
لا أحيا بدونك
في صباح ذات يوم،
والشمسُ تُرسلُ خيوطها النورية الأولى،
وقف العندليبُ على فُنَنِ الشجيرة الغضَّة،
في صميم الغاب المتكاثف، يصدحُ بأنغامهِ العذبة،
فيسمو بالأرواح إلى ملإ علويّ لا نعرف عنه سوى اسمه،
مُجاريًا في ألحانهِ خريرَ جداول المياه،
وهي تنسابُ بين الغيطانِ العامرة الغنّاء،
مرنّمةً ترانيم الغبطة والهناء، والسرور والصفاء!...
وهبَّ النسيمُ بلطفٍ ورقَّة،
وجعل يعبث برؤوس الأزهار مُلاعبًا مُداعبًا،
فانتعشتْ... وجعلت تتمايل برؤوسها،
متمهلةً، ثملةً، مِن فرط سرورها وإعجابها!...
وانتقلت هزَّةُ الطرب إلى أغصان الأشجار،
ذاتِ الأوراق الخضراء،
فجعلت تميلُ، بعضًا على بعض، بحنٍّو وانعطاف!...
وفي تلك اللحظة التي انتشت فيها الطبيعةُ الرائعة الجمال،
وتحت تأثير تغريد العندليب الشجيّ،
وعبثِ الهواء بالرياحين ذات العبق العطريّ،
وتمايُل الأغصان، بعضها على بعض،
بحثتُ عن قلبي،
فإذا به منطلقٌ إلى حيثُ لا أدري!...
وعندما اختفى آخرُ خيطٍ من النور
وراءَ الغيوم الضالّة في الأفُقِ البعيد،
وهبطت الظلمة فاحتلت الكون الشاسع
باعثةً في النفس رهبةً وجلالا!
وهبت العاصفة مقتلعةً كل ما يعترضها،
غاضبة، هادرة، مزمجرة!...
وانتشر الرعب في الطبيعة
التي كانت قبل لحظات فرحة، طربة!
وارتجفت أغصانُ الأشجار رعبًا وفرقًا،
وجعلت أوراقُها تتساقط أرضًا، وتتناثر متبعثرة...
وهدر الرعدُ القاصف!
وجعلت البروقُ تُومِض بشدَّة،
فتزيلُ حجب الظلام الكثيفة،
منيرةً الكون لفترةٍ قصيرة، ثم تتلاشى،
فتعود الظلمة فتخيِّم، فإذا بالدجنة تغمر الكائنات!
واضطربت الأزهارُ التي كانت عند شروق ذُكاء
تتيهُ خُيلاءً تحت تأثير تقبيل النسيم لها،
وإذا بها ذاويةٌ ذابلة!
وأوراقُ الأشجار انتثرت على بساط الأرض،
لشدَّة عصف الرياح الهائجة الغصوبة!...
والسماء فتحت أبوابَها...
فإذا بالغيث المرعب ينهمر بغزارة هائلة،
فيبعث الرُّعبَ في أقوى الأفئدة الجبَّارة!...
واختبأت الطيورُ في أوكارها ملتجئة،
ولكنها لم تحمها، لأن المياه نفذت إلى مآويها!...
ولم تمضِ هنيهةٌ حتى طغت عليها وأسقطتها،
فهامت الطيورُ في الفضاء إلى غير ملجأٍ يُؤْويها!...
... في تلك اللحظة التي تآمرت فيها الطبيعة
على الكون وقاطِنيه،
وبتأثير الخوف والقلق اللذين استوليا على نفسي،
وبين الرياح الهوجاءِ العنيفة،
وعلى تألُق أنوارِ البروقِ المومضة،
وتحتَ تاثير الرعود المزمجرة
وهي تنقصّ على دنيانا الهالعة،
ولدى منظر الطيور المسكينة الشاردة،
ومشهد الطبيعة الباكية الحزينة،
بحثتُ في قلبي،
فإذا به مفقود!
ولا أعلم أين هو موجود!...
مسكينٌ أنا!
إذ إنني بحثتُ عن قلبي في الغابات البعيدة عن العمران،
فلم أجدهُ!
وعلى شواطئ الأنهر نقّبتُ عنهُ، فلم أعُد بطائل!...
وبين الأزهار والرياحين، فلم أفزْ ببغيتي!...
وهُناك... هناك...
حيثُ قام البحر منذ الأزل، وفي أغوارهِ السحيقة...
خضتُ حيث تكمن اللآلئ والأصداف،
علّي أجدهُ في إحداها،
فكانت ظنوني خائبة!...
وإذ ذاك ذهبتُ إلى شاطئه الذي تذهبه ذُكاء
بأشعتها الذهبية، وبين الحصى الموشى جعلتُ أبحثُ عنه،
فلم تقع عيني عليهِ!...
وبين الرمال المنبسطة على شاطئه السحريّ،
جعلتُ أُطيل النظر، متأملاً،
مدققًا، علّي أعرف مكانَه،
ولكنّي كنتُ كَمَنْ يبحث عن المجهول!...
فانطلقتُ موغلاً في أجواز الفضاءِ العلويَّة،
وبين ذرَّاتِ الأثير الغير المرئية، والأرواح الأثيرية،
وجعلتُ أبحث، وأبحث...
فهزئت بي وبجهلي تلك الأرواح العلوية،
وهمست قائلة لي:
"لن تراهُ أيها الشاب!
لأن قلبك لم يغادر الأرض.
فارجع باحثًا عنهُ مستقصيًا!"
فغادرتُها هابطًا من العلاء إلى قمم الجبال الشماء،
وبحثتُ عنهُ...
فلم يكن النجاحُ حليفي!
والفوزُ أشاح بوجههِ عنّي!
وبين الصخور ونخاريبها، والأنجد وأهاضيبها،
وبين الأودية وتعاريجها، والكهوف وتضاريسها!
قضيتُ ساعاتٍ طوالاً متجولاً،
ولكنّي عُدْتُ، كما ذهبت،
صفْرَ اليدين، دامع العين،
حزينَ النفس، بائسها!...
فرجعتُ قافلاً إلى حيث المدُن الصاخبة،
العامرة بالبشر،
ومنْ ثَمَّ إلى صميم الرّيف حيث قامت القرى،
البعيدة عن الضوضاء والحركة المستديمة!
ولكني والألم يمضُّ نفسي ويُرهقها،
عُدْتُ بالخيبة والفشل!...
وفي أعالي الفضاء بحثتُ،
وفي أعماق الهاوية نقَّبتُ،
وفي جهات الكون الأربع، المعروف منها والمجهول،
سعيت أُفتش عن قلبي الضائع،
فَلَمْ أجِدهُ!...
فلمَّا أعياني البحث ولم أفز بغير الفشل المرير،
قفلتُ راجعًا إليك،
أنتِ يا معبودتي سُوسو،
فإذا بهِ قد امتزج بروحكِ!...
فعلمتُ عند ذلك
بأنني لن أستطيع البتة أن أحيا بدونك،
أنتِ، يا أمنيتي،
وحياتي... حتى يوم مماتي!
القدس، أول آب 1933