ البشريَّة، وأَذهَلَتْني ظاهراتُهُ الروحيَّة، وخشعتُ معْهُ أمامَ الأمكنةِ الأَثريَّةِ بجلالِهَا وروعَتِهَا وما ترمزُ إليهِ من حضارةِ الشُعوبِ ورُقيِّهَا، وصمَتُّ، متأَمِّلاً، معهُ، عظمةَ الفنِّ في المتاحفِ وما تَحويهِ من لوحاتٍ فنيَّةٍ ومنحوتاتٍ رائعةٍ، وكُنُوزٍ نادرةٍ، مستفيداً من تقييمهِ لهَا؛ ولا عَجَبَ! فكمَا إنَّ الدكتورَ داهشْ يَهوى السفرَ والتِرحالَ، فإنَّهُ، منذُ نُعومَةِ أَظفَارِهِ مولعٌ بالفنِّ، جامعٌ لتُحفهِ وكُنُوزِهِ، حتَّى إستطاعَ، في خلالِ نصفِ قرنٍ، وبجهدٍ شخصيٍّ تعجزُ عنهُ مؤَسَّساتٌ كبيرةٌ، أَنْ يقتَني عدداً وافراً من اللوحاتِ الفنيَّةِ والتُحفِ النفيسةِ لأَشهَرِ الفنَّانينَ العالميِّين؛ ولا شكَّ بأَنَّهَا ستكُونُ، في المستَقْبلِ القريبِ، نَواةَ المُتحفِ الداهشيّ.

ولا بدَّ لِمَنْ يُطالعُ هذه الرحلةَ منْ أنْ يُدركَ أنَّ حُبَّ المؤلِّفِ للسَفرِ وحُبَّهُ للمطالعةِ متلازمان؛ فالكتابُ رفيقُهُ الدائمُ، بلْ خدينُهُ وسميرُهُ، في حَلِّهِ وتَرحالِه؛ وقلَّمَا يمضي يومٌ لا يُنهيه بقراءَةِ كتابٍ أو صحيفةٍ؛ حتَّى أنَّهُ يُثبتُ، أحياناً، فقراتٍ من الكُتُبِ التي يُطالعُهَا في رحلتِهِ، كالفصلِ الذي أَثبَتَهُ عن الرحَّالةِ العظيمِ ماجلاَّن وكيفيَّةِ موتِهِ، وكذلكَ فقراتٍ عن موتِ الإسكندرِ الكبير. فالقراءةُ طعامُ المؤلِّف المفضَّلِ؛ فهو يقولُ :" الكتبُ هي طَعَامي المفضَّلُ، ونَهَمي لإلتهامِ مُتَنوِّعاتهَا لا يُشبعُ فُضُولي مطلقاً مهمَا طالعتُ منْهَا، فأنَا أقرأُهَا وأَتذوَّقُ حلاوتَهَا، وأَنتشي بمَا تَحويهِ من كُنُوزِ المعرفةِ التي أَودُّ فضَّ مغاليقِهَا، وإستيعابَ أَسرارِهَا المكنونةِ دوماً وأَبداً"؛ بل هي كالدِماءِ تَسري في عروقِهِ :"حُبِّي، بلْ شَغَفي الشديدُ لمطالعةِ مختلفِ أَنواعِ الكُتبِ... يسري مع الدماءِ في عروقي"(1)( من كتابِ"كلمات الدكتور داهش" في طبعتِهِ الثانية 1983، صفحة 82) . ومَنْ تسنَّى له معرفةُ الدكتور داهش وزيارتُهُ يعرفُ أنَّه يملكُ مكتبةً خاصَّةً تضمُّ زهاءَ مئتَيْ أَلفَ مجلَّد، في مختلفِ فُروعِ المعرفَةِ وشتَّى مواضيعِهَا.

ومَا يُضفي على رحلةِ الدكتور داهشْ طابعاً موضُوعيّاً علميّاً إعتمادُ المؤلِّفِ التصويرَ الفوتوغرافيّ والسينمائيّ للأَمكنةِ التي زارَهَا، فتَقْترنُ الكلمةُ المكتوبةُ عندهُ ببرهانٍ حسِّيٍّ تصويريّ، ممَّا يُشكِّلُ تُراثاً حيّاً للأَجيالِ الآتيةِ، يَستندُ إليه الباحثونَ في دراساتِهِم أَحوالَ تلكَ الشُعُوبِ وعاداتِهَا وتقاليدَهَا؛ وتُصبحُ هذهِ الأفلامُ مع مُرورِ الوقتِ دليلاً حاسماً على دقَّةِ ما وردَ في هذهِ الرحلةِ.

وأخيراً قدْ تجدُ في كُتبِ الرحلاتِ التي وضَعَهَا الأُدباءُ الآخرونَ وَصْفاً دقيقاً لعاداتِ الشُعُوب، والأماكنِ الأَثريَّةِ والمتاحفِ وحدائقِ الحيواناتِ والأَسواقِ التجاريَّةِ، والعُماراتِ السكنيَّةِ والملاهي والأَنديةِ والفنادقِ والمطاعِم، وبإختصارٍ لكلِّ ما تقعُ عليهِ عينُ الكاتبِ؛ ولكنَّكَ، بالتأكيدِ، لنْ تجدَ رحَّالةً- ولا يُمكنُكَ أنْ تجدَ رحَّالةً- يقومُ بأعمالٍ تخْرقُ نواميسَ الطبيعةِ كالدكتور داهش. وغايتُهُ من هذهِ الأَعمالِ أَو الظاهراتِ الروحيَّةِ هيَ إثباتُ وجُودِ الله وقُدرتِهِ ووجودِ عوالمَ روحيَّةٍ تسمو بدرجاتٍ عن عالمِنَا المادّي. فقدْ جرَتْ على يديْهِ أثنَاءَ وُجودِهِ في ليبْيَا ومصْر ظاهراتٌ روحيَّةٌ إثباتاً وتدليلاً على وُجُودِ الروح أَمامَ أَشخاصٍ عديدينَ ذوي ثقافةٍ عاليةٍ، ومراكزَ إجتماعيَّةٍ راقيةٍ، وقدْ شاهدوا عظَمةَ الرُّوحِ تتجلَّى على يدَي الدكتور داهشْ وتجترحُ الخوارقَ والمُعْجِزاتِ في عصرٍ غارقٍ في مادِّياتِهِ.

وهكذا يخرجُ القارئُ اللبيبُ من المُتعةِ والفائدةِ إلى شيءٍ يفوقُهُمَا سموًّا، ويبدأُ رحلةً في ذاتِهِ لإكتشافِ مجاهلِهَا، وإستقراءِ ميولِهَا، والبحثِ عنْ مصيره، والسؤالِ عن معنى وجودِه...

وعلى الجُملةِ، فإنَّ هذهِ الرحلةَ دليلٌ حيٌّ يَرجعُ إليهِ كلُّ إنسانٍ يعشقُ السَّفرَ، ويُحبُّ الإطِّلاعَ على المعالمِ الحضاريَّةِ للشعُوبِ التي قصدَهَا المؤَلِّفُ في رحلتِهِ؛ وهذهِ الرحلةُ هي، أيضاً، سِفرٌ حيٌّ لعالِمِ الإجتماعِ، بمَا تضمَّنتهُ من ملامحَ عنْ عاداتِ الشعوبِ وحياتِهَا وطُرُقِ معاشِهَا؛ ومرجعٌ لا غنًى عنهُ للمؤّرِّخِ المدقِّق، ولرجلِ الإقتصادِ إذْ يجدُ فيهَا فائدةً عندَ دراستِهِ تقلُّباتِ الأَسعارِ وتطوُّرَهَا وإرتفاعَهَا المّذهل في سنواتٍ معدودةٍ. والرحلةُ فوقَ كلِّ هذا وذاك، غذاءٌ للروحِ بمَا حوَتْهُ منْ دعوَةٍ صريحةٍ مدعومةً بالبراهينِ الحسِّيَّةِ الملموسةِ إلى الإيمان بعالمِ الروحِ والرجوعِ إلى جوهرِ الأديانِ السماويَّةِ المُنزَلةِ.

وفي نهايةِ المطافِ ركبتُ معهُ الطائرةَ في إيابِهِ إلى لُبنان مختصراً خمسةً وسبعينَ يوماً من التَجوالِ والسَّفرِ والمتعةِ والفائدةِ بساعاتٍ معدُودةٍ غبرَ صفحاتِ هذهِ الرحلةِ المُشَوِّقة.

 

                                                       خليل زعتَر

                                                بيروت في 20نيسان 1983

 

 

 

21شباط 1971

التأهُّبُ للسَّفرِ إلى أثينَا

نحنُ اليومَ في 21 شباط عام 1971، وقدْ مضى على وجودي في بيروتَ خمسةَ عشرَ يوماً منذُ قَدِمتُ من روما في 7شباط 1971.

نهضتُ من فراشي في الساعةِ الخامسةِ، ورتَّبتُ حقائبي لأنَّني مُزمعٌ السفرَ، اليومَ، إلى أثينَا (اليونان) مع الأَخْ سليم قمبرجي.

وما وافتْ الساعةُ الثامنةُ حتَّى ابتدأَ الإخوةُ والأَخواتُ بالمجيء إلى منزلي بقصدِ تَوْديعي.

وفي تمامِ الساعةِ الثانيةَ عشرةَ والنصفِ، استقلَّيْنَا السيَّاراتِ ووجهتُنَا مطارُ بيروت، فبلَغناهُ في الواحدةِ إلاَّ رُبعاً بعدَ الظُهر، وكُنَّا عشرَ سيَّاراتٍ استقلَّهَا خمسونَ أخاً وأُختاً من الداهشيِّين. ووجدتُ في المطارِ رتلاً من الإخوةِ ينتظرونَ قُدُمي، فشكرتُهُم على عواطِفِهِم. وبعدَ أنْ أُخِذَتْ لنَا بضعةُ مشَاهدٍ سينمائيَّةٍ ودَّعتُهُم فرْداً فرْداً، ودخلْنَا إلى صالونِ المطارِ؛ وإذا بالميكروفون يُذيعُ وجوبَ توجُّهِنَا إلى الطائرةِ؛ ففعلْنَا، ودخلنَاهَا.

 

 

 

الطائرةُ تُحلِّقُ بنَا

واشتعلَتْ مُحرِّكاتُ الطائرةِ، ثمَّ دَرَجَتْ بِنَا؛ وكانتْ الساعةُ الثانيةَ إلاَّ 12 دقيقة؛ واستمرَّتْ تسيرُ خمسَ دقائقَ كاملة، ثمَّ أطلَقَتْ لنفْسِهَا العنانَ بأقصى ما لديْهَا من قوَّةٍ؛ وبعدَ نصفِ دقيقة، كنتُ أنظرُ في خلالِهَا لساعتي اليدويَّة، ارتفعَتْ في الفضاء، وراحتْ تشقُّهُ بجَبَروت؛ وكانتْ الساعةُ، إذْ ذاكَ، الثانيةَ إلاَّ سبعَ دقائق تماماً. وأعلنَ الميكروفون أنَّ الطائرةَ ستُحلِّقُ على إرتفاعِ 31 ألفَ قدم، وستَصلُ إلى أثينَا في ساعتين.

نظرتُ من نافذةِ الطائرةِ، فإذا بالغيومِ تملأُ صفحةَ السماءِ، والرياحُ تدفعُ السُحُبَ الكثيفةَ بعكسِ سيرِ الطائرة. وكانتْ الرؤيةُ غيرَ جيِّدةٍ. وفي الساعةِ الثانيةِ و6 دقائق، أصبحتْ الطائرةُ كريشةٍ في مهبِّ الرياحِ العنيفةِ، تتلاعبُ بهَا مثلمَا يتلاعبُ الصِّبيةُ بالأُكَر. وفي تمامِ الساعةِ 3 إلاَّ ثلثاً، انقشعتْ الرؤيةُ نوعاً، وأُذيعَ أنَّ الطائرةَ تهبطُ من إرتفاعِهَا الشاهق رويْداً رويْداً، لأنَّهَا ستصلُ إلى مطارِ أثينَا.

وما لبثتُ أنْ شاهدتُ أبنيةَ الضواحي في أثينَا؛ وكانِ لسانُ البحرِ ممتداً، ومياهُهُ الزرقاءُ كأنَّهَا الفيروز. وحلَّقَتْ الطائرةُ فوقَه؛ وكانتْ الأبْنيةُ تحتَنَا؛ نشاهدُهَا، ونشاهدُ السيَّاراتِ وهي تسيرُ في الطرقاتِ الملتويةِ التواءَ الأَفاعي. وكانتْ الغيومُ تضربُ سرادِقَهَا فوقَ المدينةِ، والأمطارُ تتساقطُ... إنَّه فصلُ الشتاء.

وفي تمامِ الساعةِ 4 إلاَّ رُبعاً، هبطتْ بنَا الطائرةُ، فخرجْنَا منْهَا، والأمطارُ تغمرُنَا، وشعرْنَا بلذعةِ بردِ شباطَ الحزين.