
حيرة واحتقار
كلّما ازددتُ تعمّقًا في ضروب الحياة،
تكشفت لي منها نواحٍ عديدة ساقطةٌ كنتُ أجهلها!
وكلُّ ما تقعُ عليه عيناي من أعمال،
ممّا يقومُ به البشرُ الأفاكون الماكرون،
لا أراه أنا سوى النذالةِ المرذولة!
وكلما مرت بي الأيامُ،
تنقشعُ أمام عينيَّ سحبٌ كثيفة
كانت تحجبُ عني حقائقَ كثيرة،
ما كنتُ لأصلَ إليها لولا انقشاعها!
وكلما أوغلت بي السنون،
أرى ما يُدمي قلبي، وما يُحبِّبُ الموتَ غلى نفسي!
وكلُّ ما يمثلُ أمامي، أينما توجهتُ وساقتني المقادير
لا أراه إلا مليئًا بالأكاذيب والأضاليل!
وكلُّ ما تَعيه أُذناي، من زخرف الأقوال وبهرج الأحاديث،
هو مُغرِقٌ في القذارة، لاجٌّ في الغواية، موغلٌ في الحقارة!
وكلُّ ما تراه عيناي، عيناي الذابلتان من مرئيات هذا الكون المؤلِم
هو مُدْمٍ لهما، مُقرحٌ إياهما!
وكلُّ ما أتنسمُه من رائحة هذه الحياة الالكدراء
يفوحُ بأريج الموتِ الزؤام!
وكل ما تزخرُ به المنازلُ من موبقاتٍ ومُنكرات
يتصلُ غليه علمي، ويُحسُّ به فؤادي!
وذلك الرجلُ الساقطُ الأخلاق، المصطنعُ الصدقَ خبثًا ورياءً،
لا أحملُ له سوى الاحتقار!
وتلك الأفعى السامةُ الرقطاء
وما تُبديه من تثنٍ ودلال، ورقةٍ وابتذال،
لا احملُ لها سوى الكراهية!
وهذا الشابُّ الخليعُ المغرور،
وما يقومُ به من عملٍ منحطٍّ ومرذول،
لا أحملُ له غير شديد النفور!
وتلك العجوزُ الشمطاءُ الشوهاءُ التي أرْبَتْ على التسعين،
وما زالت تصابى كالفتيات،
لا أحملُ لها غير البغض العميق القاتل!
حتى تلك الطفلةُ التي لم تُكمل سنواتها العشر،
فتستوي في حِنكتها ودربتها مع فتيات الحانات وخليعات المواخير،
أنظرُ إليها بحيرةٍ واحتقار!
فماذا يُرجى، بعدُ،
من هذه الحياةِ الغريبة الأطوار الهائلةِ الأعمال؟!
وماذا نأملُ بها؟ بل وما هي الغايةُ التي نرمي إليها،
ونحنُ نتشبّثُ بأهدابها الممزّقة واسمالها البالية؟!
وماذا يُرادُ بنا؟!
وما الهدفُ من لفظنا في هذا الخضمِّ الخسيس الموبوء؟!
وما هي الجريمةُ الشنعاء التي لا شكَّ أننا اقترفناها،
حتى استحقَّ كلٌّ منا رؤيةَ هذه المرذولة؟!
ومتى، تُرى؟؟ تأتي تلك (الساعةُ) السعيدة
التي نخلعُ فيها عنا هذا (العذاب)
الذي ينطوي على (الجريمة) النكراء والإثم الكبير؟
ولماذا نتأخرُ عن (التضحية) المتوخاة من أمثالنا،
لنخلعَ عنا هذا الرداءَ (المادي) الملتصق بنا دون انفصال؟!
والله، إنها حيرةٌ أخوضُ في بحار (لا نهايتها)،
دون أن أفوزَ ببلوغ شاطئ المعرفة فيها!
والرى المعسول، والخفيُّ المجهول،
والأبدُ الذي لا يعتريه الزوالُ والأفول والفناءُ والذبول
هو ما تطمحُ إليه نفسي، ويبغيه قلبي،
وهو ما أوّدُ أن تكون (نهايتي) عنده، حين أقضي!
والحقُّ إنني أحتقرُ (الحياةَ) وقاطنيها،
والدنيا ومُعتنقيها!
ولكنني حيرانُ، حيران
في حل معمياتها، وإدراك مغازيها!
القدس، 28 أيار سنة 1935