info@daheshism.com
حياة العوالم والكواكب:

 

كتاب

شوارب مستطيلة ولحى وَبيلة

 

وشددتُ رحالي إلى مدينة نساؤُها ذقونُهن طويلةٌ وشواربُهنَّ شامخةٌ نحو العلاء، أما رجالُهنَّ فلا لِحى توشي ذقونهم أو واربَ تزين وجوههم.

   وكانت الأشغالُ الشاقّةُ تقوم بها النساء. أما الرجالُ فيلازمون المنزلَ للطبخ والنفخ، وعجْن الطحين ثم خبزه، والاهتمام برتق الثياب القديمة بعد غسلها، ثم جلي الصحون وإنضاج الطعام.

وكانت العصيُّ الكافرة تنهال على رقبة الزوج من زوجته عندما تغضب منه لأي سببٍ تافه. فعندما تقرعُ العصا هذا الزوج يعلو صراخُه ويتواصلُ عويلُه ويتردَّد توسُّلُه لزوجته كي تحجبَ غضبها عنه وتُبعِدَ عصاها الغليظة عن عنقِه وتُنحّيها عن صدره وظهره.

   وعندما تبلغُ الفتاةُ سنَّ الزواج هي التي تختار شريك حياتها فتخطبه ثم يتم اقترانُها به.

   وطريقة الزواج تتم بواسطة صفع الكفوف. فعندما يوافق أهلُ الفتى على خطبته لفتاته، إذ ذاك تصفعه خطيبتهُ بنعلها على وجهه فيحني لها هامَته فتُعيد صفعَه على قِمّة رأسه.

فإذا تركَتْ صفعاتُ النعل أثرًا على وجهه أو رأسه، فسرعانَ ما تبصقُ عليه وتُغادر منزله، ويُعتبر هذا شؤمًا على الخطبة وعدم الرغبة بإتمام الزواج.

أمَّا إذا كانت صفعاتُ النعل الشرسة لم تؤثر في وجهه أو رأسه، فإذْ ذاك تُخرج من جعبتها كيسًا مستطيلاً من الجنفيص، فيدخل خطيبها فيه. ويبقى رأسُه خارجًا بعد أن يخيط فم الكيس حول عنقه ويثقب مكانُ اليدين والرجلين ليخرجها، كما تُثقَب فتحةٌ كبيرة ورائية وفتحة صغيرة أماميَّة، وذلك للأمور الاضطرارية التي لا بدَّ منها ولا غِنى عنها.

   ويمكث الخطيب مُكَيَّسًا 40 يومًا، طعامه الفلفل الحارّ والبهارُ في الليل والنهار، وشرابه الزقُوم ممزوجًا بـ 60 نقطة من ماء المجاري الذي يُقطَّر بالقطَّارة لكي لا تزيد النقاط أو تنقص عن الـ 60 نقطة.

   وفي نهاية هذه الأيَّام الأربعين يؤْتى له بأُمّ اربع واربعين فيُلصقها على جبينه، وهي علامة لقبوله الآلام التي سيتحمّلُها من زوجته. فلسعاتُ هذه الأربع والاربعينية المؤلمة تشير إلى ما ينتظره من ويلات زوجته التي ستنصبُّ عليه انصبابَ الحميم.

   ويخرج هذا الراغب بالزواج من كيسه، فإذا بهذا الخطيب الأريب وقد اصبح نحيلاً كالعود، جافًا كالحطب، وقد تشعت شعرُ رأسه، وذبلتْ نظراته، وفترت همته، واضمحلت عزيمتثه، وشردت أفكاره، وطالت أظفارُه، وتطايرت بين الناس أخبارُه، بعد أن كُشِفَتْ أسرارُه بطلبة فتاته المُلتحية المُشوربة لزواجه بها.

   وإذْ ذاك يُؤْتى له ببرميل مُلِئَ بالقار المُذاب فيجلس في داخله، ويُحَضُر له الطبلُ فيقرعهُ طوال ساعاتٍ وساعات، وهو مُضطرٌّ لأن يبتسم طوال ساعاتِ قرع الطبل فيوزع بسماته على الجماهير المُحتشدة.

   وتملأ بسماتُه العريضة المتواصلة صفحة وجهه الذي أصبح باستدارة مجيدي الأتراك، ويمكث هذا الخطيب المُبتلى طوال ساعات النهار وهو يضرب الطبل، ثم يخرج من البرميل وقد غمر بالزفت من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، ويبتدئ بالرقص والفقش ويرفع عقيرته بالغناء وهو باسمُ الثغر مُتهلل الوجه.

   ثم يبوق ببوق عظيم طولُه متران وثخْنُه إنشان. وهذ البوقُ اللعين يُزعج أهلَ الحيّ قاطبةً، فيتكأكأون عليه: هذا يلطمُه وذاك يرطمُه، والآخر يلعن آباءَه وأجداده، والرابع يقذفه بما تصل إليه يده، علَّه يتوب، وإلى رشده يثوب، وعن خِطبته للملتحية يعود، فيكون سائدًا على نفسه وغير مسود. ولكنه ساهٍ لاهٍ لا هَمَّ له إلاَّ التبويق وهو دائب التحديق بافضاء كالمعاتية، ثمَّ يقلِّد الحمار بالنهيق.

   ويمكثُ، هكذا، ستَّةَ أيام بلياليها وهو منتفخُ الأوداج، محمرُّ العينين، مرتجفُ الساقينن مهتزُّ البطن، معوجُّ الظهر، زائغُ المُقلَتين، مرتجُّ الفَخْذَيْن، مُهَلهَل اليدين، مدلَّى الأُذنين.

   ثمَّ يقلِّد الكلابَ بسيره على الأربعة  بينما تُفتَحُ نافذة في سرواله من الوراء لتلفحَها الريحُ فيتسمَّم الفضاء برائحةٍ نتنة يقضي ريحُها الخبيث على الثعبات فورًا فإذاه جثةٌ هامدة.

   ويؤتى ببكرة ذات خيوطٍ سوداء، فيُدخل هذه الخيوط في أسنانه وأضراسه، رابطًا كلاًّ منها بسنّه وضرسه على حِدة. ويُدخِلُ خيطًا في خُرْتِ كلِّ إبرة، وإذا بهذه الإبَر تتدلَّى من فمه فتتأرجحُ بالهواء وهو يُكنسُ الارضَ بها.

   وبنهاية أيامه الستة تأتي خطيبته ولحيتُها قد استطالت، وهي ترتطم بالأرض فتكنّس أقذارها، وشارباها يناطحان الفضاء صُعُدًا نحو العلاء، والخيزرانة ذات العُقد في يدها، فتهوي بها على بطنه فظهره وتدعوه أن يتبعها، فينهض ويسير وراءَها والبوقُ على فمه والمزمارُ في يده والدفُّ معلقٌ بعنقه والطبلُ يقرع ظهره.

   وهو تارةً يُبَوِّقُ ويُقهقه، وطورًا يضرب الطبلَ فيُدوّي، والناسُ يتراكضون عن يمينه ويساره ومن أمامه وورائه، حتى يبلغوا جميعًا منزل خطيبته المُشوربة المُلتحية.

   وخطيبته طوال الوقت تُجاريه ببراعةٍ في النقر على دفٍّ عُلِّقَتْ به أجراسٌ جهنميَّة الأصوات حينًا، وحينًا آخر تُصفّقُ هذه الخطيبةُ الشامخة الشاربين بصنجين تصكُّهما واحدَهما بالآخر، فتخرج منهما أصواتٌ إبليسية مُنكَرة مُستنكرة.

   وعندما يدخلان المنزل تصبح زوجته. وإذا ذاك يبتدئُ الغناءُ من الحشد بقضه وقضيضه، ويسود الهرج والمرجُ كافةَ أرجاءِ المنزل، فالجميعُ قد أصيبوا بجنون الرقص والغناء.

       وتظهر فجأةً الطبول والزمورُ وكافَّةُ آلات الطرب من صنوج وأعوادٍ وأبواقٍ وأراغن،