اسكندر شاهين
الدكتور داهش
رجل الأسرار
مقدّمة
حين عهدت إلي جريدة "الديار "بإعداد باب فيها اطلقت عليه اسم "الملفّ"وخصّت به العقائد الفكرّية
والسياسيّة والدينيّة في لبنان ،شعرت بعظم المسؤليّة الملقاة نظرا لخطورة المواضيع المطروحة وما
تقتضيه الأمانة من دقّة وحذر شديدين .
على أنني اضطلعت بهذه المهمّة منتهجا فيها سبيلين اثنين :الأوّل الأعتماد على المراجع الموثوق بها،
والثاني التزام الموضوعيّة والحياد التامّ .
ولمّا أقبلت على اعداد "ملفّ"الدكتور داهش والداهشيّة ،لم يدر في خلدي قطّ أنه من الضخامة بحيث
يستحيل عليّ الاحاطة به كلّه في خلال اعداد محدودة من الجريدة ؛ هذا بالرغم من أنّ صدر "الملفّ"
قد اتّسع وفاض عمّا هو مرسوم له في الجريدة ،اذ تجاوز أربعين حلقة (من 18/11/1998 الى
18/1/1999 ).ولقد شجّعني على المضيّ قدما فيه اهتمام الرأي العامّ به واقبال القرّاء الشديد عليه
ووفرة ما اتيح لي من موادّ مهمّة تستدعي النشر ,وان يكن منها ما حالت الظروف دون نشره .
ولا بدّ لي من الاعتراف ههنا بأنّ معرفتي بالداهشيّة كانت محدودة أوّل الأمر، وكانت تعوزني
المراجع الصحيحة عنها الى أن قيّض لي الاهتداء الى المنزل الذي اقام فيه الدكتور داهش – ويدعوه
أتباعه "منزل الرسالة الداهشيّة ". وهناك جالست عددا من الداهشيّين ، في طليعتهم الدكتور فريد
أبو سليمان والأديبة زينا حدّاد ؛وهما من أوائل المؤمنين بالداهشيّة ، عايشا مؤسّسها قرابة نصف قرن،
وبذلا من اجلها تضحيات جليلة .
تحدّثت طويلا الى الداهشيّين ، واستمعت الى شهاداتهم في مؤسّس عقيدتهم . ثمّ بادر بعض القرّاء
من غير الداهشيّين الى الاّتصال بي ، والادلاء بشهادتهم فيه أيضّا . ولقد تسنى لي ، في أثناء ذلك ،
الاطّلاع على ما الّفه الدكتور داهش وما الّف حوله ، فضلا عمّا نشر من مقابلات صحفيّة ، سواء
معه أو مع شهود ظاهراته المذهلة ؛ ولم يكونوا جميعا من أتباعه . ولقد تحصّل لي من ذلك كلّه أنّ
ما اشيع عن الدكتور داهش من اتّهامات مغرضة كان القصد منه تشويه سمعته . الرجل صاحب عقيدة
انسانيّة روحيّة قام بأعمال غير مألوفة لا يجوز الاستهانة بها أو الوقوف منها موقف اللامبالاة .وهو
أيضّا أديب غزير الانتاج ينحو في أدبه منحى مثاليّا اصلاحيّا . وفضلا عن ذلك كلّه ، فقد كان شغوفا
بالفنون الجميلة دؤوبا على جمع أثارها ، خلّف متحفا فنيّا يقوم الآفي قلب مدينة نيويورك .
ولقد رأيت اليوم أن أصدر تلك الحلقات من "الملفّ" الداهشيّ في كتاب يصونها من الضياع أو النّسيان،
ويقدّم للقرّاء صورة جليّة عن قضيّة شغلت المجتمع اللبنانيّ طويلا ، وما تزال ، وقد يسهم في نزع ما
علق في الأذهان من زور وبهتان . ولقد اقتضى منّي ذلك :
1. تقسيم الكتاب إلى أربعة أقسام ، وترتيب الحلقات أو الفصول بحسب هذا التقسيم لا بحسب صدورها الزمنيّ
في الجريدة ، وذلك حرصا على حسن التبويب ، وخشية من تداخل المواضيع بعضها في بعض ؛
2.إضافة فصول جديدة تجمّعت عندي مراجعها ، لكنّه لم يتسنّ لي آنذاك نشرها في الجريدة لضيق الحيّز المتاح،
3.ضبط النصوص على أصولها ، وردّ المعلومات أو الوقائع الى مصادرها الرئيسيّة مع تذييلها بالحواشي ؛
4.تهذيب اللغة ، وتصويب الأخطاء ،سواء اللغويّة منها أو غير اللغويّة ، وحذف التكرار الذي تقتضيه الضرورات الصّحافية أحيانا .
وكلّ ما أرجوه أن أكون قد وفّقت في مسعاي . والسلام .
بيروت ،4أيّار 2000 اسكندر شاهين
تمهيد
في منطقة القنطاري بيروت وعلى بضع خطوات من "برج المر" يقع منزل جورج حدّاد ، عديل رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة ، بشاره الخوري (1943-1952)، وهو مقرّ "الرسالة الداهشيّة "منذ اعتناق السيّد حدّاد وعائلته تعاليم سليم العشّي المعروف باسم "الدكتور داهش".
أربعون مترا هي المسافة الفاصلة بين القصر الرئاسي في عهد الرئيس الخوري ومنزل آل حدّاد . وعلى رقعة هذه المساحة الضيّقة دارت معارك طاحنة بين الفريقين ، أي عهد بشاره الخوري من جهة وداهش وأتباعه من جهة أخرى . الفريق الأول ، أي العهد ، ساق اتهامات شتّى بحقّ داهش والداهشيّين من تحضير للأرواح الى الشعوذة والى ما هنالك . ولم يقف الأمر عند الحدّ ، بل تعدّاه الى اعتقال الدكتور داهش وسجنه وتجريده من جنسيته اللبنانيّة ونفيه الى الحدود التركيّة بالاّتفاق مع محافظ حلب عام 1944.
وبعد فترة وجيزة ، تمكّن الدكتور داهش من العودة سرا الى بيروت . وبعد أن فشل في استرداد حقوقه المغتصبة بالطرق القانونيّة ، شنّ على مضطهديه حملة قلميّة ضارية بهدف اظهار الحقيقة وتوضيح ملابسات الجريمة التي ارتكبت بحقّه . فأصدر 66كتابا و165 منشورا أسود تناول فيها عهد الرئيس الخوري ،فأثارت العديد من الفضائح داخل دوائر الدولة آنذاك . جميع هذه المنشورات كانت موقّعة باسم "ماري حدّاد الداهشيّة ",وهي شقيقة لور (زوجة الرئيس الخوري ) وميشال شيحا . وقد عمدت السلطة اللبنانيّة الى سجن المؤمن الداهشيّ الأول ، الأديب يوسف الحاجّ، والشاعر حليم دمّوس ، والدكتور جورج خبصا ، والسيّدة ماري حدّاد وزوجها السيّد جورج حدّاد ، وكل من أعلن أو عرف عنه بأنّه داهشيّ . وممّا زاد في أوار الحرب هذه قيام ماجدا ابنة عديل الرئيس الخوري بالانتحار احتجاجا على ما تقوم به السلطة تجاه داهش وأتباعه . ولم تنته هذه الحرب الاّ مع سقوط الرئيس الخوري . واللافت في تلك المرحلة أنّ السلطات الايرانية اعتقلت داهش في 28حزيران 1947,
اثر فتنة دامية قامت في أذربيجان ، لعدم وجود كا يدل على هوّيته ، فأتهم بالجاسوسيّة وتمّ اعدامه في أول تمّوز من العام 1947 . وقد سلّم رهنما ، السفير الايرانيّ في لبنان في تلك المرحلة ، تقريرا رسميّا للسلطات اللبنانيّة يثبت اعدام داهش رميا بالرصاص مرفقا بصور تنفيذ الحكم فيه . فكتبت عنه الصحافة مراثي كان أبرزها لمطران صور وصيدا وتوابعها ، بولس الخوري ، والشاعر حليم دمّوس ونقيب الصحافة رياض طه والمحامي وجدي الملاّط والمرشد العامّ للاخوان المسلمين حسن البنّا . ولكنّ الحقيقة أنّ من أعدم كان احدى شخصيّات الدكتور داهش . فلمؤسّس الداهشية ستّ شخصيّات مقرّها في عوالم أخرى من الكون . وقد تجسّدت هذه الشخصيّات مرارا وتكرارا ، وشاهدها الكثيرون في مناسبات متنوّعة عديدة . وقد ذكرت الصّحف أخبار ظهورها ، وعقدت الفصول الطويلة حول تجسّداتها .
وعندما أعدم داهش رميا بالرصاص ، أي عندما أعدمت شخصيّته بأذربيجان ، كان الدكتور داهش في منزل الرسالة بين أتباعه الداهشيّين . وقد واصل حربه ضدّ السلطات الى أن قامت ثورة الشعب اللبنانّي وأطاحت بالحكم . ومع وصول الرئيس كميل شمعون الى الحكم استعاد الدكتور داهش جنسيّته اللبنانيّة وتابع مسيرته التي يصفها الداهشيّون بأنها سيل من المعجزات والخوارق .
وهنا يطرح السؤال من هو داهش ؟ ما هي تعاليمه ؟ لماذا تعرض للاضطهاد؟ ماذا صنع من معجزات ؟
جميع هذه الأسئلة سيجيب عنها "الملف " بالاعتماد على مصادرها .