info@daheshism.com
مُقدِّمة إلى " جريمة القرن العشرين " ل المحامي خليل زعتر

 

 

لماذا وضعت هذا الكتاب؟

سنة ١٩٦٣، سمعتُ للمرة الأولى باسـم الدكتور داهش من شـقيقي فارس الذي حدثني عن الأعمال الخارقة التي يقوم بها، والمبادئ السامية التي يدعو إليها، والاضطهاد الذي لقيه في عهد رئيس الجمهورية اللبنانية، بشاره الخوري (١٩٤٣- ١٩٥٢)، والذي أدى إلى سجنه، وتجريده من جنسيته اللبنانية، ونفيه خارج وطنه، وتشـريده في أرض منفاه. إزاء هذا الكلام الذي سمعته من شـقيقي، رحتُ أسـأل رفاقي في الدراسة ومعارفي عن الدكتور داهش، فكانت أجوبتهم متناقضة. فمنهم من قال إنه «ساحر»، ومنهم من قال إن لديه نظرة دينية شـاملة خاصة به تختلف عن نظـرة رجال الإكليروس، وآخرون قالوا إنه يسعى الى توحيد الأديان بدين واحد عالمي، إلـخ... لكنّهـم جميعا قالوا إنه تعـرض لحملة اضطهاد من قبل السلطات اللبنانية ممثلة برئيس الجمهورية بشاره الخوري.

وفي شهر تشرين الأول من عام ١٩٦٤، زرت الدكتور داهش برفقة شقيقي فـارس والدكتـور غـازي براكـس، وذلك في منزلـه القائم في بيروت، على مقربة مـن القصر الجمهوري القديم التابع لمنطقة «القنطاري»، والـذي كان مقرا لرئيس الجمهورية بشاره الخوري. ثم تتالت زياراتي له. كان تصوري في البدء أنني سأجد نفسي أمام إنسـان مختلف عن البشـر، الشـرر يتطاير مـن عينيه، والتسلط باد على محيـاه. لكـن، على العكس من ذلك، وجدتني أمام إنسـان متواضع، دافئ اللسـان، خلوق، غزير المعرفة. فتعجبت من الصورة المشوهة القبيحـة التي يحملها معظم النـاس عنه، دون معرفة به وبأعماله وأفكاره ومؤلفاته الأدبية. وصممت، بعد أن أنهي دراستي الثانوية، على أن أدخل كلية الحقوق حتى يتسنى لي، فيما بعد، دراسة قضية الدكتور داهش، وإذاعة تفاصيلها على الملأ.

وبالفعـل، انتسبت إلـى كـليـة الحـقـوق فـي الجامعـة اللبنائيـة سـنة ١٩٦٦، وتخرجت منها سنة ١٩٧٠. والجدير بالذكر أنه في السنة الثانية من دراستي، وفي أثنـاء حـضـوري مادة القانون الإداري التي كان يضطلع بتدريسها القاضي المرحوم شفيق حاتم، فوجئتُ بأنه قد ذكر كمثال عن اجتهاد القضاء الإداري لتطبيق نظرية المراجعـة الموازيـة القراريـن ۲۹ و ۳۰، تاریخ ١٢ /٦/ ١٩٤٥، اللذين أصدرهما مجلـس الشـورى في قضية الدكتور داهـش. وأردف القاضي حاتـم قائلا: «إنّ هذه القضية أخذت دورا كبيرا في عهد بشاره الخوري.» لكنه لم يشرح تفاصيلها وأسبابها ومسبباتها، ولم يعلق على قراري مجلس الشـورى، رغم أنه - كما علمت فيما بعد - كان على اطلاع كبير على هذه القضية، وعلى الظلم الرهيب الذي أوقعه بشـاره الخـوري بحق الدكتور داهش. وكنتُ أتمنى لو أن القاضي حاتم - وكتابه «القانون الإداري» يدرس فـي كـليـات الحقوق - تطرق بصـورة موضوعية الى الإجراءات التعسّفية التي ارتكبتها السّلطة بحق الدكتور داهش، لأن الطالب في كليات الحقوق يعتبر أن ما يدرسه هو من المسلمات البديهية. ولكنه – بكل أسف – لم يفعل.

وعندمـا أنهيت دراسـة الحقوق سـنة ١٩٧٠، كنتُ على علم بـأن المحامي المرحـوم فـؤاد رزق، نقيب المحاميـن سـابقا، والمحامي إدوار نُـون، وغيرهما تجنّـدوا للدفاع عن الدكتور داهش في وجـه مؤامرة رئيس الجمهوريـة عليه، حتى إن الأستاذ رزق كتب في مجلته الحقوقية «المحامي»، سـنة ١٩٥٣، مقالة بعنوان: «حقوق الإنسان في أقسى امتحان»، أشـار فيها إلى القوانين والمراسيم والقرارات المخالفة لأبسط حقوق الإنسان، وذكر من بينها صراحة المرسـوم الـذي أصدره بشـاره الخوري تحت رقم ۱۸۲۲/ K، تاريـخ ٦/ ٩/ ١٩٤٤، خصيصا ضد الدكتور داهـش، وأعطى فيه رئيس دوائر النفوس حق شـطب القيود المدرجة في سجلات
النفوس، مخالفا بذلك المادة السادسة من الدستور وقانون الجنسية اللبنانية، ومبدأ فصل السلطات، ومبدأ الحماية القضائية للحقوق والحريات الأساسية للمواطنين، ومغتصبا صلاحية السلطة التشريعية.

وقد بدأت حياتي المهنية سنة ١٩٧١ متدرجا في مكتب الأستاذ إدوار نون الكائـن قبالة «سينما كليمنصو» في بيروت. وأمضيت سنوات التـدرج الثلاث في مكتبـه في منطقة «كليمنصو»، أولاً، ثم في مكتبه في منطقة «الخندق الغميق». وقد أطلعني الأستاذ نون، بعد أن توطدت معرفتي به، على تفاصيل عملية الاضطهاد التي تعرض لها الدكتور داهش من قبل رئيس الجمهورية بشاره الخوري، وهنري فرعون، وميشـال شـيحا، شـقيق ماري حداد التي اعتنقت العقيدة الداهشية وشقيق لور زوجة رئيس الجمهورية بشاره الخوري، وغيرهم. وفي أواخر ، سنة ١٩٧٣، أقدم الأستاذ إدوار نُـون على بيع قطعـة الأرض التي تقوم عليها دارتُـه ومكتبه في منطقة «كليمنصـو»، الأمر الذي حدا به إلى نقـل مكتبه إلى منطقة «الخندق الغميق»، قرب مقر جريدة «الحياة». وكان من الطبيعي أن ينقل جميع الأوراق والملفات الى مكتبه الجديـد. فعثرت بين الملفات القديمة المنتهيـة على ملف قضيـة الدكتور داهش، و فرحت به فرحا شـديدا، واستأذنت الأستاذ نُون بأخذه، فأذن لي. لكنه أضاف أن بعـض الأوراق والمذكرات قد تكون مفقودة لديه، وأن كـامـل الملف موجود أيضا لدى الأستاذ فؤاد رزق. فزرته برفقة الدكتور فريد أبو سليمان، في منزله ومكتبه، في منطقة « بدارو» ، وطلبت منه ملف قضية الدكتور داهش، فقال لي إنّ الملف موجود ومحفوظ لديه، ولكن الوصول إليه، شـأن المئات بل الآلاف من الملفات المنتهية، صعب المنال. ووعدنا بأن يكلف أحدا بالبحث عنه. وفي هذه الزيارة سمعتُ من النقيب رزق أيضا تفصيلات عن الجريمة، وعن الأساليب البوليسية التعسّفية التي لجأت إليها السلطة بحق الدكتور داهش.

بعد وفاة الأستاذ فؤاد رزق عام ١٩٨٨، قمت وشـقيقي فـارس بزيارة مكتبه في « بدارو» الذي كان يشغله آنذاك ابنه المحامي الأستاذ سامي رزق، وطلبت منه
ملف قضية الدكتور داهش. فكان جوابه أن الملفات القديمة اختلط حابلها بنابلها جـراء الحرب الأهلية اللبنانية، وهي تحتاج إلى وقت طويل لإعـادة تنظيمها. لكنه وعد بالقيام بمحاولة للتفتيش عن الملف بينها. وبالفعل، وفى الأستاذ سامي رزق بوعده، إذ توصل للعثور على وثائق أساسية متعلقة بالقضية، منها مذكرات التوقيف الصادرة في ٢٨ آب ١٩٤٤، وصور محاضر تحقيق قام بتسليمها إلينا مشكورا. وبعـد اطلاعي على ملف قضية الدكتـور داهش وعلى الوثائق العديدة التي تضمنها؛

وبعـد اطلاعـي علـى «الكتب والمناشـيـر السـوداء» التي أصدرهـا الدكتور داهـش وذيّلها بتوقيـع ماري حداد الداهشية، والتي وزعها الداهشيون على الرأي العام وقادته، من مسـؤولين وصحافيين وكتاب، وأرسلوها إلى المنظمات الدولية والإقليمية، وإلى الملوك والأمراء ورؤسـاء الـدول العربية والأجنبية والسفارات والقنصليات في لبنان إلخ...؛

وبعـد اطلاعي على ما كتبته الصحف اللبنانية والعربية والمهجرية، وعلى الرسائل والعرائض والبيانات التي أرسلت إلى الأشخاص الرسميين والدينيين والمدنييـن الـذيـن تـآمـروا علـى حيـاة الدكتـور داهـش، وإلـى السفراء والقناصل والمراجع الدولية، وضعت هذا الكتاب، وأسميته:

جـريـمـة القـرن العشـرين

وهو يتناول قضية الدكتور داهش مبحوثة في ثلاثة أقسام: القسم الأول خصصته لعرض وقائع هذه القضية من جميع جوانبها، بدقائقها وتفصيلاتها.

والقسم الثاني هو قسم الدراسة القانونية؛ وقد أظهرت فيها بصورة موضوعية علميـة عسف الإجـراءات التـي اتـخـذت بحـق الدكتور داهـش، وعدم مشـروعية المرسـومين اللذيـن أصدرهما رئيس الجمهورية بشـاره الخوري ضـده، وموقف

قضاة مجلس الشورى الذين انقادوا انقيادا أعمى لأوامر السلطة التنفيذية، ناسين أو متناسين أولى مهمات القضاء إحقاق الحق والدفاع عن مظلوم بريء من تعسف السلطة وتجاوزاتها.

اما القسم الثالث والأخير، فهو قسم الملاحق الذي يضم الوثائق المهمة التي استندت إليها في وضع هذا الكتاب، إضافة، طبعا، إلى مئات من المراجع لأساطين الفقهاء القانونيين الذين يؤيدون في كتاباتهم ما ذهبنا إليه، بدون استثناء.
لقـد أنجزت تأليف هذا الكتاب سنة ١٩٨٠وأعدتُ النّظـر في مخطوطته، وأجريت بعض التعديلات عليها قبل دفعها إلى الطبع. ولا بد لي من التنويه، في هذا المجال، بأن المحامي فارس زعتر قد أسهم معي في وضع قسـم الدراسـة القانونية من هذا الكتاب.

إن تلمسي للحقيقة هو الذي قادني الى دراسة قضية الدكتور داهش. وواجب إعـلان الحقيقـة خدمة لها ولأبنـاء بجدتي هو الذي حداني إلى وضع هذا الكتاب. ولا يظنّنـي أحـد مغاليا إذا قلت إنّ الحرب الأهلية اللبنانية العبثية المدمرة التي ذرّ سنة ١٩٧٥ ما كانت لتندلع لو عولجت قضية الدكتور داهش بعدالة، وبالتزام لحدود الدستور والقوانيـن. فالقوى الظلامية المتعصبة الفاسدة المسؤولية عن ارتكاب جريمة اضطهاد الدكتور داهش هي هي القوى نفسها التي قادت البلاد إلى جحيم الحرب القذرة. ولو انتصر المسؤولون وقادة الـرأي، أو بعضهم، في قضية الدكتور داهش، للدستور والقانون والحق والعدالة، لكان قضي على قوى التعصب والفساد، أو أضعفت، ولكان مسار تاريخ البلاد برمته تغير.

إن الصورة الشـوهاء التي يحملها العديد من الناس عـن الدكتور داهش هي من جريمـة اضطهاده، وهدف رئيسي من أهدافها. ولكن الحقيقة لا تموت، وأنوارها الساطعة لا بد لها من أن تنير العالم مهما حاولت الغيوم الدكناء حجبها.

فعسى يكون هذا الكتاب لبنة في مدماك الحقيقة، وسيفا مصلتا على الطغاة والظالميـن الـذيـن ينتهكون حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، ودرسـا وعبرة لنا وللأجيال القادمة. والسلام.

خليل زعــتر
بيروت، في ٢٠/ ٧/ ٢٠١٧