info@daheshism.com
شخصيات عالمية شهيرة:

 

نابوليون في منفاه

 

نابوليون! نابوليون!

يا سجينَ جزيرة القديسة (هيلانة)

النائية المنفردة في عُرض المحيط!

أيها البطلُ المغوار، والليثُ الكرار،

والعبقريُّ الفّذ، وفلتهُ الطبيعة، وأعجوبةُ الدهر!

أيها الأمبراطور! الحاكم بأمره،

المتسنّمُ بقوة عقله الجبار قمة المجد،

المستوي على عرش القياصرة والفاتحين!

أيها الرجل الخالد الذي لم يقم، بعده، من هو مثله أو شبيه به!

أيها الليثُ الباطش!

الثالُّ عرشَ أسرة (البوربون) المتوارثة مُلك الأولين،

خلفًا لسلف، وأبًا عن جد!

أيها المُذلُ الأمم، المجتاح القفار،

المُقوضُ القِمَم، الفاتحُ الأمصار!

أيها العظيمُ الذي تسنَّم ذروةَ المجد والفخار والفوز والانتصار!

أيُّها الجبارُ المغوار الذي خضعت لإرادته الأقدار!

أيها المُتسلطُ على أمم الأرض قاطبةً بقوته الجبارة وإرادته البتارة!

أيها الواضعُ، بيد نفسك، التاج على رأسِك!

أيها التاريخُ المُفعمُ بالأعمالِ الجليلة

التي تعجزُ عنها أبطالُ الأساطير وشخوصُ الخيال!

أيها الأسطورة! أيها الخيال! أيها الوهم! أيها المجهول!

يا مَن دان لسلطانه الكونُ من أقصاه إلى أقصاه!

يا من جبتَ بجيشكَ اللجب المطواعِ المعمور،

فقوضته تقويضًا، ودككته دكًا!

أيها المالئُ العالم مجدًا وفخارًا، وقوةً واقتاراً، وعنوةً واقتساراً!

أيها الرجلُ الفولاذيُّ الذي لم يكن للنصبِ عليه من سبيل!

أيها الجنديُّ الذي جاهد وجاهدَ،

حتى وافاه الموتُ القاصمُ الرهيب!

أيها النبيلُ النفس، النبيلُ العاطفة، النبيلُ الروح!

يا من كانت تسير الملوك رِكابه، وتقفُ الأمراءُ على أبوابه!

يا منْ كانت (كلمتُه) قانوننًا نافذًا ودستورًا صارًما!

يا من ارتجت الأرضُ والسماءُ لما قمتَ به

من أعمالٍ غير قابلة التصديق!

يا مَنْ تمرغتْ عند موطئ قدميك أمم لا تُحصىا،

وشعوبٌ لا عداد لها!

يا مَنْ ذُقتَ (الأمرين)، وبلوتَ (الحالتين)،

وتجرعتَ (العلقمين)!

يا شقيقَ الملوك الجالسينَ على العروش،

وأخا الملكات اللابساتِ التيجان!

يا بطلَ أُوسترلتز، ومارنغو،و... وهلمَّ معي جرًا!

يا أعظم عظيم، وأحكم حكيم، وأعلمَ عليم!

يا من كانت تلتفُّ حولك الجنودُ والفرسان،

وتتجهُ نحوكَ البنودُ والأعلام!

يا مَنْ شبعَ مجدًا وفخارًا، وصولةً واقتداراً!

يا أيها الطموح! المُجلسُ طفلك الرضيع على عرش الكُرةِ الأرضية!

يا أيها الداهيةُ الدهياء، والقوة الصماء، والهمة القعساء!

يا مَنْ كانت ترتعدُ فرائضُ أمم الأرض،

إذا ما عبس وجهُك، وقطب جبينُك!

يا مَنْ لن يخلفكَ من هو (صِنوٌ) لكَ حتى تخلفنا الأرضُ نفسُها!

لقد قرأتُ تاريخك المفعم بجليلِ الأعمال وجسام الآمال،

ورافقتُكَ في حَملاتك، وتعقبتُكَ في رحلاتك،

وشيعتُكَ في سفراتك، ومجدتُكَ في انتصاراتك!

ثم وقفتُ على أفكاركَ وأمانيّكَ، وأحلامكَ ومراميك.

وقد جرى الدمُ حارًّا في عروقي،

حينما تخيّلتُ مواقفك  المشرفة في حروبكَ وانتصارتك!

إذ كان يكفي وجودكَ في المعركة

حتى يتفانى الجنودُ في بذلِ النفوس،

واسترخاص المُهج، في سبيلك،

ويُلقوا بأنفسهم للتهلكة فداءك، وحرصًا على رضاك!

لقد كنتَ (الكلَّ في الكل)!

وكنتَ القوة العظيمة المُحركة الجبارة!

لقد كنت الجيشَ، والأمة، والوطن!

بل، لقد كنتَ العالم بأسره، والكونَ برمته!

بل، لقد كنتَ الماءَ والهواء، والفضاءَ والسماء!

لقد كنتَ (فرنسا) نفسها

متمثّلةً في شخصكَ القويّ المرهوبِ الجانب،

المرعيِّ الدار، العزيز الجوار!

كانت فرنسا!...

أما (فرنسا) اليوم فهي غيرُ (فرنسا) بالأمسِ:

أمسِكَ الزاهر، الباهي الباهر!

أنتَ أيها النجمُ اللامع، والكوكبُ البهيُّ الساطع!

                           ***

وفي النهاية،

يا لأضحكوكة الحياة، وسخرية الأقدار!

ماذا كانت النتيجة؟ وإلامَ صار المصير؟:

إنَّ قلبي ليقطرُ دمًا!

وإن نفسي لتتمزقُ حزنًا!

وإن روحي لتذوبُ ألمًا!

أوّاه! أيها الأمبراطورُ العظيم!

لقد كانت (نهايتُكَ) مُذلَّةً مريرة،

مُزريَةً مُدْميةً، مُكئبةً مُبكِية،

مُفعمةً بالحسرات، مُترعةً بالزفرات!

نابوليون! نابوليون الذي لم تسعهُ الأرضُ بأطرافها وصياصيها،

وصحاراها وبواديها، وحزونها وفيافيها،

صارت تسعُهُ (جزيرةٌ) صغيرة،

مجهولةْ حقيرة، نائبةٌ مهجورة!

ومَن هو الأحمقُ المعنوه، الأبلهُ المشدوه

الذي يُصدِّقُ هذا الأمرَ العجيبَ الغريب، البَشِعَ الرهيب؟!

آه! إنها (الحقيقةُ) التي لا شُبهةَ فيها ولا امتراء!

ستُّ سنواتٍ مُجرمات!

تمضي وكأنها ستة دهور،

وأنتَ، يا نابوليون العظيم، في منفاكَ القصيِّ النائي

وحيدًا فريدًا، شريدًا طريدًا!

ستُّ سنوات،

والآمال الكبار، والانيُّ العظام

تعيثُ في رأسكَ الكبير وعقلكَ الجبار،

فتكون الآمال المصوحة، والأمانيّ الخوافق!

واأسفاه!

أي نابوليون العظيم!

أيها الامبراطورُ الفاتح!

بل أيها المتجسم  في شكلٍ بشري!

لقد حطمتْ نفسي نذالةُ (هِدْسُنْ لُو) سجّانُكَ الإنكليزيّ،

ربيبُ الأزقّة، وقعيدُ الحانات، وخدينُ المواخير!

لقد اصطبغَتْ وجنتاي بلونٍ أحمرَ قانٍ،

عند قراءتي ما قام به ذلك الوغدُ النذلُ والساقطُ المرذول،

من ضروبِ النذالة النَّجسَة والحماقةِ المقصودة!

وأنتَ أنتَ الفاتحُ الجّبَار، والشريفُ الأبي، والذكيُّ الحصيف!

وأنتَ أنتَ الذي كانت ملوكُ الأرض تنتظرُ مثولها بين يديك،

بفروغ صبر، وزهوق روح،

بينما كنتَ جليسَ غرفتك، لا تُعير أحدًا أيَّ اهتمام!

يا أخي،

إنها وحشية، إنها نذالة، إنها حطة، إنها دناءَة

تأبى وحوشُ الأرض وضواريها أن تأتيّ بمثلها،

أو بما هو شبيهٌ بها!

إنها لطخةٌ في جبين الأبّد،

ووصمةُ عارٍ في وجه الحياة،

ستخلدُ ما خلدّت الدنيا!

إنها جريمةٌ نكراء!

وستبقى لطخةَ عار

في صفحة (المسؤولين) عن إرسال ذلك الزنديق الكافر،

واللئيمِ الغادر، والخسيسِ الماكر، والوحش الضاري الكاسر!

ومَنْ يَشُكُّ، يا امبراطور، بأن خصومكَ الأعداء، ومناوئيك الألدّاء

قد قضوا عليكَ، قبل الأوان،

حينما خطر لهم أن يُلقوا بكَ في منفاكَ الموحشِ السحيق،

المهجورِ العميق؟!

مَنْ ذا الذي لا يصمُهم بالوحشية،

أولئك الذين استضفتهم، فأسروك،

واستأمنتهم فغدروا بك،

ووثقتَ بهم فنفوك؟!

وما كنتَ، يا أمبراطور، بالاسير الحربي،

أو المجرم الأثيم الذي يسوغُ لهم القاءُ القبضِ عليك،

والقذفُ بكَ إلي جزيرتهم) النائية) الشيطانية، المهجورة!

أيْ نابوليون العظيم!

هاتٍ أخبرني:

أين مجدُكَ؟ أين بأسُك؟

أين جندُكَ؟ أين مراسلك؟

أين أعلامُك؟ أين بنودُك؟

أين آمالُك؟ أين جهودُك؟

أين عبقريتكَ؟ أين أمانيك؟

أين لوذعيّتُكَ؟ أين مراميك؟

أين طموحُكَ؟ أين ميولُك؟

أين جموحُكَ؟ أين فلولُك؟

أين؟ أين؟ أين؟ أين؟

أين كلُّ ما كانت نفسُكَ تجيشُ به من شتى العواطف الزخارة،

والأمانيّ البعيدة؟

يا لَزوال العالم وفنائه!

ويا لسُخرية الكونِ وشقائه!

يا للعجب! لقد تردَّى كلُّ ما ذكرتُ في شيءٍ ضئيل:

في حفرةٍ صغيرةٍ حقيرة،

اختفتْ فيها الأمانيُّ الكِبار،

وذابت في تُرابها المهالِ الأحلامُ العّذاب!

فمن ذا الذي يستطيبُ، بعد هذا، الزمان،

ويجرؤُ أن يقولَ إنه نَعِمَ في اللذاذات، وسَعِدَ بالحياة؟

 إنَّ ذلك المجدَ الزائل، والعظمةَ المتلاشية،

والنفوذَ المهدَّمَ، والكبرياءَ العزوف،

والفتوحاتِ الواسعةَ الممتدة، والشخصياتِ العجيبة...

كلّ هذه تلاشتْ في بطن تلك الحفرة الحقيرة،

وفي طرفةِ عينٍ! واأسفاه!

وذلك الداهيةُ العظيم، والعبقريُّ االجبّار،

والليثُ الهصورُ المدبّرُ لتلك الأمور،

لم يكن منه إلا الرضوخُ في النهاية!

نعم، لقد رَضَخَ لحُكم القضاء،

بعد أن وقفتْ ضرباتُ قلبه عن الحركة،

واستسلم لسلطانِ الهدوء والاستكانة،

بعد تلك الحروب والمعارك!

وأغمضَ عينيه المتعبتين لنومٍ ساكنٍ عميق،

في مكانٍ بعيدٍ، مجهولٍ، سحيق،

إلى ساعةٍ يُنفَخُ فيها بالصور!

فَمنْ، بعد ذا، يستطيعُ أن يقول:

إنَّ هذا العالم يحتوي على مجد؟!

كلاّ، لا مجدَ ولا سلطان!

لا عرشَ، ولا صولجان!

لا عزَّ، ولا فخار!

لا فوز، ولا انتصار!

لا هدوء، ولا سلام!

لا آمال، ولا أحلام!...

وإنما عبثٌ باطل، وظلٌّ زائل،

ولونٌ حائل، وسُمٌّ قاتل،

وسرابٌ خدّاع، وآلٌ لمّاع،

ودهرٌ قُلَّب، وبرقٌ خُلَّب!

ما دام نابوليون قد توارى، وتنزل عن عرشه الأمبراطور!

دنيا مهزلةُ المهازل، وسخريةُ السخريات!

أيّها الامبراطور العظيم، أيها البطلُ الفاتح!

ماذا كانت (نهايتُك)،

بعد أن ملأتَ الدنيا مجدًا وفخارًا، وسطوةً واقتدارًا؟!

إنني أتخيَّلُ تلك (النهاية) القاسية المريرة،

واللوعةُ تكاد تخنقُني،

والأسى يكادُ يقضي عليَّ

كنتَ، يا نابوليون العظيم،

وحيدًا فريدًا في سجنك، في غرفتكَ الحقيرة

التي يأنفُ (أحقرُ) خدمِكَ وأتباعك أن ينظرَ إليها،

فضلاً عن أن يتخذها مقرًا له، ومكانًا لنومه!

أتخيلُكَ (مسجى) على فراشكَ الخشنِ المتواضع،

وقد علا وجنتيكَ الشاحبتين النحولُ والاصفرار،

وارتسمَتْ على شفتيكَ ابتسامةُ السُخر والاحتقار

لمجدِ هذا العالَم الفاني!

فسلامٌ على (رُوحك) في (عالمها) الذي باتت فيه،

بعد أن نضتْ جسدّها (المادّي) الذي خاض غمراتِ الحروب،

وشاهدَ الأهوالَ والكروب!

وسلامٌ على أفكاركَ وأحلامك، وأمانيّكَ وآلامك!

وسلامٌ على مثواكَ الأخير،

حيث تضطجعُ ضجعتَكَ الأخيرةَ بهدوءٍ وسكونٍ وسلام،

بعد أن ملأتَ صفحاتِ التاريخ، وحواشي الأيام،

بأعمالكَ الخالدةِ التي لا تزول!

سلامٌ أبّديٌّ أرفعُه إلى روحك،

يا رَجُلَ الجلال والعظمة والمجد والخلود!

سلام!

                                                القدس، في 25 أيار 1935