info@daheshism.com
مقدِّمة إلى "في هيكل الدكتور داهش ومحراب أدبه"

 

في هيكل الدكتور داهش

 

ومحراب أدبه

 

 

تأليف

 غازي براكس

دكتور دولة في الآداب

 

 

إلى ملاك

 

لقد طلعَ الفجر!... فإليَّ إليَّ يا ملاكي الّلطيف

حوّمْ في الفضَاء الرحب الواسع

وخُضْ في الخِضمّ الّلجِب الشَّاسع

ثم اصعدْ والمسْ روحي لمسةً منعشَةً رقيقة

وهيّا أكشفْ لي عَن أسْرار الحقِيقة

وهنا عاد الملاكُ فحلّق ، فإذا لجناحيه خفقةٌ ورفيف

 

 

                                                                                   الدّكتوُر دَاهِش

                                                         من كتاب" بروقٌ وَرعُود"

 

 

داهش الأديب المعجز

 

هذه الدراسة مقتبسة من الفصل الرابع من الجزء الأوّل

من كتاب "داهش الهادي الحبيب" وهو في ثلاثة أجزاء

 

 

ثقافته

 

من يتتبَّع نشأة داهش والظروف القاسية التي مرَّ فيها طفلاً وحدثاً وشابّا يتعذّر عليه أن يؤكّد أنه سيتمكَّن من تحصيل ثقافة ذات قيمة.

فإنَّه إثر وفاة والده سنة 1920 ، وُضِعَ في شبه مَيْتَم للأمريكان في غزير، لكنَّ صحَّته سرعان ما ساءَت . فلم يُمضِ في المدرسة أكثر من ثلاثة أشهر كانت كلَّ عهده بالدراسة النظامية . لكنَّ الفتى العجيب كان يشعر بميْلٍ قويٍّ جدّاً إلى تحصيل المعرفة واكتشاف أغوارها وأبعادها ، وقد أيَّده الله بذكاء خارق اقترن فيه الإدراك النافذ السريع بالذاكرة الفائقة التي يندر أن يسقط شيء منها بعد أن تستوعبه . فأكبَّ يُطالع ، بنهم ، كتاباً إثر كتاب . وإذْ كانت حاله ، في حداثته، عسيرةً لا تسمحُ له بشرائها ، فقد كان يستأجر معظم ما يقرأه .

ومع أنَّ حياته ، في مراهقته وشبابه ، كانت مُهدَّجة بالارتحالات المستمرّة بين لبنان ومُدن فلسطين والبلاد العربية ، وحافلة بالاهتمامات الروحيَّة واتِّصالاته بالناس ، فإنَّه استطاع ، في مدّة وجيزة ، أن يتحوَّل من مُتلقٍّ للثقافة الى مُعْطيها . فقد باشر وضع مؤلفاته الأدبيَّة الروحيَّة في حوالي العشرين من عمره.

وما أنْ أعلنَ رسالته الروحيَّة للناس ، في إبّان شبابه ، حتى امتلأت ساعات نهاره ومُعظَم ليله باستقبال الوافدين وعقد الجلسات الروحيَّة الإعجازيّة . ولم يمضِ سنتان ونصف على تبشيره القويّ بدعوته حتى بدأ الطغاة يشنّون عليه أعنفَ اضطهاد عَرِفَهُ التاريخ ضدّ صاحب رسالة روحيّة . ومع ذلك، وعلى همومه وأحزانه ، لم ينقطع عن القراءَة والتأليف .

وفي خلال الاثنتي عشرة سنة التي رافقتُهُ فيها قبل هجرته الى أميركا (1963-1975) تكشَّفت لي عظمة ثقافته : إنَّها تمتدُّ من الأدبِ موضوعاً في العربية ومترجماً اليها ، عبر مختلف فنونه ، الى التاريخ والرحلات ، الى الفلسفة والدين ، فإلى العلوم الحديثة كلّها ولا سيّما علوم الفضاء والفلك والإجتماع والإنسان .

وإنَّ أوسعَ مجالٍ ثقافيّ تميّز به وتفرَّد عن سائر الناس هو المجال الفنيّ ، بلا ريب .  فقد كانت له خبرة في الفنّ ، ولا سيما الرسم منه وملحقاته ، مُذهلة . ولم تكن الأخاديع الفنية العصرية من تكعيبيَّة وغيرها لتنطلي عليه. وقد استطاع ، في السنوات التي احتجب فيها عن الناس ، إثر اضطهاده ، أن يكتب بمساعدة بعض الداهشيين أكثر من نصف مليون رسالة للفنّانين والمعارض والمتاحف العالمية، الأمر الذي مكّنه من أن يجمع ألوف الكتب الفنيّة النفيسة ، وألوف المنحوتات واللوحات الفنية الأصيلة التي أرادها ذُخراً ثميناً للداهشيّة . ذلك فضلا عن جمعه مكتبة فكريّة تضمُّ نحو ستين ألف كتاب في مختلف المجالات ، وباللغات العربية والفرنسية والإنكليزيّة.

لقد عرفتُ الهادي الحبيب يقرأ بسرعة غير عادية ، ويخطُّ ، أحياناً كثيرة ، تحت الأسطر التي يقرأها . وكان معدّل سرعة قراءته ستين صفحة كبيرة في الساعة الواحدة ، أي ما يُعادل صفحة حاشدة في الدقيقة الواحدة . وكان يجلس، أحياناً ، أكثر من اثنتي عشرة ساعة متتابعة يُنهي خلالها مطالعة كتاب يُناهز الألف صفحة . ولا يقطعه عن قراءَته مَلَلٌ أو جوعٌ أو تَعَبٌ أو شرودُ ذهن . وعلى هذه السرعة ، كان يحفظ معظم ما يقرأه ، ويؤرّخه بالساعة والدقيقة على الكتب نفسها.

أحبَّ في الفنّ أعلام الكلاسيكيين ومن نهجَ على غرارهم ، واستهوته ، بنوع خاص ، الرسوم ذات الموضوعات الاسطوريّة ، وتلك الواقعيّة الغنيّة بمحتواها ومدلولها . وفي الأدب كان له تقدير خاصّ لشكسبير وطاغور وجبران خليل جبران. وكان يُحبُّ كلّ أدب جميل ونبيل وأصيل . أمّا الأدب الفارغ من الصدق ، القائم على مجرّد النحت اللفظي والزخارف والألاعيب البيانية ،  أو ذاك المغرور أو المستهدف إثارة الغرائز السفلية ، فلم يكن يُوله أيَّ اهتمام أو اعتبار . وفي الفلسفة كانت له محبَّة خاصَّة لديوجينس وسقراط وأفلاطون . وفي العلم لأينشتاين .وفي الحكماء الروحيين لبوذا وغاندي وعلي بن أبي طالب. وفي القادة السياسيين والعسكريين للإسكندر ونابوليون وهتلر . أمّا الأنبياء فكان يُوليهم تقديراً خاصّاً ، وقد حرص على مطالعة سِيَر أولئك العظماء ومن ماثلهم، وعلى قراءة مؤلَّفات الكُتَّاب منهم .

وكان صباح كلّ يوم ، ومدى عشرات السنين ، ينهض باكراً ، في نحو الرابعة صباحاً ، الوقت الذي تصل فيه الصحف اليومية ، فيتصفَّح حوالي عشرين جريدة أو مجلَّة عربيَّة، بسرعة غريبة ، واضعاً إشارات مميّزة على المُهم من أخبارها، بحيث تُقَصُّ فيما بعد لتضمَّها ملفّات مبوَّبة حسب الموضوعات .

وكم من مرَّة كنّا نُجالسُه واجمين فإذا به يدفعنا الى جوّ من المرح والفكاهة باستدراجنا إلى مُساجعته أو مُباراته في كتابة موضوع نختاره ، وقد يكون بيننا أدباء وأساتذة مزهوّون بتضلّعهم من اللغة العربية وبامتلاكهم زمام الإنشاء ، فتنتهي المساجعة أو المباراة الكتابيَّة بيننا، على الدوام ، بانتصاره علينا .

 غير أنّ ثقافة الهادي الحبيب الواسعة الفذَّة التي حصَّلها بجُهده الخاص كانت ، أحياناً كثيرة ، تختلط بالمعرفة الروحية التي يُلهمه إيّاها الرُّوحُ العليّ ، بحيث لا نكتشف الأمر إلاّ بعد أن يتركه الرُّوح ، أو يتجلَّى فيه مُعلناً عن نفْسه . فقد سمعتُه عشرات المرَّات يُعْلن لنا ، في سياق محادثاتنا، تواريخ أحداث ماضية ، كنَّا نعْجَبُ من حفظه إيّاها حتى نرتاب بصحّتها فنتحقّق منها في المراجع المختصَّة، فإذا هي في غاية الدقة . ثم ما نلبث أن نكتشف أنّ الرُّوحَ هو الذي كان ينطق فيه مُتَخفّياً .

وأسطعُ ما في هذا المجال الثقافي الإعجازيّ نطقه بمختلف اللغات الأجنبيّة . فالهادي الحبيب لم يكن يجيد إلاّ العربيّة قراءَةً وكتابة ، لكنَّ الرُّوح العليّ كان يحتلّه ، أحياناً كثيرة ، فيحدّث زائريه أو سائليه بلغاتهم المختلفة ، لا سيَّما في حال شرحه التعاليم الروحيَّة الداهشيَّة .

وقد أشرتُ في الفصل الأول من سيرته الى نطقه بالانكليزية إذ كان في المهد مريضاً ، والى محادثته هنديّاً بلغته الهنديّة ، وهو ما يزال صبيّاً . وقد أعلمني الأخ سليم قمبرجي الذي رافقه في رحلته الى أفريقيا السوداء سنة 1971 أنَّه كان يُحادث الزنوج بلغاتهم المحليّة . وقد تسنّى لي أن أراه يُكالمهم في فيلم سينمائي التقط فيه الأخ سليم بعض مشاهد لتلك الرحلة .

كذلك حدّثني الأخ شفيق المقدّم الذي رافقه في رحلته الى نيجيريا أنَّه في 28 كانون الثاني 1971 ، أجرى الهادي الحبيب معجزة أمام الكولونيل جوزف أميني j.Amminy رئيس جمارك نيجيريا الشمالية ، وكان يطلب من شفيق أن يُترجم أقواله للكولونل الى الانكليزيّة ؛ وإذ تعسّرت الترجمة على شفيق طفق الهادي الحبيب ، وقد ارتعش بالرُّوح ، يتكلّم الانكليزيّة ببلاغة وطلاقة غريبتين حتى ادهش مُحدّثه الذي كان يتمتَّع بثقافة انكليزيّة عالية .

كذلك أفضى إليَّ الأخ المهندس جوزف شكّور أنه في 18 كانون الثاني 1974 ، وبحضوره ، اجترح الهادي الحبيب معجزة للآنسة موريال ولكنسن MURIEL WILKINSON، ثم أفاض في شرح المبادئ الداهشيّة بالانكليزية لها ، الأمر الذي أدهش الحاضرين .

وروى حليم دمّوس مؤرّخ الوقائع الداهشيَّة أنه في 27 أيار 1942 ، زار الدكتور داهش صديقه المدّعي العام المركزي الاستاذ ديمتري الحايك في منزله الكائن في طريق النهر من مدينة بيروت. وبعد تبادل الأحاديث المختلفة ، فاجأه الحايك بسؤاله :

هل لك ، يا دكتور ، أن تقرأ في هذا الإنجيل الافرنسي وتُترجم لي ما تقرأه؟ فإذا فعلت – وأنا موقن أنك تجهل الافرنسية- فإنك تكون حقّا قد ملكت زمامَ الروحانيَّة.

وسرعان ما ارتسمَتْ الدهشة البالغة على أسارير وجه الأستاذ ، وذلك عندما شاهد الدكتور داهش قد فتح الإنجيل وأخذ يقرأ بلغة افرنسية صحيحة ؛ ويُترجم ما يقرأه بسهولة وانسجام تامَّين. فصاح ، إذ ذاك ، قائلاً :

  • أقسم بالله أن اللهجة التي تقرأ بها لأفضل من لهجة اليسوعيين الافرنسيين المتعمّقين بدراسة لغتهم... لقد آمنتُ الآن بمقدرتك الروحية وعالم الروح الخالد .

وخلاصة القول إنَّ ثقافة الهادي الحبيب كانت من أوسع الثقافات التي يمكن أن يُحصّلها إنسانٌ في القرن العشرين ، وذلك على ندرة أوقات فراغه . يُضاف اليها معرفة غير بشرية يمدُّه الرُّوحُ العليّ بها في ظروف مفاجئة ؛ أحياناً كثيرة .

ويمكن تبيُّن عظيم حبّه للمعرفة من خلال قولين له . يقول في احدهما :

" أحبُّ الكُتُبَ حُبَّ السكارى للخمر ، لكنّني كلّما ازددتُ منها شربا زادتني صحواً "  

ويقول في الثاني ، وقد دوّنه في الساعة الخامسة والنصف من مساء 10 تموز 1975 "

" أحبُّ مطالعة الكُتب على اختلاف أنواعها . سواء أكانت أدبيّة أم فلسفيّة أم دينيّة أم علميّة . ولي رغبة شديدة بمطالعة كتب الرحلات الافريقية والبحرية الخ الخ... فتراني  استغرق في مطالعتها غائصاً في لججها ، سابراً لأغوارها ، مُنَقّباً في مجاهلها ، وهكذا تمضي الساعات وهي سميرتي في وحدتي دون أن أشعر بتسرُّب الساعات وانقضاء أجلها ، وذلك لاندماجي بما أطالعه من شتّى الحوادث والأحداث الشيّقة".

من يعرف مشاغل الهادي الحبيب المتنوّعة ، واهتماماته الروحيّة الكبيرة ، ورحلاته الكثيرة ، واستقبالاته لعشرات الألوف من الناس ، الناس الذي يقصدونه منذ ساعات الصباح الأولى حتى ساعات الليل المتأخرة ، يتعرّفون الى شخصه ، أو يستفسرون عن الداهشيَّة، أو يسألونه المعونة الماديّة أو المساعدة الروحيّة ، أو يتجسَّسون أخباره.. من يعرف كلَّ ذلك وغيره بعجب لعدد المؤلَّفات الأدبيّة والروحيَّة وسائر الكتابات التي وضعها . لكنَّ العجب من غزارة التأليف سرعان ما يتحوّل إلى عجب من السرعة الفائقة التي يكتبُ الهادي الحبيب بها .

فقد شاهدتُه بأُم عيني ، عشرات المرّات ، وهو يكتب ، بل باراني كما بارى غيري في موضوعات كنّا نختارها ، فاذا به يُحبّرُ عدَّة صفحات في دقائق لا نستطيع خلالها أن ننجز أكثر من عدّة أسطر . لقد كادت كتابته تكون بسرعة تكوُّن خواطره وعواطفه ، وبالضبط بالسرعة التي تستطيع اليد الحثيثة أن تجري فيها على القرطاس مُلبية اندفاقة أفكاره وأحاسيسه. ويُناهز معدّلها كتابة سطر متوسط الطول في ستّ ثوان ، أي كتابة صفحة من عشرين سطراً بدقيقتين فقط . وقد رافقه مؤرّخ الداهشيّة حليم دمّوس في أثناء كتابته " مذكّرات دينار"، ولَمَس ما لمستُه، وشَهِدَ أنَّه كتبه في تسع ساعات موزّعة على سبعة أيّام .

أمّا الميزة الأولى في كتاباته فهي أنه يكتب بعفويّة ، عجيبة ، من غير كدّ الذهن ، ولا التذكّر ، ولا المراجعة ، فالأفكار والانفعالات والعواطف تتزاحمُ في ذهنه وقد اتّخذت أجسادها من الصور والتعابير، لتفيض منه كما يفيض من النبع الماءُ النمير ، أو من الشمس الضوءُ المنير ، أو من الوردة طيبُ العبير ! وندَرَ أن شهدتُه يمحو عبارةً كتبها . فكأنَّ كتابته هي أحاديثه نفسها وقد أُرسلت على سجيّتها ، تارةً يُناجي بها نفسه ، وطوراً يُناجي الله أو الرُّوح أو القِيم العليا أو الحبيب أو الطبيعة ؛ مرَّة يُرسل رأيه في الناس والأحداث ، في الحياة والموت ، مباشرة ، ومرَّةً أُخرى يُرسله، مداورةً، بصوت غيره . إنَّها الحياة سافرةً عارية ، موحَّدةً الجوهر ، متعدّدة الوجوه ؛ وهي الجمالُ بسيطاً عميقاً أخّاذاً يمسح الكائنات والأشياء ، الأحداث والأحوال ، المكان والزمان ، بأجنحته العجيبة !

لقد وضَع الهادي الحبيب حوالي تسعين مؤلّفاً روحيّاً – أدبيّاً – فضلاً عن ستة وستّين كتاباً أسود ومئة وخمسة وستين بياناً أسود في فضائح بشارة الخوري ومخازي عهده ورجاله . وإذ كان أكثرها ما يزال مخطوطاً غير مطبوع ، فمن الصعب إعطاءُ فكرة شاملة مفصّلة وافية عنها . على أنه يمكن تصنيفها ستة أصناف ، لا تدخل فيها الكتابات السوداء :

الصنفُ الأوَّل يضمُّ الكتابات الروحيّة الموحاة ذات الطابع القُدسي ، وهي كتاب الهادي الِإلهيّ ، ومذكّرات يسوع الناصري ، والديانة الداهشيّة ، وأسرار الموت وغيرها ممّا سيُعلن ويُنشر في يومه الموقوت . والكتاب الأوَّل إرشادات وإيضاحات روحيّة أوحتها الأرواح القدسية بأسلوب يغلب عليه الإيقاع المسجَّع . والثاني أوحته روحُ المسيح نفسها ، وفيه رواية حياته غير المعروفة ، ولا سيّما أسرار الأعوام التي ما قبل الثلاثين ، وجلاء لغوامض وألغاز روحيّة كثيرة .

والصنفُ الثاني يضمُّ المؤلّفات ذات الأبعاد الاسطوريّة ، أو غير الأرضيّة ، وفيها : النعيم ، والجحيم ، كلّ منهما في ثلاثة أجزاء ، وعشتروت وأدونيس ، والإلهات الستّ . والأَساطير ، في مفهوم الداهشيّة ، ليستْ جميعها أوهاماً وخرافات ، بل في أساس الكثير منها وقائع أرضيَّة  أو غير أرضيَّة شوَّهتها مفاهيمُ الناس وزوّرتها أقلامهم ، وبيَراعة الهادي الحبيب تستعيد حرارتها وواقعيّتها الأولى . أمّا كتاب النعيم فينطوي على وصف رائع أخّاذ لمشاهد مُفتلذَة من الدرجات العلوية المئة والخمسين حيث تحيا الكائنات المستحقّة في معرفة وغبطة ومجد هيهات أن يُدركها البشرُ إلاَّ بخيالهم . وأمّا كتاب الجحيم فقد طوَّف خيال الهادي الحبيب في دركاتها المئة والخمسين ، فأنطق أهوالها الغريبة وآلامها الرهيبة . وإذا ما قورنت أوصافه النعيميّة أو الجحيميّة بما كتبه مؤلّفون عظام في هذا الموضوع ،  وعلى الأخصّ أليغياري دانتي في الكوميديا الإلهيّة ، فإنك تعجب لتفوّقه في غرابة خياله ، واتساع أبعاده ، وتنوُّع أوصافه ، وغزارة رُؤاه ، وصدق مؤَدَّاه . فكأنّه جوّل بنفسه في العوالم العلويَّة والسفليَّة ، ورأى بأمّ عينه مسرّاتها وويلاتها وأفانين ملذّاتها وعذاباتها ، فوصفها وصفاً حيّاً دقيقاً جعله في متناول المدارك البشريّة .

والصنفُ الثالث يضمُّ المؤلّفات الأدبيّة الروحيّة التي تُصوُّر نفسيَّة الهادي الحبيب في أدقِّ اختلاجاتها وانفعالاتها وتأمّلاتها، وأصدق عواطفها ومطامحها وتصوّراتها . وهي تشمل عدداً من كتبه . وفيها : ضجعة الموت ، ونشيد الأنشاد، ونزوات قلب ، ونشيد الحبّ ، وانجيل الحبّ ، وقدس الأقداس ، ووحي الغاب ، والدهاليز ، وكلمات ، وبروق ورعود ، والقلب المحطّم ، وجحيم الذكريات ، وأسرار الآلهة ، وقيثارة الآلهة ، ونبال ونصال ، وعواطف وعواصف ، وناقوس الأحزان ، وقيثارة الأحزان أو روح تنوح ، والصواعق ، وصواعق داهشية .

ويمكن تصنيفُ هذه الكتب الوجدانيّة أو محتوياتها في ثلاث مجموعات رئيسيّة : مجموعة يتغنّى فيها بالحبّ القويّ والجمال الساحر الفتّان وما لهما من أسر للنفوس وسلطان على القلوب. فيشعرنا بأنَّه قريبٌ منّا ، يُعاني تجاربنا ، ولكن بوعي نفّاذ لواقع الرجل والمرأة ، وروح سامية مؤمَّرة على الشّهوات والنزوات . ومجموعة ثانية يصف فيها غربته الروحيّة بين أناس لا ينتمي إليهم إلاّ بعناصره الجسديّة ، وآلامه من هذه الغربة ، وسأمه من حياة فارغة باطلة ، وحنينه الى العودة الى وطنه الروحيّ الأصيل ، هذا الحنين الذي يشرعُ الموت جسر خلاص ، وحبيباً جميلاً مُنقذاً يناجيه برقّة ومحبّة كما لم يُناجه شاعر من قبل؛ والى ذلك يخشعُ أمام الله والأرواح القدسيّة ، ويصعّد ابتهالات لا أحرَّ ولا أجمل ، ويسخطُ على المظالم والمفاسد وتجّار الدين المرائين وكأنَّه على رؤوسهم انقضاضُ الصواعق وانصبابُ الحِمم . ومجموعة ثالثة يبكي فيها أحبّاءَه وشركاءَه في الجهادِ الذين سبقوه بالانطلاقِ من سجن الأرض ، وفي طليعتهم الشهيدة الأولى ماجدا حدّاد ، ووالدته السيدة شموني ، والأخ الدكتور جورج خبضا.

والصنف الرابع يضمُّ المؤلّفات ذات الأبعاد النقدية الاجتماعيّة والنفسيّة ، وفيها : مذكّرات دينار ، ومذكّرات عتّال ، وأسرار التنويم المغنطيسي ، وفضح المشعوذين باسم التنويم المغنطيسي وهتك تدجيلهم . والكتابُ الأوّل يضعُ المجتمعات البشريّة على المشرحة ، في قصة متسلسلة الأحداث تكاد تغطي النصف الأول من القرن العشرين ، شاملة الحربين العالميتين ، ثمَّ قافزة الى أواخر القرن في رؤيا رهيبة ملهمة يتصوَّر الهادي الحبيب خلالها انفجار حرب عالميّة ذريّة ثالثة تضعُ الخاتمة الفاجعة لحضارة فرغت من نسغ الفضيلة ولبشريّة لم تنجع فيها جهود الأنبياء والمصلحين الحُكماء . وفي سياق القصّة ينتقد الأخلاق الفرديّة والاجتماعيّة ، والقِيَم المزيّفة ، ووعود الدول الكاذبة ، وسعي الإنسان المحموم وراء المال والشهوة ، لا يردعه عنهما شرفٌ ولا ضمير، ومن أجلهما لا يتحرَّج من اقترافِ الجرائم المُنكرة ، بحيث يتأكَّد أنّ هاتين القوّتين هما اللتان تحكمان الأرض ، وفي فلكهما تدور سائر القوى .

والصنفُ الخامس يضمّ الكُتُب التي يصفُ فيها رحلاته الى مختلف أرجاء العالم ، وهي وثائق تاريخيّة واجتماعيّة وفنيّة ذات قيمة كبرى . فالهادي الحبيب كان يصفُ عادات المجتمعات وأخلاقهُم وملاهيهُم ومرافقهُم التجاريَّة بمنتهي الدقّة ، ويصفُ المشاهد الطبيعية والمُشيَّدات العمرانية وصفاً واقعياً يستحضرُ أمامك المنظر. وليس من متحفٍ أو معرضٍ فنّي إلاّ دخله ووصفه ، حتى يُمكن القول إنّ كُتُب الرحلات هي أصدقُ ما كتبته يراعةٌ في موضوع الرحلة . والجديرُ بالذكر أنه كان يُسجّل أوصافه وانطباعاته في اللحظة نفسها من غير أن يدع للزمن أية فرصة للعبث بالصورة الواقعيّة والانفعال الفوريّ . في الطائرة كما في القطار ، وفي الحافلة كما في السيارة ، كان يُسجّل مذكّراته ، وكلّما وقف في معرض أو أمام مشهد . وكان يُرافق ذلك كلّه تسجيل دقيق للأوقات يشمل تنقّلاته جميعها وما تستغرقه من منطقة الى أخرى ، ولا سيّما في الطائرات والسيّارات . وقد انبسطت رحلاته على الشرق والغرب ، العواصم المتحضّرة والقرى المتخلّفة ، الجبال والسهول والسواحل، الغابات والرياض والبراري . فمُدُن الولايات المتّحدة عرفت خُطاه ، وعواصمُ سكندينافيا ، وبلدان أوروبا ، كما عرفها الاتحاد السوفياتي والهند وأفريقيا السوداء، كذلك جميع البلاد العربية .

أمّا الصنفُ السادس فيضمّ الكُتُب التاريخيّة التي تتناول وقائع حياته ولا سيّما في مرحلة الاضطهاد ، وبينها كتاب "من وحي السجن والتجريد والنفي والتشريد" ، في عدة أجزاء ، وكتاب " بريء في الأغلال أو يوميّات سجين الغدر والخيانة " وفيهما رواية للمؤامرة النكراء التي نسجها الطغاةُ وزبانيتهُم لإِهلاكه ، وما عانى من عذاب واضطهاد ، وما قام به من كفاح وجهاد من أجل كسر شوكة الظالم وردّ كيْده الى نحره ، واسترداد الحقّ السليب.

إنّ كتابات الهادي الحبيب ، على مختلف أصنافها ، تعودُ بالأدب الى معناه الأصيل ، التعبير الصادق العفويّ عن تأثّرات النفس بحركاتها الذاتية وبعلاقاتها بالله والإنسان والطبيعة ، وذلك في صيغة مُدهشة بجمال بساطتها . إنَّها المدماك الأصيل الأساسي لصرح الأدب العالميّ الجديد ، بعد أن كادت الصنائع الأدبية تفقد معناها ، وتتحوّل إلى أزياء شكلية ، وبهلوانات خيالية أو فكرية أو لفظيّة ، شأنها شأن الفنون الأخرى التي طغى عليها التهريج والنفاق .

إنّ القيم الأدبيّة والفنيّة الرائجة ، اليوم ، في العالم ، هي بمعظمها قيم مزيّفة ، لأنّها انعكاسٌ للقيم والمقاييس الإنسانيّة المزيّفة التي تستوحيها . إنَّ الأدب إذا لم تتّحد فيه عناصرُ الجمال والحقّ والخير ليس أدباً حقّا . والأدب الذي لا يجمع فيه براءَة الطفولة وعزم الشباب وحكمة الشيخوخة ليس أدباً حقّاً . والأدب الذي لا يهدي النفس ويبني المجتمع ويُقوّض قلاع الباطل والرذائل وهو يهزُّ أوتار الجمال في الإنسانِ ليس أدباً  حقّاً . ذلك ما اضطلعت به كتاباتُ الهادي الحبيب ، فكانت صرخة البوق المدوّية لإعادة العافية إلى الجسم المريض ، حتى تستقيم الموازين وتستردّ الحقيقة الأدبية قيمها الأصليّة .

بدأ مؤسّس الداهشيّة عهد الكتابة وهو لم يُناهز العشرين من عمره ، فإذا ما خطَّه في تلك السنّ الباكرة يُضارع ما خطّه بعد أربعين سنة في نضجه العاطفي ونفاذه الفكريّ وبيانه الأدبيّ ، حتى لتعجب لابن العشرين كيف خبر الناس، وعركَ الدهر ، وسئمَ الحياة ، وأحسَّ بالغربة الروحيَّة ، وحنّ الى الموت ! وتعجب لآرائه كيف لم تتقلّب وتتضارب وتعرف الوِهاد كما عرفت الشوامخ !

وإذا هو لم يُبدّل رأياً في أي موضوع طوال تلك العقود ، ولم يعتور كتاباته أيّ خلل على مرور مختلف العهود ، فلأنه استمدَّ معانيه ، منذ البدء ، من ينبوع الحكمة الأزليّة ، ومصدر القِيَم الروحيّة ، فهيمنَ الاتزانُ على أفكاره ، وسطعت الحقيقة في كلماته ، وتوحّدت رؤيته الشاملة الى العالم ، فما اضطربت ولا تناقضت ، بل ترافدت كتاباته وتضافرت لتشيّد صرحاً روحيّاً أدبيا يتعالى بين سائر الصروح كمعبد جميل تدخله بهيج العين ، ولكن خاشع النفس !   

وعهْدنا بالأدباء ينجح أحدُهم في المواقف الملائمة لطبعه ويفشل في غيرها . فنرى بعضهم يبرع في مواقف القوة والغضب ، بينما يبرع الآخر في مواقف الرقّة والحنان . وينجحُ هذا في الأسلوب الخياليّ الرمزي ، بينما ينجحُ الآخر في الأسلوب الواقعيّ . لكنَّ الهادي الحبيب لم يقتحم ميداناً إلاّ كان فيه السبّاق المُجلّي . فقد جمعَ في نفسه النسائم والعواصف ، والمزمار والأرغن ، والقيثارة والكمان ، ومختلف الأوتار والألحان . فهو الآلة الموسيقيّة الحيّة التي تعزف عليها روحُ الطبيعة بمختلف سيّالاتها ، بل التي تعزف عليها يد القدير بأصابع الأرواح العلويّة !

ولعمري ، إن في الثبات على المستوى الرفيع الواحد ، في الرأي والبيان ، أكثر من أربعين سنة ، مع القدرة على الكتابة الناجحة في شتّى الموضوعات والأساليب لمعجزة أدبيّة وخارقة فكريّة!

 

                                                      ***

وإذْ كان المجال لا يتّسع لتفصيل الكلام على مؤلّفات الهادي الحبيب ، بُغية إظهار عُمقها وسموّها ، وصدقها وجدّتها ، وروعتها وخالد حكمتها ، لأنّ ذلك يستوجب دراسة شاملة مستفيضة ، بل دراسات ، فإنني سأقتصر على إيراد نماذج قليلة من كتاباته للدلالة على امتلاكه التصرّف بمختلف الأساليب ، علماً بأنَّ الأمثلة المعروضة أقلُّ جدّاً من أن تُحيط بجميع الوجوه البيانيّة والأشكال الأدبيّة التي استخدمها . زِدْ إلى ذلك أنني اخترتُها ، عمداً ، أقرب إلى القِصر منها إلى الطول ليكون المرور بها سريعا.

عالج الهادي الحبيب القصَّة والحوار التمثيلي ، كما عالج الخاطرة والمقالة الوجدانيّة . وكتب النثر المرسل ، كما كتب النثر المسجَّع ، وكانت له وقفات طويلة مع الشعر المنثور ، ووقفات قصيرة مع الشعر المنظوم . وقد عبّر عن أفكاره وعواطفه تعبيراً مباشراً دونما اللجوء الى الرمز والخيال ، مثلما عبّر عن نفسه بالصور الكثيرة المفردة أو المركّبة . وفي كلّ ما وضع كان صادقاً ، وبسيطاً ، وجميلاً .

أمّا الأسلوب القصصي فتارة يجعله واقعيّاً ، كما الحال في "مذكّرات دينار" ، وطوراً رمزيّاً خياليّاً ، كما الحال في " عشتروت وأدونيس" ، ومرّة أخرى مزيجاً من الواقعيّة والرمزّية ، كما الحال في " ضجعة الموت".

وإليكَ الفصل الواحد والتسعين من "مذكّرات دينار " مثالاً على الأسلوب الواقعي . والرواية مسوقة أصلاً على لسان (الدينار).